في عالم الأشباح الجائعة

خواطر حول الكتاب و موضوع المخدرات عموماً

إنتهيت من شهر تقريباً من قراءة كتاب (في عالم الأشباح الجائعة In the realm of hungry ghosts) للطبيب الكندي جابور ماتيه بناء علي ترشيح شادي عبد العزيز للكتاب في بوست علي فيسبوك. الكتاب كان بالنسبة لي الحلقة الأخيرة من ضمن سلسلة طويلة من الأفلام الوثائقية و الكتب التي قرأتها مؤخراً حول موضوع المخدرات بسبب عودة إهتمامي بالموضوع، نوبة من نوبات الإهتمام بموضوع ما تنتقل من موضوع للآخر مع الوقت.

أول مرات تعرضي لمعلومات عن المخدرات التي أتذكرها بوضوح كانت في نهاية المرحلة الإبتدائية / بداية المرحلة الإعدادية - كانت مدرستي تضم كل مراحل التعليم و ظللت في نفس المدرسة من الحضانة و حتي إنتهاء التعليم الثانوي. كانت مدرستي في العباسية و كان بابها الرئيسي يواجه الباب الجانبي لإدارة مكافحة المخدرات، التي كانت واحدة من عدة مؤسسات تابعة للداخلية كلها تقع بجوار بعضها في العباسية في الماضي مثل كلية الشرطة. إحدي الفتيات في المدرسة كانت إبنة لرائد في إدارة مكافحة المخدرات و قامت إحدي الأخصائيات الإجتماعيات بإستغلال الفرصة و نسقت معه عدة أنشطة لتعريف الأطفال بالمخدرات. بالتالي علي مدي سنتين أو ثلاثة جاء الرائد إلي مدرستنا مرة ليلقي محاضرة في مكتبة المدرسة و قمنا بزيارة إدارة مكافحة المخدرات مرتين وكنت من الطلبة المختارين للثلاث أنشطة. في الزيارتين لإدارة مكافحة المخدرات كان البرنامج أننا ندخل لقاعة محاضرات فاخرة التجهيزات لنسمع محاضرة منه، ثم نشاهد فيديو يضم عمليات ظبط حقيقية و تسجيل حقيقي لمدمنين في حالة هياج بسبب إنسحاب المخدر و تدريبات للظباط علي إطلاق النار و ما شابه، ثم نذهب للمتحف. المتحف هو غرفة كبيرة مفروشة بسجاد أحمر يضم عينات من كل أنواع المخدارت التي يمكن التفكير فيها في فاترينات زجاجية و تحت كل منها بطاقة تعريف مكتوب عليها نوع المخدر و “ظبط في القضية رقم كذا لسنة كذا”، و كان هناك أيضاً أشياء تم إستخدامها في محاولات التهريب مثل تليفزيون حاول المهربون وضع مخدرات داخله. كانت هذه لحظات من الإنبهار الخالص بالنسبة لي.

محتوي المحاضرات و فيلم الفيديو كانوا مكررين في كل مرة، و كانت معلومات بسيطة للغاية، لكني مازلت أتذكر أن أول مرة عرفت فيها معلومات أساسية عن المخدرات مثل تصنيفها لمخدرات من مصدر طبيعي أو صناعي و مثل تقسيمها لمهبطات و منشطات و مهلوسات كانت في هذه المحاضرات.

فيما بعد صار الموضوع جذاباً بالنسبة لي و علي فترات متباعدة أمر بنوبات قراءة أو مشاهدة الأفلام الوثائقية عن المخدرات، أخرها كان العام الماضي، و التي إنتهت بكتاب جابور ماتيه. ماتيه طبيب يعمل ككبير الأطباء في مراكز خيرية مخصصة لرعاية مدمني المخدرات في فانكوفر، كندا. أنا تركت مصر من أكثر من عشر سنوات قضيت منها سبع شهور في فانكوفر و الباقي في هولندا. يقدم جابور ماتيه نماذج من مرضاه و يحكي عن ما يقابله في شوارع فانكوفر. هذه لحظات تلمسني بشدة، الشوارع التي يتكلم عنها في وسط البلد هي شوارع كنت أعبرها يومياً في أثناء الذهاب و العودة من العمل. مدمني فانكوفر هي علامة من العلامات التي تركتها المدينة في نفسي.

