ذكر أحمد خالد توفيق رحمه الله أن كتاب السيناريو يرون أن هناك بضع و ثلاثون تيمة رئيسية في الروايات، كل الروايات في العالم هي تنويع علي هذه الثيمات الرئيسية. أنا لا أعرف هذه الثيمات بالتفصيل لكن أتفهم المبدأ، هناك درجة من التجريد يمكن من عندها وضع كثير من الرويات تحت نفس التصنيف. أحد الأمثلة القوية علي هذا كتاب جوزيف كامبل (البطل ذو الألف وجه) الذي يري أن معظم روايات و قصص الأبطال العظماء و الخارقين الخارقين في كل الحضارات تدور في قالب محدد متشابه.
أنا هنا لأتكلم عن ثيمة أساسية لا أعرف روايات كثيرة تكلمت عنها، هي ثيمة أن تفعل الشر بغرض الخير. أنا لا أتكلم هنا عن شر من نوعية (كذبة بيضاء) بل شر ساحق يعجز عنه الكثير من عتاة المجرمين، شر من الطراز الذي يذهب بحياة المئات و الآلاف. أنا لست خبيراً في الأدب و لست حتي ممن يمكن تصنيفه علي أن إطلاعه الأدبي كبير، لكني قرأت و شاهدت عدد لا بأس به من الكتب و الأفلام و لا أعرف روايات و أفلام تكلمت عن هذه الفكرة سوي رواية (الليل الأم Mother night) لكيرت فونيجت و فيلم أرض الخوف الذي أخرجه داود عبد السيد و قام ببطولته أحمد زكي.
إن كنت لم تقرأ الرواية أو لم تشاهد الفيلم ولا ترغب في حرق الأحداث توقف عن القراءة هنا.
في فيلم أرض الخوف نري ضابط يكلف بمهمة الوصول لمعلومات من العمق عن تجارة المخدرات. الأسلوب المألوف لدس ضابط وسط العصابات لا يصلح هنا، سيكون عليه أن يكون من أباطرة تجارة المخدرات، واحد من المعدودين علي رأس المنظومة الإجرامية ، بهذا سيتمكن من الوصول لمعلومات لا يمكن للأساليب العادية الوصول لها، و سيكون عليه أن يتسلق هذا السلم من أسفله. سيقتل و يتاجر في المخدرات و يرتكب كل الموبقات التي يتورع عنها عتاة المجرمين ليصل لهذه المكانة. سيتواصل مع الأمن عن طريق رسائل ترسل لعنوان معين.
في رواية الليل الأم نري أمريكي ترك أمريكا و هو طفل و عاش مع والديه في ألمانيا حتي صار شاباً، كاتباً للمسرحيات الألمانية. الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق فتتواصل معه المخابرات الأمريكية، بما أن كثير من مرتادي مسرحه نازيين كبار طالبة منه أن يصبح نازياً و يصل لأعلي المتسويات. هنا سيصير بوقاً لكل حقارات النازية و دعوات الإضطهاد للأجناس الغير آرية و علي رأسهم اليهود طبعاً، و سيتدرج في الرتب حتي يصير رئيسه المباشر جوزيف جوبلز شخصياً و يصل لإذاعة برلين بإنتظام حيث يقرأ في الإذاعة خطابات الكراهية و التحريض التي يتفنن في تأليفها و التي يلقي خلالها رسائل مشفرة للحلفاء. روزفلت شخصياً كان يستمع لخطبه بسعادة و إرتياح. لكن الوعد كان واضحاً من البداية أنه في أحسن الأحوال إن لم يمت في الحرب فإن أفضل ما يمكن للأمريكان القيام به هو إنقاذه من الشنق، لن يكون هناك تكريم، لن يعيش كبطل بل سيتخفي ما بقي من العمر.
