كانت الإمبراطورية الرومانية هي أول من قدم نظام الإنتخابات الديمقراطية للعالم، و هو النظام الذي أخذته أمريكا و معظم الدول الديمقراطية اليوم و طبقته دون الكثير من التغييرات الجوهرية. كان نظاماً قائماً علي أن ينتخب الشعب عدد من الأشخاص (عادة ما يكونوا من الأثرياء و علية القوم) ليكونوا أعضاءاً في مجلس الشيوخ. هذا المجلس كان يقوم بالتصويت علي القرارات الهامة في الدولة و يتم إتخاذ القرار بالأغلبية.
كان يوليوس قيصر قائداً عسكرياً ناجحاً نجح في كسب حب جنوده و نجح في هزيمة شعوب الغال (العدو الأزلي لروما) و طردهم بعيداً عن حدود الإمبراطورية. كان قيصر يطمع في أن ينال منصب ديكتاتور روما تقديراً لإنجازاته العسكرية المتميزة التي أبهرت الرومان كما أبهرت نابليون بونابرت (الذي إنبهر بقيصر لدرجة أنه طلب من رساميه رسمه و علي رأسه ذلك التاج الروماني المكون من أغصان الشجر تشبهاً بقيصر). كلمة ديكتاتور في الإنجليزية Dictator مشتقة من الفعل Dictate بمعني يملي أوامره. كان قيصر يطمع في أن يكون الحاكم الأوحد للإمبراطورية و صاحب الكلمة المطلقة فيها.
إجتمع مجلس الشيوخ و قرر منح قيصر لقب ديكتاتور روما. هنا إكتشف قيصر أن ديكتاتور هو لقب شرفي و أنه سيظل مجرد قائد للجيوش. لن يتغير النظام الديمقراطي في روما و لن ينفرد أحدهم بالسلطة.
هنا إستغل قيصر حب جنوده له و حب الشعب له، فحاصر مجلس الشيوخ بجنوده و إستولي علي السلطة و صار الحاكم الأوحد لروما. أنفق قيصر علي الشعب و علي جنوده ببذخ أحيانا كان يصل للإنفاق من ماله الخاص و إطعام الشعب القمح من مزارعه الخاصة. لم يكن يبغي أي شيء سوي السلطة و قد نالها، بعدها لا يهمه المال و لا أي شيء آخر.
قام عدد من السياسيين و منهم بروتس ربيب قيصر بتدبير مؤامرة لإغتياله، طعنوه 23 طعنة و قتلوه. قام بعدها هؤلاء السياسيين (و بالأخص بروتس) بإلقاء خطبة للجماهير الغفيرة ليشرحوا لهم أن طموح قيصر كان يعني هدم كل ما حققته روما من تقدم سياسي و ديمقراطي عبر السنين. في مساء نفس اليوم قام الشعب بحرق بيوت أولئك المتآمرين لأنهم لم يقتنعوا بالخطبة. لم تكن الديمقراطية تعود عليهم بالكثير، فأعضاء مجلس الشيوخ من الأثرياء الذين لم يهتموا بالفقراء من الشعب، بينما قيصر كان يعني لهم تفوق عسكري و مستوي مادي أفضل للشعب و ليذهب كل هذه الهراء الديمقراطي إلي الجحيم. في أحد الأفلام الوثائقية قال المعلق تعليقاً علي هذا الموقف “من السهل أن تتخلص من قيصر و لكن من الصعب أن تتخلص من القيصرية”.
المشكلة أن هذه الشعب تغاضي عن كارثة أخري كان قيصر يقودهم لها هي تسليم الحكم لكليوباترا بشكل ما. من المعروف أن كليوباترا تزوجت قيصر و أنجبت منه إبناً. قضي قيصر في مصر عاماً كاملاً بجوار زوجته تاركا روما، و حين عاد زارت كليوباترا روما فأقام لها إحتفالاً أسطورياً حضره الشعب كله، و هو الإحتفال الذي ظهر بشكل رائع في فيلم كليوباترا الذي قامت إليزابيث تيلور ببطولته.