يظن الناس أن هولندا هي مركز إدمان المخدرات في العالم بسبب أنها من أوائل البلدان التي كانت تبيح المخدرات الخفيفة مثل الماريجوانا و الحشيش، و هي صورة كليشيهة تشبه صورتها كمدينة للدعارة بسبب تقنين الدعارة و وجود منطقة تنتشر فيها بيوت الدعارة في قلب المدينة. هذه أشياء يمارسها السياح أكثر من أهل المدينة أنفسهم، الهولنديين يحبون الحرية فلا يحبون تقييد الدعارة ولا المخدرات لكن في نفس الوقت هم ينظرون لأنفسهم علي أننا مسئولين و لسنا مجموعة من الخرقي الذين يقضون حياتهم في تدخين الحشيش و الدوران علي بيوت الدعارة، بالتالي يكرهون السياح الحمقي الذين يأتون المدينة لهذه الأشياء و يعيثوا في المدينة فساداً، حيث تصير المخدرات و الدعارة جزء من صورة كلية من حماقات السياح و إزعاجهم بجانب السكر و الصخب ليلاً في الشوارع و التبول بجوار الجدران و ما شابه من سلوكيات، و تحاول عمدة المدينة تقليل السياحة بشكل عام و نقل منطقة الدعارة لأطراف المدينة لكن أهل الأطراف هم أيضاً يرفضون نقل هذه المنطقة عندهم! هذه ثمرة بطاطس ساخنة hot potato كما يقول التعبير الغربي، شيء لا يريد أحد أن يمسكه و يلقيه كل طرف للآخر. بالتالي لو خرجت خارج قلب المدينة السياحي فلن تجد المخدرات و الدعارة بالشكل الذي تظنه. هي أشياء تجتذب السياح الحمقي بالتالي يبيعونها لهم بالكوم.

مشكلة هولندا مع المخدرات مشكلة لوجيستية: هولندا تقع في أقصي غرب أوروبا و فيها ميناء روتردام، الذي كان في وقت ما ثاني أكبر ميناء في العالم و هو أحد منافذ التجارة الرئيسية بين أوروبا و الأمريكتين. بالتالي الطبيعي أنه أيضاً أحد المنافذ الرئيسية في دخول الكوكايين القادم من أمريكا الجنوبية لأوروبا و منها لآسيا، و هو منفذ لعبور الأفيون الأفغاني و مشتقاته (هيروين و مورفين) للأمريكتين. نفس الشيء يقال عن الجارة بلجيكا و ميناء أنتويرب. تذكر أنه بعد إنزال نورماندي و عندما فكر الحلفاء في كيفية إرسال آلاف الدبابات الأمريكية و الإنجليزية و ملايين الإمدادات لأوربا لتشارك في الحرب، كانت هذه هي الموانيء الأساسية المرشحة للقيام بهذا الدور و تم إختيار الموانيء البلجيكية في النهاية. هذه هي منافذ الأمريكتين إلي أوروبا منذ الأزل.

بالتالي كما لك أن تتوقع هذه الموانيء تعبر منها كميات مخدرات مهولة تتجاوز إستهلاك الشعب الهولندي أو البلجيكي. ظبطيات الكوكايين المألوفة في هذه الموانيء تكون بالأطنان، و هو مستحيل أن يكون لتغطية إستهلاك هولندا التي يبلغ عدد سكانها كلهم 17 مليون، هذه كميات تستهدف كل أوربا و آسيا فيما بعد. لكن المشكلة ان الكثير من العصابات تعمل في هولندا و بلجيكا كما هو متوقع، و هي عصابات تضم مجرمين من جنسيات متعددة و هي ما تمثل المشكلة الحقيقية للمخدرات في هولندا. تفجيرات في إطار نزاعات العصابات مع بعضها البعض، إغتيال أشهر صحفي إستقصائي هولندي في قلب أمستردام بعد خروجه من إستديو تلفزيوني في عز النهار لإنه كان يساعد شاهد علي وشك الشهادة علي رئيس عصابة كبيرة، و أشياء من هذا القبيل، لكن الشعب الهولندي لا يعاني من مشكلة إستثنائية في إدمان المخدرات.