في القصتين لابد أن نتساءل عن ما الذي جعل البطل يستطيع فعل هذا؟ علام كان يستند نفسياً؟ عادة الأشرار في القصص أشرار من اللحظة الأولي للأخيرة بدون تبرير مثل فيلم الوجه ذو الندبة Scarface أو يتدرجون في الشر بسبب الظروف أو الأحداث المحيطة بحياتهم مثل فيلم الأب الروحي، لكن شخص عادي تقليدي فجأة عليه أن يمارس كل هذا القدر من الشر، علام يعتمد و من أين يستمد القدرة؟
في فيلم أرض الخوف نري أن التواصل المستمر مع الأمن كان الوسيلة التي يعتمد عليها البطل في التفرقة بين الخير و الشر. حين تنقطع الرسائل التي تصله من الأجهزة الأمنية تدريجياً يبدأ في فقدان البوصلة و تهتز الأمور في وجدانه، يحب تاجر المخدرات فيه راقصة و يحب الظابط فيه مهندسة معمارية و هو يعرف الفارق بين الشخصين الذين يسكنون تفكيره ثم تدريجياً حين ينقطع الإتصال بالأجهزة الأمنية تبهت الفوارق ولا يعرف تحديداً دوافع كل فعل في نفسه. البعض يحلل القصة علي أنها تمثيل لحالة الإنسان علي الأرض الذي بدأ في الضياع و التيه حين إنقطع وحي السماء إليه الذي كان يصله بإنتظام عبر الأنبياء، و ربما يؤكد هذا أن الضابط كان يكتب الرسائل و يرسلها للأجهزة الأمنية بالإسم الكودي (آدم). علي الرغم من أن حوار الفيلم و تفاصيل أحداثه ركيكة و مبتورة في رأيي إلا أن هذا الحديث العبقري علي لسان البطل إسثناء لركاكة الحوار ينقل هذه اللحظة المحورية: " أنا لما ابتديت المهمة كنت قادر أشوف كل حاجة بوضوح، كنت متأكد من اللي أنا باعمله. بعد كده ابتديت أحس إن أنا باشوف الصورة من ورا لوح إزاز، وبالتدريج ابتدت تتكون طبقة كده زي التراب. المشكلة إن التراب ابتدى يزيد لدرجة إن أنا ما بقيتش شايف أي حاجة صورة ضبابية. الذكريات إختلطت مع الأحلام مع الأوهام مع الحقايق. الفترة الأخيرة بقيت أحلم بكوابيس وأصحي خايف مش عارف ليه. بقيت أحس إن محكوم علي بالوحدة متعلق في الهوا لا قادر امسك حاجة إيديا ولا فيه أرض تحتي. بقيت أسأل نفسي سؤال: أنا ليه بقيت كده".
لا أعرف إن كان هذا ما قصده المخرج فعلاً أم أن هذه إستنتاجات لكن الفكرة عبقرية. محمد قطب تكلم عن فكرة مماثلة قائلاً إن هذا تحدي أمام المسلمين لم يكن موجوداً أمام المسلمين الأوائل، في الماضي كان الرسول عليه الصلاة و السلام مرجعية يفرق بين الصواب و الخطأ و من أطاعه فهو مصيب و من عصاه فهو مخطيء، لكن بوفاته ظهر إحتمال آخر أن يكون إثنان من المسلمين مختلفين خلاف الشرق و الغرب و كلاهما مخلص النية و لا يمكنك بشكل قاطع حاسم أن تثبت خطأ أحدهم و صواب الآخر.
