في أثناء الحرب العالمية الثانية دارت المعارك بين الأمريكيين واليابانيين في جزر المحيط الهادي. الجزر كانت تضم قبائل بدائية ذهلت لما رأته من طائرات تأتي للأمريكيين بعجائب: أطعمة معلبة وملابس ومصادر طاقة عجيبة (مولدات كهرباء) الخ. عندما جاء علماء الأنثروبولوجي للجزيرة ليدرسوها وجدوا أشياء عجيبة. صنع البدائيين ممرات وسط الغابات وضعوا على جانبيها المشاعل وأوقفوا أحدهم ليلوح بيديهم أمام هذه الممرات، أجلسوا أحدهم في كوخ وعلي رأسه بطيخة غرسوا فيها عودين من الغاب، صنعوا نماذج خشبية تشبه الطائرات الأمريكية، الخ.
لم تكن هذه القبائل تعرف الصناعة ولم تكن تعرف الله، لهذا كان تفسيرهم للروائع التي تهبط بها الطائرات أو تلقيها بالباراشوت على الأمريكيين أن أرواح الأجداد أرسلت للأمريكيين هذه الأشياء. بعد أن انتهت الحرب وانصرف الأمريكيون عائدين لبلادهم، فكر البدائيون في استرضاء الأرواح مثلما فعل الأمريكيون، فصنعوا ممرات تحاكي ممرات هبوط وإقلاع الطائرات، أوقفوا أمامها شخص يلوح بيديهم مثلما يلوح أحد الجنود لقائد الطائرة ليرشده وهو على الممر، أجلسوا أحدهم في كوخ بما يشبه أدوات الاتصال التي تستخدم للتواصل مع الطيارين علي رأسه، الخ.
أطلق علماء الأنثروبولوجي على هؤلاء البدائيين Cargo Cult أي طائفة شحنات البضائع.
المصطلح صار هاماً في الفكر الإنساني وفي عدة مجالات (من ضمنها الإدارة) للإشارة للاهتمام بالشكل والتغاضي عن جوهر الأمور وحقيقتها. كلما زاد تخلف المرء أو المؤسسة أو المجتمع كلما كان تركيزه على الشكليات ونسيانه للجوهر.
أول مرة عرفت المصطلح كان من مقال يتحدث فيه الكاتب عن شركات البرمجيات التي تعطي المبرمج مرتباً ضخماً ثم تنتظر منه تفانياً في العمل وولعاً مثلما يحكي الناس عن المبرمجين في جوجل أو مايكروسوفت، بينما تتناسي الشركة أو لا تعرف أن الأمر في جوجل ومايكروسوفت يتخطى المرتب الضخم ويمتد لأشياء أخري: المبرمج يتم اختياره بعناية، يعمل في مشروعات جذابة من الناحية التقنية (وليس مثلاً في برنامج حسابات لشركات الأسمنت)، يعمل في بيئة من العباقرة الذين يماثلونه أو يتفوقون عليه، الخ. كل هذه عوامل تجعل المبرمج يعمل بحماس وجدية ويقضي أيام متصلة في العمل بدون راحة، وليس فقط المرتب الضخم. المقال كان اسمه Cargo cult software engineering ومنذ أن قرأته وفكرة ال Cargo cult ماثلة أمام عيني دائماً لأن مصر بلد تسيطر عليها عقلية النظر للشكل ونسيان الجوهر.
في MIT هناك شخص يسمي الأستاذ الجامعي وفي جامعاتنا المصرية هناك شخص يسمي الأستاذ الجامعي، في MIT هناك شخص يسمي الطالب وفي مصر هناك شخص يسمي الطالب، في MIT هناك امتحانات وفي جامعاتنا الموقرة هناك امتحانات. ولكن هناك نقطة أساسية بديهية تفتقر إليها الجامعات المصرية: أن يكون الطالب مهتماً بأن يتعلم، والأستاذ الجامعي مهتم بأن يعلم ! في مصر كلاهما يبحث عن اللقب والمكانة الاجتماعية في المقام الأول ويأتي العلم في المقام العاشر أو لا يأتي في قائمة الاهتمامات أساساً. تخيل مثلاً أن هناك مادة لا أحد يفهم منها شيئاً إلا أن جميع الطلبة يحصلون فيها علي تقدير عالي. في يوم النتيجة، هل تتصور أن تجد طالباً حزيناً على ما فاته من العلم؟ لا أعتقد، ما دام قد حصل على التقدير فلتذهب المادة إلي حيث القت.
ماذا عن الممارسة السياسية؟ ماذا عن محاولة طنطاوي البائسة لارتداء بدلة مدنية ليترشح كمدني للرئاسة؟ ماذا عن الأقوال التي تردد أن السيسي إن استقال من الجيش فإنه يصير مدنياً بإمكانه الترشح للرئاسة؟ الفكرة ليست في أن العسكري لا يحق له الترشح للرئاسة لأنه يرتدي بدلة عسكرية، الفكرة في أسلوب تفكيره. قبل أن يترشح أيزنهاور للرئاسة (وهو رئيس القوات المشتركة للحلفاء في الحرب العالمية الثانية) قضي عشر سنوات في العمل المدني، بعض هذه السنوات كرئيس لجامعة كولومبيا (واحدة من أعرق جامعات العالم والتي خرج منها عشر جوائز نوبل قبل أن يترأسها)، أي أنه استطاع أن يتعامل مع ويدير مجموعة من أفضل العقليات في العالم قبل أن يفكر في أن يعرض نفسه كشخص مدني علي المجتمع الأمريكي، لأن الأمر ليس فقط في بدلة يخلعها فيصير مدنياً في اليوم التالي.
لو نظرت للإخوان اليوم و بدايات ما يظهر علي أنه مراجعات (إن تمت أساساً) فإنها مراجعات لبعض القرارات التي اتخذوها في الفترة السابقة. لا ولن يمتد الأمر لما هو أعمق من هذا: مراجعات فكر ككل، فكر تعتبر القرارات مجرد نتيجة له وليست أصلاً وسبباً في حد ذاتها.
هناك قول مأثور ينسب إلي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (والبعض نسبه للقاضي شريح) يقول: " تُحْدَثُ للناس أقضيةٌ بقدر ما أحدثوا من الفجور". بغض النظر عن مدي صحة سند القول فإن معناه آسر، وهو القول الذي أجده أمام عيني كلما رأيت القواعد والقوانين المركبة والبيروقراطية التي تسيطر على المؤسسات المصرية، المصالح الحكومية، الكليات، الأحزاب السياسية والجماعات، القوانين التي تحاول بصورة شكلية أن تتغلب على فساد النفوس والعقول دون أن يتوقف أحدهم ليبحث عن السبب الرئيسي للانحدار في مجتمع تحول بأكمله إلى Cargo Cult كبيرة يسيل له لعاب علماء الأنثروبولوجي.