لكن فانكوفر قصة أخري. المرة الوحيدة التي رأيت فيها علي الطبيعة شخص يتعاطي مخدرات ثقيلة كانت في قلب فانكوفر بعد خروجي من صلاة القيام في رمضان، شخص جالس علي الأرض قرب باب المسجد يحقن نفسه في أوردة قدمه. خبر عادي في الصحف يقول إن الناس لا تستطيع التنزه في حديقة كذا و الجلوس علي العشب بسبب كثرة السرنجات الملقاة علي النجيلة و قد بدأ متطوعين حملة لجمع هذه السرنجات. زوجتي تأخد إبني لكافيه صغير للأطفال فتجد في الشارع سيدة تبدو عليها علامات الإدمان و تطلب منها أن لا تتركها لوحدها و أنها خائفة و زوجتي لا تعرف ماذا تفعل بالظبط أو مم هي خائفة. هذه كانت المشاهد المتعلقة بالمخدارات التي تراها في فانكوفر و ليس مجموعة من السياح الحمقي يدخنون الماريجوانا كما في أمستردام.

بالتالي يمكنك أن تتخيل كيف لمسني كلام جابور ماتيه عن مرضاه في فانكوفر، الشوارع التي يهيمون فيها و التي يقع فيها مقر عمله، و هي الشوارع التي كنت أعبرها يومياً أثناء ذهابي و عودتي من العمل، شوراع وسط المدينة في فانكوفر طويلة جدا و متعامدة علي بعضها، بالتالي بالرغم من كون قلب المدينة في فانكوفر كبير للغاية و اني لم أكن أعمل بالتحديد بجوار مكان عمله إلا أني كنت أقطع هذه نفس هذه الشوراع بحكم طولها و إمتدادها و اراها علي لافتات المترو و الأتوبيس. أنا كنت هناك و أعرف ما تتكلم عنه.

يتميز كتاب جابور ماتيه بأنه يتكلم عن الإدمان عموماً، و بالرغم من أن إدمان المخدرات هو نوع أساسي وشديد الخطورة إلا أنه ليس الإدمان الوحيد، هناك إدمان سلوكيات معينة، بداية من القمار و إنتهاء حتي بتصفح الفيسبوك، و الكتاب يتكلم عن الإدمان عموماً لأن القواسم المشتركة بين هذه الإدمانات واحدة. المؤلف يضرب أمثلة بكثير من المرضي لكنه أيضاً يضرب مثال بنفسه كشخص مدمن علي شراء إسطوانات الموسيقي الكلاسيكية.

يتميز الكتاب بأنه يتكلم عن المخ و تطوره بشكل طبيعي، كيف تساهم التربية السليمة في تطور أجزاء من المخ و النواقل العصبية، الكلام مفصل لدرجة كبيرة و بأدلة من تجارب و أبحاث عديدة علي الإنسان و الحيوانات. بالرغم من كلام الكثير من الناس عن أن التربية السليمة تؤثر علي الشخصية بكذا و كذا إلا أني لم أر من ربط بين التربية السليمة و بين العلامات التي تظهر علي فسيولوجيا المخ بهذا الشكل من قبل. هذه ليست فقط ملاحظتي الشخصية، الكاتب يتكلم عن أن 12 في المائة فقط من المدراس الطبية في العالم الغربي تشرح كيف ينمو المخ و يتطور بشكل سليم، كلهم يشرحون علامات إختلال المخ لكن القليل منهم فقط هم من يشرحون كيف ينمو المخ السليم و كيف يؤثر كل عامل من عوامل التربية علي هذا النمو.