في رواية الليلة الأم نري أن البطل كان يعتمد علي فكرة أن حياته تتمحور حول حبه لزوجته. العمل لصالح الأمريكيين و إدعاء أنه نازي، كل هذا مجرد لعبة. أمريكا و المانيا و السوفيت و سواهم دول تلعب مع بعضها البعض لكنه هو عنده دولة خاصة به مكونة منه هو و زوجته. زوجته ممثلة مسرح تقوم ببطولة المسرحيات التي يكتبها و هي كل حياته، هو و هي أمة من شخصين و ليحترق باقي العالم. هو يستمتع باللعب مع الحلفاء و إدعاء أنه نازي لكن في النهاية ما يهم هو حياته مع زوجته. مشكلتي مع الرواية هنا أن زوجته كانت نازية و هو كان يتكلم عن الأمر بإستخفاف، يقول أننا كنا نردد نفس الكلام المجنون الذي يردده الناس حولنا لكن الكلام نفسه و معناه لا قيمة له ولا أهمية، كل ما كان يهم هو أنه تواصل بيني و بينها، لا يهم الموضوع لا يهم الأفكار فلو تحول الكلام لهمهمات غير مفهومة لما مثل فارقاً كبيراً. هذا في رأيي مستوي خارق من إنعدام الأخلاق كبداية، أن يستوي لديه أن تكون زوجته نازية أو غير نازية، أن تكون مؤمنة بقتل الناس بالملايين من أجل هراء عنصري أو تؤمن بالحق و الخير و المساواة، فقط المهم هو أنه يحبها و هي تحبه. الحب ليس كيان مجرد منعزل عن كل شيء و أي شيء و نحن لا نتحدث هنا عن عيب بسيط في الشخصية ولا عن زلة عابرة، بل عن أيديولوجيا تؤيد أسوأ الأفعال التي عرفها البشر و هي القتل بالجملة. هذه نقطة مرت بدون تبرير ولم يرسم لها الكاتب مقدمات في بناء الشخصية تجعلنا نفهم كيف يصل المرء لهذه النقطة
لا يترك لك كيرت فونيجت المجال للإستنتاج و تحليل المغزي الأخلاقي و التأثر بمختلف المشاعر في القصة التي تحتوي الكثير بل يفرضه عليك في المقدمة. في مقدمة الكتاب يقول فونيجت أنه لا يؤمن عادة بأن الرويات يجب أن يكون لها عظة و مغزي أخلاقي لكن هذه الرواية إسثناء، و المغزي منها هي أننا نصير فعلياً ما نتظاهر بأننا عليه. أنا لا احب الرمز و المغازي و الأفكار المفتوحة علي مصراعيها و المثال الأكبر الذي أذكره دوماً هو مثال رواية أولاد حارتنا التي قال عنها نجيب محفوظ أنها ترمز لإن الناس حين تخلت عن الدين و أكتفت بالعلم ضاعت بينما قالت اللجنة المانحة لجائزة نوبل أنها رواية عظيمة لإنها ترمز لموت الإله. هذا مستوي ساحق من الإفراط في الرمزية يتجاوز قدرتي علي تقبله، أن يفهم الشيء و نقيضه من نفس الرواية. لكن في المقابل أري أن رواية فونيجت تحتمل الكثير من الأفكار و المشاعر و العبر التي تتجاوز فكرة أننا نصير ما نتظاهر به.
تصبح زوجة البطل في عداد المفقودين بعد غارة سوفيتية علي الجبهة تمت أثناء أداؤها عرض مسرحي لتسلية الجنود علي الجبهة. لا أحد يعرف إن كانت ماتت أو أسرها السوفيت. الحرب طالت الأمة ذات الشخصين.
