إنتهيت منذ يومين من قراءة كتاب لحظات غرق جزيرة الحوت لمحمد المخزنجي و هو الكتاب الذي يصف فيه ملاحظاته عن الأيام الأخيرة للإتحاد السوفيتي قبل سقوطه. الجزء الأول من الكتاب خاص بملاحظات المخزنجي عن فترة إنفجار مفاعل تشيرنوبيل، حيث كان المخزنجي وقتها في كييف (المحافظة التي يتبعها تشيرنوبل) يدرس لنيل الدكتوراه.
ملاحظات المخزنجي ممتازة و لكنه لم يمعن في الحديث عن مدينة بريبيات، و هي المدينة التي يقع فيها المفاعل، و أحد أكثر الأشياء التي أثارت رعبي من قرائتي عنها و مشاهدتي لصورها.
لدي مشكلة في التعامل مع قصص و أفلام الرعب (أو القصص و الأفلام عموماً) هو أني في أشد لحظات تأثري بالفيلم أو القصة أنظر له علي أنه عمل خيالي، و بالتالي أنظر بعين النقد لكيفية كتابة أو تصوير مشهد أو موقف معين، مدي إحترافية المخرج و مدي التوفيق الذي حظي به المؤلف، و لهذا أفقد الكثير من لذة الفيلم التي يجدها من يندمج في الفيلم أو الرواية و يغض النظر عن جانب الصنعة فيهما.
منذ أن قرأت عن مدينة بريبات و شاهدت صورها أثارت رعبي و خيالي. أكثر الأشياء إثارة للرعب بالنسبة لي أنها مدينة حقيقية و ما فيها من صور و ما روي عنها حقيقي و ليس خيالياً. مدينة بريبيات هي المدينة التي كانت تضم مفاعل تشيرنوبل. حين إنفجر المفاعل هرب أهل المدينة منها و تركوها مهجورة حتي اليوم. المدينة التي كانت إحدي مدن الأحلام في الإتحاد السوفيتي القديم صارت في يوم و ليلة مدينة أشباح.
الصورة التي تروي عن المدينة و تحكيها الكاميرات حتي اليوم مخيفة. تخيل أن تسير في مدينة ما زالت الملابس فيها منشورة علي الحبال، مازالت الكتابات فيها علي السبورات في فصول الأطفال، مازالت فيها زجاجات الدواء بجوار الأسرة المهجورة في المستشفيات، دور السينما التي ما زالت فيها الملصقات علي الجدران، المنازل التي تمتليء بكل ما هو غال و ثمين و التي لم يكلف أصحابها أنفسهم عناء أخذ مقتنياتهم معهم، الحيوانات الأليفة التي هامت في الشوارع بعد أن تركها أصحابها، أن تسير في طريق فتجد دراجة صغيرة لطفل صغير لم يفهم لماذا عليه أن يترك وراؤه لعبه و مدرسته و بيته و أصدقاؤه و يهرب في يوم و ليلة إلي مكان مجهول، حمامات السباحة الأنيقة في مركز المدينة التي تركت ممتلئة بالمياه و التي لم يسبح فيها أحد منذ ما يزيد عن عشرين عاماً، مدن الملاهي التي صار الصمت يخيم عليها بعد أن توفقت الألعاب بها و إختفي منها أي أثر للأطفال الذين كان صخبهم يملأ المكان بالأمس .
من المرعب أن تكون إنساناً تحمل في ذهنك الهموم المعتادة لدي معظم الناس، هموم من طراز رئيسك الأحمق في العمل الذي لا يقدر كفاءة مرؤسيه، الميكانيكي الجاهل الذي يعجز عن تشخيص سبب الصوت الغريب الذي يصدر من محرك سيارتك، شجارك الأخير مع زوجتك الذي رفعت فيه صوتك و أسمعتها كلاماً جارحاً و كيفية معالجة الموقف الآن، مستوي إبنك المنخفض في المدرسة الإبتدائية و رغبتك في الحديث مع مدرسه عن سبب ذلك، الخ. أن تكون هذه هي الهموم التي تسيطر علي تفكيرك و في لحظة واحدة تتبخر هذه الهموم و تصير الفكرة الوحيدة المسيطرة علي عقلك هي كيفية الهرب من هنا بمن تحب إلي أي مكان في العالم أيا ما كان.