يتكلم الكتاب بشكل أساسي عن أن سوء التربية يجعل المرء عرضة للإدمان، مع ربط كيف يؤثر سوء التربية بالقهر و التحرش و الإيذاء و الإهمال علي فسيولوجيا المخ و كيف يعمل الإدمان مع فسيولوجيا المخ الغير سوي. المخ السوي لا يكون عرضة للإدمان بسهولة حتي لو تعاطي الشخص مواد مخدرة يمكنه التوقف عنها بسهولة، الإدمان وسيلة للهروب من الألم النفسي في المقام الأول. ينتقل الكتاب للمجتمع ككل، ما الذي يجعل المجتمع الحديث عاجز عن توفير ما ثبت بالعلم أن الطفل يحتاجه لينمو مخه بشكل سليم فسيولوجيا؟ الطفل يحتاج لرعاية لا يمكن أن توفرها له الحضانة في سنين عمره الأولي لكن المجتمع يرسم صورة يذهب فيها الأب و الأم للعمل لساعات طويلة. بالإضافة لهذا دور الأسرة الكبري (الأجداد و الجدات و الأعمام و الخالات) تلاشي تقريباً، الأسرة الكبيرة التي كانت تعيش بجوار بعضها و تشترك كلها في رعاية الأطفال لم تعد موجودة. لا يمكنك أن تجمع هذا مع ذاك: غياب الأسرة الكبيرة و أب و أم يتركان الطفل لساعات عمل طويلة. بالإضافة لهذا يتكلم عن المجتمع الذي فيه يحوز السكان الأصليون للقارة النسبة العظمي من مدمني المخدرات بسبب الإنتهاك الذي تعرضوا له علي مر السنين من المهاجرين البيض، و هو الإنتهاك الذي ورث التشوهات النفسية عبر الأجيال - قدم الكاتب الكثير من الامثلة التي يتوارث فيها الأبناء الأدمان من الأباء عبر ما يصل أحياناً اربع أجيال!

يتكلم الكتاب أيضاً عن فكرة غير مألوفة: التعاطي الآمن. هذا شيء عرفته في كندا: مراكز تعطي المدمنين سرنجات نظيفة تحد إنتشار الأمراض و تسمح لهم بالتعاطي مع مراقبتهم لتجنب أن يدخلوا في نوبة الهبوط بسبب جرعة زائدة. بجانب طبعاً مساعدة من يرغب في التوقف عن الإدمان إلا من لا يمكنه التوقف فإنهم يتعاملون معه باسلوب تقليل الضرر قدر الإمكان. أيضاً، لو قبلنا فكرة إن السبب الأساسي للإدمان نفسي، فإن إعطاء المدمن مساحة من الإحترام و التقدير تسمح بفتح طرق للتواصل معه و بالتالي مساعدته فيما بعد علي التوقف تماماً عن الإدمان إن كان هناك فرصة لهذا.

الفكرة المقابلة لهذا هي فكرة الحرب علي المخدرات و هي ما لم يتعمق الكاتب في شرحه في رأيي، أو ربما لأني كنت أقرأ و أشاهد الكثير عن هذه النقطة في الشهور الماضية شعرت بأنه لم ينقل الصورة بشكل ناجح تماماً.