البطل لا يعرض أي مشاعر و لا ينتقد أي فكرة، الرواية تحكي علي لسان البطل بعد عشرين عاماً علي إنتهاء الحرب و هو يتكلم فيها بشكل تقريري لا مشاعر فيه، قتلت مشاعره بعد أن فقد زوجته علي حد وصف أحد الشخصيات له و صار مجرد إنسان لا يشعر سوي بالفضول، تمر به الأحداث و الأشخاص و النوائب و يصفها بطابع رسمي تقريري و لكنك تري إفلات مشاعره في بعض المواقف البسيطة، حالة supression شديدة. في ميكانيزمات الدفاع التي يستخدمها العقل للتعامل مع الأفكار و الذكريات المؤلمة التي لا يستطيع تحملها نري إثنان يتم الخلط بينهما كثيراً و كلاهما يمكن ترجمته للعربية بالكبت. الأولي هي repression وهي الكبت اللا إرادي، عدم التذكر للأحداث السيئة و التعامل و كأنها لم تحدث تقريباً. الثانية هي الأصعب و هي ال supression، و هي أن تكبت المشاعر السيئة دون أن تنكر الأحداث فتتكلم عن الأحداث السيئة و الذكريات المؤلمة بأسلوب تقريري علمي جاف. البطل كان حالة من النوع الثاني، يتكلم عن كل ما حدث بتقرير علمي ولا يذكر في لحظة واحدة أني شعرت بكذا أو كيت و لكن الألم ينضح من المنطق نفسه و من أسلوب الكتابة.
بعد الحرب يتم القبض عليه علي يد جندي أمريكي مغمور لكن المخابرات الأمريكية تتدخل و تهربه و يعيش متخفي وحيد في شقة حقيرة في نيويورك لعشرين عاماً. لكن بشكل ما يعثر عليه مجموعة من القوميين المتطرفين الذين يعادون السود و اليهود و الكاثوليك و أي شخص غير بروتستانتي أبيض. بالنسبة لهم هذا الشخص بطل لأنه صاحب مجموعة من الأفكار العنصرية التي تتوافق مع أفكارهم المريضة. كثير من أفكارهم أصلاً تعلموها من خطبه التي كانوا يسمعوها أثناء بثها من راديو برلين و التي سجلوها و مازالوا يتداولونها حتي اليوم. يثور الكثير من اللغط بسببهم و يلفتوا إنتباه الأمن و المخابرات.
هذه واحدة من اللحظات التي خانه فيها كبت مشاعره. ظهر هذا في أنه تفنن علي مدي صفحات في بيان كم أن أفكارهم شديدة الغباء و الحمق. لكيرت فونيجت أسلوب مألوف في بيان سفاهة البشر عموماً في مختلف جوانب الحياة برص أفكارهم المتناقضة جنباً إلي جنب دون تعليق عليها و الحديث بشكل علمي جاف إلا أنه يجلب الإبتسام من كم التناقض و الهراء الذي يميز البشر عموماً. نفس الأسلوب هنا ظهر علي لسان بطل القصة. المشكلة أن كثير من أفكار هؤلاء المتطرفين و الأساطير أو الشائعات التي يعتنقونها كانت من تأليفه هو شخصياً! كان بشكل ما يتعمد أن يبالغ في سخافة أفكاره و شائعاته عن اليهود و الأجناس الأخري كنوع من الرغبة في أن لا يأخذه أحد علي ماخذ الجد فيفاجأه أن النازيين و المتطرفين حول العالم صدقوا أفكاره و أستحسنوها و صارت من أسسهم الأيديولوجية التي يتم تدريسها للجنود و الظباط و تدريبهم عليها. كان يحاول أن يكون سخيفاً فقط لكن كان من الصعب علي الناس أن تري سخفه لأنهم عاجزين عن السخرية و عاجزين عن التفكير و في نفس الوقت مستعدين للإيمان الأعمي و الكراهية الجاهزة. الناس كانت تريد أن تصدقه. يشبه البطل المهووسين القوميين و العنصريين بأنهم مثل ساعة حائط من التي يخرج بها عصفور ميكانيكي ليصيح كل ساعة، تعمل بالتروس لكن تروسها ليست منتظمة، بالتالي يمكن للساعة أن تسير بشكل سليم لبضع ساعات ثم تقف لفترة ثم تقفز فجأة إلي توقيت غريب و يخرج العصفور ليزقزق زقزقة مبتورة و يدخل قبل أن ينتهي، الخ. أفكارهم تسير بإنتظام لبعض الوقت لكن تروس عقلهم تفتقد بعض السنون، و هذه السنون هي حقائق يعرفها أي طفل في العاشرة من العمر. هم تخلصوا من هذه الحقائق طواعية أو بسبب جهل أو غباء لكن النتيجة أنهم بخلاف أي شخص عادي يمكن أن تناقشة و تختلف معاه لكن أفكاره تسير بإنتظام من نقطة للأخري فهؤلاء أفكارهم تقفز من هنا لهناك و تتعارض مع بعضها و تقف عاجزة تماماً أحياناً أخري كساعة الحائط التي وصفناها لكنها ساعة تدور في الجحيم.