ما هو أكثر إثارة للرعب أن المدينة في خلال العشرين عاماً أو يزيد التي مرت منذ إنفجار المفاعل قد تعرضت للنهب. كل ما فيها تم نهبه حتي أغطية المراحيض ! علي الرغم من أن حقيقة أن السائقين الذين ساهموا في نقل السكان من بريبات قد تعرض أكثرهم للإصابة بالسرطان من جراء التعرض للإشعاع لأيام (و ربما ساعات معدودة) هي حقيقة معروفة فإن هناك من يمكنه أن يخاطر بحياته و يعرض نفسه للإشعاع القاتل فقط ليفوز ببعض المال، قل أو كثر. ما هي الحدود التي يمكن أن يتوقف عندها طمع الإنسان و رغبته في المخاطرة في سبيل المال؟
و ما السبب في هذا الرعب الذي لم يقتصر علي بضع الآف من سكان بريبات بل إمتد ليشمل العديد من مناطق العالم؟ السبب تجربة حمقاء قام بها عالم شاب خرجت عن مسارها المتوقع، هذا ما قيل و هذا ما كنت أظنه حتي قرأت كتاب المخزنجي. أشار المخزنجي إلي أنه قبل إنفجار المفاعل حدثت 72 حادثة في المفاعل تم التحقيق في 26 منها فقط ! هي إحدي مظاهر الفساد الذي ساد الإتحاد السوفيتي قبل سقوطه، و التي تضمنت الكثير من العوامل التي طال عدد لا بأس به منها المفاعل، عوامل من طراز الوساطة كعامل مؤثر في تعيين من لا يستحق و إهمال الكفاءات، الرشاوي المنتشرة في المجتمع السوفيتي، الخ.
بالتالي الإنفجار قد يكون نتيجة تجربة لم تلق من المحاذير و التفتيش ما يلزم هذه النوعية من التجارب أو قد تكون تجربة قام بها من لا يستحق التواجد في هذا المكان أساساً لانه غير كفء و ليست مجرد تجربة خرجت عن مسارها المتوقع.
هنا فكرت في مصر و الحديث عن مستقبلها النووي. ماذا لو إمتلكت مصر قوة نووية (سواء كانت سلمية أو عسكرية) بشكل ما، فهل سيمكنها إدارة هذه القوة و التحكم بها؟ بالوضع الحالي في مصر، فإن هناك إحتمالاً لا بأس به بان تعج هذه المنشآت النووية الخيالية بالجهلة من حملة الدكتوراه الذين يملئون الكليات المصرية، أن تتدخل الوساطة و الرشوة ( العاملين الرئيسيين في التعامل مع المؤسسات الرسمية و الحكومية في مصر) في تعيين العاملين في هذه المنشآت، أن يتم التفتيش علي هذه المنشآت بطريقة صورية كما هو الحال في الكثير من عمليات التفتيش التي تقوم بها الجهات الحكومية و الإشرافية في مصر. و عندها يمكن بسهولة أن نجد لدينا كارثة عالمية من الطراز الثقيل.
مقومات القوة النووية ليست فقط العلم و المواد النووية و القوة السياسية التي تسمح لك بإمتلاك هذه القوة، بل لابد أيضاً من أن يتوافر فيها القدرة علي إدارة هذه القوة النووية، القوة المتمثلة في نظام محكم لا تتدخل فيه الوساطة و الرشوة و توسيد الأمر لمن لا يستحق.
هذه بعض الصور لمدينة الأشباح (أو المدينة الذرية كما تدعي).
مباني أنيقة في مدينة الأحلام لم يستكمل بناؤها. صورة ملتقطة عام 1995
غرفة الإنتظار بإحدي المستفيات و عليها علامات الأناقة القديمة.صورة ملتقطة عام 1995
حمام السباحة الرئيسي بالمدينة لم يمسه أحد علي مدي 10 سنوات- صورة ملتقطة عام 1996
صورة لنفس حمام السباحة عام 2003. لاحظ أن النوافد و عزل الجدران و كل ما يمكن أن يسرق قد تمت سرقته
المباني التي سرق منها كل ما يمكن سرقته
فصل حضانة. مازالت الكتابات علي السبورة لم يمسحها أحد إلي اليوم
دراجة طفل صغير تركها في وسط الطريق الذي زحفت عليه النباتات و لم يمسها أحد منذ 13 عام. صورة ملتقطة عام 1999
لعبة السيارات المتصادمة و قد زحفت عليها النباتات. صورة ملتقطة عام 1994