الحرب علي المخدرات فكرة ظهرت بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي، لابد للأمريكيين من حرب ما يبيعوها للناخبين و الحرب علي المخدرات هي أحد أسوأ ما جاء به ريجان، و كأن ريجان لا يكفيه سياساته المالية و الإجتماعية التي ما زال الأمريكيين يعانوا منها حتي اليوم. بشكل ما كل ما جاء من وراء ريجان كان كارثي حتي تشعر و كأن الرجل كان يصمم هذه الكوارث بدقة عامداً. فكرة الحرب علي المخدرات أننا سنقوم بمعركة ضد تجار المخدرات حتي في منبعها الرئيسي في أمريكا الجنوبية. يقدم جابور ماتيه أرقاماً ليثبت أنها فكرة فاشلة، من بداية الحرب علي المخدرات و كمية المخدرات التي يستهلكها الأمريكيين في إزدياد بالغ. لو سلمنا بأن سبب المخدرات نفسي في المقام الأول فإننا علينا أن نتسائل عن ما هي العوامل التي تجعل هذا المجتمع ينتج هذا الكم من الناس المريضة بشكل يجعها عرضة للإدمان. لا يمكنك معارضة قوانين العرض و الطلب، هذه تشبه معارضة قوانين الفيزياء، و علي الجانب الأمريكي هناك طلب علي المخدرات و الحل هو أن تلغي هذا الطلب من الأصل بإلغاء العوامل التي أدت لأن يكون هناك طلب علي المخدرات. للمفارقة فاللحظة التي بدأ من عندها إحتياج الأسرة الأمريكية لدخل الأبوين حتي تستطيع أن تعيش بدأت في عهد ريجان في تحليل الكثيرين. لكن هذا المستوي من المناقشة شيء لا يمكن بيعه للناخب الأمريكي بالطبع لكن الحرب بكليشيتها و تبسيطها و إعلانات قصيرة تظهر فيها نانسي ريجان و هي تقول (فقط قل لا just say no) يمكن بيعه بسهولة لرجل الشارع الأمريكي. هناك سوق للمخدرات في هذا المجتمع و لكن أحداً لا يرغب في إثارة هذه النقطة بل و وضع السياسيون الأمريكيون ضغوطاً علي الكنديين من أجل إيقاف برامج الإستخدام الآمن للمخدرات لأنهم لا يرغبون في أن تنتشر الفكرة في الأراضي الأمريكية!

ما لم يقله جابور ماتيه أن فكرة الحرب لن تمثل فارقاً مع مجتمعات أمريكا الجنوبية المعدمة التي هي نفسها في حروب دائمة. علي سبيل المثال خذ هذه الواقعة: ضابط أمريكي قام بعمل رائع و إستطاع أن يصل لمخزن أسلحة و مخدرات ضخم لعصابة كبيرة، ساعد الجيش المكسيكي و قام الجيش بمهاجمة المخزن و يكبد العصابة خسائر مهولة. هنا قامت العصابة بمهاجمة أقرب مركز تدريب و قتل عدد مهول من مجندي الجيش الذين يدور سنهم حول ال 18 عام بدون تمييز و بدون أن يكونوا شاركوا في الحملة علي مخزن هذه العصابة ! الضابط ما يزال نادماً علي ما فعل حتي الآن و يعاني من الكوابيس و يقول صراحة أنه لو كان يعرف أن هذه ستكون النتيجة لما قام بعمله.

متوسط عمر رجال المخدارت في أمريكا الجنوبية أقل من 40 عام. بدون أي (حرب) من الأمريكيين هم يقتلون بعضهم البعض في صراعات علي مناطق النفوذ و صراعاتهم مع الشرطة.في الأفلام الوثائقية يقول كثير منهم أنه لا ينام الليل بسبب كمية القتل و التعذيب التي رآها، هم مجرد مسوخ بشرية ليس لديها ما تفقده. إن كان لديك ما تفقده أيا ما كان: سلامك النفسي، نومك بالليل هادئاً، مبدأ أخلاقي لا تستطيع كسره، الخ، فأنت خاسر أمامهم لا محالة.