في أثناء سجنه في إسرائيل قرب نهاية قصته يقابل البطل أدولف إيخمان مقابلة عابرة. يخبره إيخمان بثقة بأنه يعد لنفسه دفاعاً عبقرياً كفيل بهدم القضية فيعبث به قائلاً دعني أخمن قليلاً، و يتظاهر بالتفكير ثم يقول له ستخبرهم بأنك كنت جندي تطيع الأوامر و تنفذ التعليمات، اليس كذلك؟ هنا ينفجر إيخمان غاضباً في جنود السجن قائلاً لقد تلقيت وعوداً أن أوراق الدفاع التي أعدها سيتم التعامل معها بخصوصية و سرية حتي موعد المحاكمة. الأحمق كان يظن أنه جاء بفكرة عبقرية لم يسبقه إليها أحد بينما البطل كان يعرف الأفكار الغبية التي تملأ عقل النازيين و من شابههم من مهاويس القومية في جميع أنحاء العالم و قد وجد أنه من اللطيف أن يتلاعب به قليلاً برغم من كل ما يحيط به من محاكمة و سجن و هرب.
في هذه المواقف كان البطل يتسرسل في بيان مدي سخافة و غباء هؤلاء الأشخاص و تشابه تفكيرهم المريض عبر الدول و عبر الأزمان، شارحاً أنهم أغبياء بإرادتهم أو رغماً عنهم لكنه ليس مثلهم. هو واعي و عاقل و لا يستوي بهم حتي إن كان من الخارج يبدو مثلهم بل و يعتبرونه قدوة و بطل. هذه أحد الرغبات و المشاعر التي خانه فيها كبته، فظهر واضحاً رغبته الشديدة في الصراخ (أنا لست مثلهم).
في العشرين عاماً التي تلت الحرب صار الجندي المغمور الذي قبض عليه شخصاً فاشلاً، أنجب الكثير من الأبناء، ليس لديه عمل محترم، سكير غارق في الديون. عندما عرف بأن البطل لم يتم إعدامه بعد الحرب بشكل ما قرر أن هدف حياته هو أن يعثر عليه و يقتله بعد أن إختفي من يد السلطات و لم يتم شنقه - تذكر أن الأمريكيين أقروا بوعدهم و لم يعلنوا عنه كبطل قومي ولا عن دوره في الحرب، فقط أخفوه في نيويورك و رفعوا أيديهم عنه. هنا يقرر هذا الجندي أن هذا هدفه، أن يقتل بطل القصة، الصورة التامة للشر في رأيه، الشيطان شخصياً. ليزيد الطين بلة فالسوفيت حاولوا أيضاً الوصول له و القبض عليه و ترحيله للإتحاد السوفيتي للعب به كورقة ضغط سياسية لإظهار نوعية الأشخاص الذين تؤيهم أمريكا. بالإضافة طبعأً لإسرائيل التي طلبت تسليمه لأن محاكمة النازيين في إسرائيل وقتها كانت موضة بسبب قضية أدولف إيخمان. دوامة من الأحداث التي أنفجرت كلها في نفس الوقت.