كره الشعب الروماني كليوباترا. لم يكن الرومان يحترمون المرأة عموماً، و هم الآن يرون قيصر العظيم الذي هزم الغال و حل مجلس الشيوخ و أطعم الشعب قد هام حباً بإمرأة أجنبية و قدرها هذا التقدير الهائل. حين قتل قيصر كانت كليوباترا في روما. كل ما أهمها في ذلك الوقت هو أن إبنها هو وريث العرش و بما أنه طفل فهي الوصية عليه، و بالتالي فإن عرش روما من حقها حتي يكبر إبنها. حين لم يقبل أن من السياسيين في روما هذه اللعبة الطريفة هربت إلي مصر و أقامت علاقة مع أنطونيو ( أحد قادة قيصر) في رهان علي أنه سيكون هو الإمبراطور المقبل و هو الرهان الذي خسرته.
بإختصار كانت كليوباترا تبحث عن السلطة فقط من خلال علاقتها بقيصر، تبحث عن أن تكون حاكمة الإمبراطورية الرومانية الهائلة بدلاً من أن تكون ملكة مصر فقط، و هو الشيء الذي لم يره قيصر و شعر به الشعب إلا أنه تغاضي عنه، و ثار حين قتل قيصر، ربما لأنهم لا يهتمون إلا باللحظة الحالية و لتذهب الديمقراطية و التوقعات المستقبلية بشأن قيصر إلي الجحيم. نحن نأكل و آمنون الآن، هذا هو المهم.
ما فعله قيصر لا يختلف كثيراً في رأيي عن ما فعله جمال عبد الناصر في مصر. هو أطعم الشعب الجائع، و قضي علي الديمقراطية تماماً. في عهد الإنجليز لم تكن المعتقلات ممتلئة بنفس العدد و لم تكن الحياة فيها بنفس البشاعة التي سنها عبد الناصر و من معه. يمكن القول دون خطأ كبير أن رهبة الرجل العادي من السياسة و التحدث عنها بدأت في عهد عبد الناصر و لم تكن موجودة حتي أيام الإحتلال الإنجليزي. علي الرغم من هذا حين مات عبد الناصر أنت تجد الكثيرين ممن بكوا عليه. لا تهم قراراته السياسية و الإقتصادية و ما أدت إليه. ليس مهماً ما يمكن أن يؤدي إليه (الإصلاح الزراعي)، المهم أن بعض الفلاحين الفقراء وجدوا أنفسهم من أصحاب الأرض فجأة. ليس مهماً ما يمكن أن يؤدي إليه الحكم الفردي و الديكتاتورية و التعذيب في المستقبل، المهم أننا طردنا الإنجليز فقط. و هكذا كثير.
ما هي مرجعية الديمقراطية؟ هل يجب أن تكون الديمقراطية هي تطبيق ما يريده الشعب فقط؟ أنا أري أن معظم الشعوب و الجماهير حمقي، أو علي أحسن تقدير مغيبين عن الكثير من القضايا الفكرية و السياسية، فهل يكون المقياس هو إرضاء الحمقي فقط علي حسب ما تختاره الأغلبية منهم؟
هناك حادثة طريفة ذكرها د. عبد الوهاب المسيري عن أن إحدي نجمات الأفلام الإباحية ترشحت لعضوية البرلمان الإيطالي. كان البرنامج الإنتخابي لهذه العضوة هو أن تخلع ملابسها قطعة وراء أخري أمام السادة الناخبين. الطريف أنها فازت بعضوية البرلمان الإيطالي!