في فيلم (سيد الحرب lord of war)يلعب نيكولاس كيدج دور تاجر سلاح. في زيارة لإحدي دول أفريقيا التي تمزقها الحرب و يحكمها ديكتاتور دموي مجنون، و بعد الإتفاق علي صفقة سلاح مع الديكاتور، يذهب تاجر السلاح لفندقه فيرسل الديكتاتور له فتاتي ليل لتسليته علي سبيل الهدية. يعتذر تاجر السلاح بتهذيب للفتاتين فيتسائلوا عن السبب، يجيب بأنه يخاف أن يصاب بالإيدز أو شيء من هذا القبيل فترد إحداهما بأن الإيدز يقتل في سنوات طويلة و المرء لا يضمن أن يعيش لبضعة أيام أصلاً. يعتذر تاجر السلاح بتهذيب و يخرجهما من غرفته بسلام. منطق الفتاة منطقي لبيئتها، في ظل التواجد بالقرب من ديكتاتور دموي مجنون يقتل لأتفه سبب و في بيئة مليئة بالصراعات الأهلية المسلحة و الأمراض و الأوبئة يصير الخوف مما سيحدث بعد بضع سنوات نوع من الترف. بالمثل لا يمكنك أن تشكل ضغطاً علي حياة عصابات المخدرات في أمريكا الجنوبية، ليس لديهم ما يخسروه أصلاً و من دون الحرب الأمريكية حياتهم جحيم خالص. الحرب علي المخدرات يجب أن تتساءل عن المجتمع الذي خلق أشخاص ليس لديهم ما يخسروه، و هو يخلقهم بالكوم فيموت منهم الآلاف و يظهر آلاف ليحلوا محلهم بإنتظام.

هناك كتاب شديد الشهرة إسمه (لماذا تفشل الأممwhy nations fail )لعالم إقتصاد نال نوبل هذا العام، و الكتاب يحلل من ضمن ما يحلل العوامل التي جعلت من أمريكا الشمالية متقدمة و من أمريكا الجنوبية متخلفة و هي عوامل مصدرها الأساسي تعامل المحتل الإنجليزي مع قارة أمريكا الشمالية في مقابل تعامل المحتل الاسباني مع أمريكا الجنوبية و ما أدي إليه هذا التعامل من عوامل إجتماعية و سياسية ظلت تورث حتي اليوم في القارتين. من يحب أن يحارب المخدرات من أمريكا الجنوبية عليه أن يغير هذه العوامل المتوارثة، و من يحب أن يحارب المخدرات في أمريكا الشمالية عليه أن يغير العوامل التي أدت للمجتمع بأن يضع ضغوط نفسية علي سكانه أدت لأن واحد من كل سبع أشخاص في أمريكا يعاني من إدمان المخدرات بحسب تقرير كبير الجراحين الأمريكي في عام 2017.

يبدأ العلم بأن تتشكك في حواسك، لا يمكنك أن تقيس الحرارة بيدك لأن الحواس خادعة لكن يجب عليك أن تقيسها بالترمومتر. المستوي التالي هو أن تتشكك في ما يبدو لك بديهي و منطقي، و بدلاً منه تعتمد علي ما لا خلاف عليه: الأرقام و الأدلة المادية. الحرب علي المخدرات مثال شديد الروعة، هي فكرة تبدو في البداية بديهية و منطقية: المخدرات شيء سيء و لا أحد يرفض أن نحارب هذا الشيء السيء. بالارقام الملايين تنفق، المئات يموتون في الحرب علي المخدرات و إستهلاك المخدرات في تزايد مستمر! شيء ما خطأ، البديهي و المنطقي ليس منطقي كما يبدو.

بالإضافة لهذا يمثل إعطاء مدمن سرنجة نظيفة أو عقار مثل الميثادون - الذي يعوض أعراض إنسحاب الهيروين - مدي الحياة إعترافاً بأن بعض الأشخاص لا يمكن علاجهم بشكل نهائي و تام من المخدرات و هو ما يرفضه الكثيرون. بالنسبة للكثير من الناس يجب و يمكن علاج الإدمان علاجاً نهائياً تاماً. العلم يقول أن هذا ليس سليماً، فسيولوجيا المخ تغيرت في الطفولة و إصلاح ما تشوه في الصغر بعد أن يكبر المرء عملية شديدة الصعوبة، و نسبة نجاحها قليل بما في أيدينا من علم الآن. كالعادة العلم وعوده محدودة و محبطة لكنها مضمونة، لكن الهجايص تعطي وعوداً غير محدودة بالتالي يفضل الكثير من الناس التمسك بالهجايص، و في حالة الحرب علي المخدرات فإن الهجايص هنا هي أن كل المدمنين يجب و يمكن أن يتوقفوا عن إدمانهم تماماً.