مؤسسة راند للدراسات السياسة و العسكرية هي أول مؤسسة أطلق عليها لقب (دبابة تفكير Think Tank). علي الرغم من أن مؤسسة راند هي مؤسسة غير ربحية و ليس لها صفة رسمية إلا أنها تسهم بشكل لا بأس به في صنع القرار السياسي الأمريكي (راجع هذا المقال). يكفي أن تعلم أن هنري كيسينجر هو أحد المشاركين في هذه المؤسسة لتعلم وزنها السياسي.
في العام الماضي أصدرت المؤسسة بحث بعنوان “بناء شبكات مسلمين معتدلين”. الهدف من الدراسة نشر الإعتدال الإسلامي كوسيلة لرد العنف الإسلامي الذي لم تفلح الوسائل الأمريكية التقليدية في مواجهته.
في بداية الدراسة يذكر الباحثون أن ديكتاتورية الحكام في العالم الإسلامي ، و التي تسببت في سوء الأحوال السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية هي أحد العوامل الرئيسية في إنتشار العنف، و أن الحكام المسلمين حاولوا قدر الإمكان تقليص أدوار كل مؤسسات المجتمع المدنية مما تسبب في إنتشار و ظهور حركات دينية أصولية تؤمن بالعنف، إلا أن الدراسة لم تذكر أي شيء عن تقليص نفوذ و ظلم الحكام المسلمين كوسيلة من وسائل إزالة الأصولية الإسلامية، بل قالت كلام من الذي يذكر في وسائل الإعلام للإستهلاك المحلي، كلام من نوعية نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط و إجراء إنتخابات نزيهة، إلخ، و لم تذكر شيئاً عن الدور الأمريكية القذر في إقامة و تثبيت النظم الديكتاتورية في كثير من دول العالم و من ضمنها دول الشرق الأوسط . بالطبع ديكتاتورية الحكام في مصلحة السياسة الأمريكية حتي و إن سببت بعض المشكلات فليس الحل من وجهة نظر معدي الدراسة أن نزيل النظم الديكتاتورية من الدول الإسلامية.
الدراسة تفترض أن سبب إنتشار العنف الإسلامي عاملين، التمويل و القدرة التنظيمية للشبكات الأصولية. تفترض الدراسة أيضاً أنه هناك عدد لا بأس به من المسلمين المعتدلين و لكن ينقصهم التنظيم و القدرة علي تكوين شبكة من المسلمين المعتدلين لتكون كلمتهم مسموعة في الشارع الإسلامي. الدراسة كلها مبنية علي هذين الفرضين بدون أن تقدم لهم أي تبرير من أي نوع. من ناحية الصياغة العلمية، فإن الفرضين غير مبررين و لا يختلفوا كثيراً عن أن أفترض أن هناك كائن له ثلاث أرجل و أربع رئوس و أن هذا الكائن يمكن أن يساعدنا في حل مشكلة تلوث البيئة، فقط علينا أن ندرس كيف يكمننا أن نحقق هذه الإستفادة.
الدراسة تقارن بين ما قامت به أمريكا في حربها مع الإتحاد السوفيتي من تكوين شبكات مضادة للفكر الشيوعي و كيف يمكن أن يتكرر هذا الدور هنا.
من ضمن الأجزاء المثيرة في الدراسة هو تعريف المسلم المعتدل. هو جزء جاء في منتصف الدراسة علي الرغم من أن الصياغة العلمية السليمة تفرض أن يتم شرح المصطلحات أو الكلمات التي قد تحتمل أكثر من معني في البداية، خصوصاً إذا كانت هذه الكلمات هي المحور الرئيسي للدراسة.
المسلم المعتدل كما تري هذه الدراسة هو :
- الشخص الذي يؤمن بالديمقراطية الغربية، فكرة أن السلطة تنبع من إختيار الشعب الذي تم في إنتخابات نزيهة، سواء كانت الديمقراطية نابعة من أصول إسلامية (مبدأ الشوري) أو من الفكر الغربي، بدون إيمان بالشخص المهدي أو المعصوم أو الذي يستمد سلطته من مصدر إلهي كما تؤمن بعض طوائف الشيعة (لا توجد مشكلة كبيرة في هذه النقطة).
- أن يقبل بمصادر علمانية ( لا دينية) للتشريع و القوانين و رفض الشريعة كمصدر للقوانين، و هو علي حد قول الدراسة الخط الفاصل بين المعتدلين و الأصوليين. طبقاً لقواعد التشريع الإسلامي فهذا قد يكون أحد الفواصل بين المسلمين و غير المسلمين.
- إحترام حقوق المرأة و الأقليات الدينية. العنوان لا بأس به، فقد دعا الإسلام إلي تكريم المرأة بأكثر من وسيلة، إلا أن قراءة ما تحت العنوان يرفع الضغط، إذ أن الدراسة تري أن أحد أشكال إحترام حقوق المرأة يكون بمساوتها في الميراث مع الرجل ، مستندة في ذلك إلي قول بعض المسلمين (المعتدلين) بأن الظروف الإجتماعية الآن تختلف عن الظروف في عهد الرسول عليه الصلاة و السلام.
- رفض العنف. تقول الدراسة أن كل ذوي الأديان يؤمنون بالحرب المقدسة لذا لا يمكن أن نزيل العنف تماماً من فكر المسلمين، فقط لابد أن يكون له قواعد تحدد ما هو العنف الصحيح و ما هو العنف الغير صحيح. العنف الصحيح هو الذي يكون رداً علي الإعتداء الذي يقع علي المسلمين. حتي هنا و الكلام ليس فيه مشكلة، إلا أن الدراسة تضع السم في العسل بأن تذكر أنواع من العنف الغير سليم، فتذكر العمليات الإنتحارية و الكمائن، و هي الأشياء التي تدفع المرء للتفكير في فلسطين و العراق. بالطبع هذا نوع من التصنيف الخاطيء، فالكمين و العمليات الإنتحارية هي وسائل للقتال. إن إعترفنا أن العنف قد يكون مقبولاً رداً علي الإعتداء الذي يقع علي المسلمين، فإن العمليات الإنتحارية و الكمائن مقبولة إن كانت دفاعاً عن حقوق المسلمين.
من ضمن النقاط المثيرة أيضاً أن أحد أقسام الدراسة خصص لعدد من الشخصيات المسلمة العلمانية التي يمكن التعاون معها لتحقيق أهداف الدراسة. من ضمن هؤلاء الأشخاص صهيب بن شيخ مفتي موناكو الذي أيد منع الحجاب في فرنسا و دعا إلي العلمانية. لاحظ تصنيف المفتي تحت بند العلمانيين، و هما وصفان متناقضان لا يختلفان كثيراً عن عبارة محمد نجم الشهيرة “الطويل القصير، التخين الرفيع”.
كانت كتابات الأستاذ محمد قطب أول ما لفت نظري إلي أن الدراسات (العلمية) الغربية ليست كلها خالية من التحيز و ليست كلها محايدة. بالطبع لا تتوقع من دراسة تصدر من مؤسسة راند أن تحتوي أي خير من أي نوع للعرب و المسلمين، ولكن حتي الصياغة العلمية نفسها مختلة بشكل كبير.
في الماضي كان التتار أكثر صراحة و مصداقية من أمريكا اليوم، فهم لم يعلنوا أن من أهدافهم نشر الإعتدال و الديمقراطية بل أعلنوا صراحة أن هدفهم نهب الشعوب و قتل سكانها. لا أدري هل علي المرء أن يترحم علي أيام التتار و يدعو الله أن تعود هذه الأيام؟