هذه صورة لما قصده فونيجت بأننا نصير ما نتظاهر به، هو تظاهر بأنه نازي فصار فعلاً نازي و حياته مثل حياة نازي، حتي و إن كان بداخله ليس كذلك لكن في النهاية ما تظاهر به وصم حياته و حددها و لم يستطع أن يخرج منها أبداً. في فيلم أرض الخوف نري فكرة مشابهة، فعلي الرغم من أن هناك وثيقة موقعة من وزير الداخلية و مدير المخابرات تفيد بأن بطل الفيلم ضابط يعمل لصالح أجهزة الأمن مما شكل تأميناً له من العقاب علي جرائمه، لكن بعد أن صار من كبار تجار المخدرات في البلد صار من المستحيل إعلان أنه يعمل مع الأمن لأن تجار المخدرات الآخرين سيقتلوه، بالتالي يعيش ما بقي من العمر متخفياً خائفاً من القتل هارباً مثل المجرم الحقيقي، و مصيره لم يختلف كثيراً عن مصير المجرمين الذين تظاهر بأنه منهم.
لكن في رأيي أن الفيلم تعرض بشكل أوضح لفكرة إهتزاز مفاهيم الصواب و الخطاً و ما هو مصدر كل فعل يقوم به البطل، هل الشر الذي يقوم به فعلاً شر خالص من الرغبة الشخصية أم أن جزء من شخصيته أستمتع بالشر و أتقنه و أجاده و مارسه برغبة. في رواية الليل الأم نري تلميحاً لهذا فقط في موقف عابر عند لقاء ضابط المخابرات الأمريكي بالبطل بعد الحرب و بعد أن تم القبض عليه حيث أخبره أن هناك معلومات لا أستطيع أن أخبرك إياها لإني لا أثق بأنك معنا تماماً، لا يمكن أن أصدق أنك نجحت هذا النجاح الساحق دون أن يوجد في داخلك بذرة نازي حقيقي تجيد و تستمتع بما تفعل، ألا تري هذا معي؟ هنا يسكت البطل ولا يجيب. هذه هي اللحظة الوحيدة التي تعرضت فيها الرواية لهذه الفكرة و التي أري أنه يمكن أن تقوم عليها رواية كاملة مستقلة.
في نهاية رواية الليل الأم يسعي البطل لأن يخرج من دائرة الحياة كنازي هارب بأن يتم تسليمه لإسرائيل لمحاكمته. هذا هو المخرج الوحيد من هذه الدائرة التي تحيط به و ينجح في هذا فعلاً لكن ضابط المخابرات المسئول عنه و الذي تقاعد منذ زمن يخالف التعليمات و يخرج عن صمته و يرسل بوثائق رسميه لسجنه في إسرائيل تثبت أنه بطل أمريكي و كان يخدم الحلفاء خدمة عظيمة. هنا يشعر أن خروجه للحرية صار وشيكاً و هي فكرة لا يستطيع أن يتمحملها، كان السجن أو الإعدام مهربه من الحياة كنازي و الآن يري نفسه علي وشك الخروج مرة أخري ليحيي كنازي سابق حتي لو لم يكن نازياً فينتحر البطل محاكماً نفسه بنفسه و مديناً نفسه بتهمة إرتكاب جرائم ضد نفسه، في تنويع علي الإدانة المعتادة للنازيين بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية. لقد ظن أن حياته الشخصية و أمته المكونة من شخصين لن تتأثر بلعبة الجاسوسية لكنه دمر حياته بنفسه.
فونيجت لا يلقي شهرة في العالم العربي برغم من شهرته الساحقة في الغرب و رواية الليل الأم رواية رائعة علي مآخذي عليها و أعتقد أنها جديرة بترجمة محترمة للعربية. و الفكرة العامة لفعل الشر من أجل الخير هي فكرة تحتمل الكثير و الكثير من المعالجات و التنويعات و تفتح الباب للكثير من التأمل في النفس البشرية و الحياة عموماً.