فكرة أن الجماهير حمقي هي فكرة ذكرها أحد أساتذة الإعلام و الذي كان مستشاراً إعلاميا لأحد رؤساء أمريكا، و الذي وصف الجماهير بالقطيع المذهول. هم قطيع لا يدري أين مصلحته و بالتالي عليك أن تقوده عن طريق الإعلام للإقتناع بما فيه مصلحته. علي حد تعبيره، حين يكون لديك طفل فأنت لا تتركه يسير بمفرده لأنه قد يعبر الطريق أمام السيارات المندفعة فتقتله، بل لابد لك من الإمساك بيده و توجيهه. علي أحسن الفروض هذه العبارة هي كلمة حق يراد بها باطل، فالتوجيه الذي يقوم به الإعلام الأمريكي للشعب ليس توجيهاً بل هو تعمية عن الكثير من الحقائق، إثارة للغرائز و إفساد للفطرة، و قيادة الشعب لما فيه مصلحة قلة من أصحاب رؤوس الأموال و الثروات في المجتمع.
هناك حادثة أخري تدل علي أنه أحيانا تتعامي الجماهير عن مصلحتها الواضحة بشكل بديهي. في عهد نيرون أرسل سفينة محملة بالذهب و الفضة إلي مصر لتأتي برمال لتفرش في ساحة المسارح التي تقام عليها ألعاب القتل مثل التقاتل بين العبيد، التقاتل بين البشر و الحيوانات المفترسة، عروض لحيوانات مفترسة تفترس حسناوات شابات، إلخ.
بينما هذه السفن في البحر قامت الجماهير بثورة لأن روما كانت تمر بمجاعة. لم تكن هناك حبة قمح واحدة في البلاد و ثار الدهماء في الشوارع و حطموا المدينة.
حين وصلت السفن إلي مصر علم كبير الضباظ المسئول عن القافلة بما حدث فسأل الحاكم الروماني لمصر عما يجب أن يفعله، هل يشتري بالمال قمحاً ليعود به لينقذ روما أم ينفذ ما أمر به قيصر و يعود بالرمال. تعجب الحاكم من السؤال الذي لا يصح أن يصدر عن ضابط في مثل هذه المكانة الكبيرة. بالطبع عليه ان يعود لقيصر بأسرع ما يمكن محملاً بكل ما يمكنه من الرمال !
المرعب في الأمر أنه حين عاد بالرمال و بدأت الألعاب هدأ الشعب و إنتهت الثورة. إنشغل الناس في الألعاب و نسوا ما يمرون به من مجاعة. جوفينال، أحد الشعراء الرومان قال أن كل ما يهم الشعب هو الخبز و العاب السيرك panem et circenses. حتي الخبز صار شيئاً هامشياً هنا و المهم بالنسبة للشعب هو ألعاب السيرك فقط.
د. عبد الوهاب المسيري يري أن الديمقراطية لابد أن تتوافر معها نظم توعية لتوعية الشعب بالكثير من النقاط الخافية عليه سياسياً و دولياً لتجنب حالة الإعلام الذي يقود الشعب في أمريكا. إلا أن هناك مشكلة أخري في رأيي هي إختيار المرجعية التي تقاس عليها القرارات المتخذة بطرق ديمقراطية. بالإضافة لأن فكرة حماقة الجماهير تفتح باباً واضحاً للديكتاتورية، فإن قلنا أن إرضاء الشعب لابد من أن تكون له ضوابط، فإن إختيار هذه الضوابط هي مشكلة أخري. أنا مثلاً أري أنه لابد من المرجعية الدينية، و لكن من قال أن كل الناس تقبل المرجعية الدينية؟ حتي إن كانوا مثقفين و مدركين للأمور، فإن المثقفين فيهم الملحد و الشيوعي و ذوي الإتجاهات الدينية (إسلامية، مسيحية، يهودية)، الخ.
أنا لا أقترح حلاً هنا، فقط أنا أفكر بكلمات مكتوبة. ما رأيك أنت عزيزي القاريء؟
المصادر (من أجل محمد حجاج):
- Ancient Rome
- د. عبد الوهاب المسيري - رحلتي الفكرية في البذور و الجذور و الثمر
- رواية سربرينيتسا.