كتب أحد الكتاب الأمريكيين مقالاً يدعو فيه إلي الحوار مع المسلمين المعتدلين الغير متعصبين، فرد كاتب ملحد عليه بأنه لا يوجد مسلم ولا مسيحي ولا يهودي معتدل. الشخص الذي يؤمن بأن الله سبحانه و تعالي قد أنزل القرآن علي محمد عليه الصلاة و السلام أو أن السيدة مريم عليها السلام قد أنجبت طفلاً و هي عذراء أو أن الله سبحانه و تعالي قد شق البحر لموسي عليه السلام، هو شخص يؤمن بما لا يمكن نفيه أو إثباته و بالتالي هو شخص متعصب.
أنا لن أرد هنا علي هذه الأفكار فقد قام الكثير من العلماء - جزاهم الله خيراً - بالرد علي مثل هذه الأفكار في أكثر من موضع، إلا أني أتحدث عن سبب الإلحاد لدي هذا الكاتب هو أن الدين يقدم أشياء لا يمكن قياسها و التحقق منها علي حد قوله. كانت هذه أول مرة أصطدم فيها بشخص له هذا الأسلوب في التفكير، علي الرغم من أني قرأت عن أسلوب التفكير هذا في كثير من الردود التي كتبها علماء مثل أستاذ محمد قطب، و لكن هذه كانت أول مرة أقرأ فيها مقالاً كتبه أحد هؤلاء الملحدين.
فيما بعد تذكرت هذا المقال حين قرأت مذكرات د. جلال أمين و التي قال فيها إن الأمريكيين مولعون بقياس الأشياء. الأمريكي لا يقول إن فلان طويل بل يقول إن طوله كذا قدم. لا يقول إن فلان بدين بل يقول إن وزنه كذا رطل. لا يقول المسافة بين مكان و مكان بعيدة بل يقول إنها تستغرق كذا دقيقة بالسيارة. علي الرغم من أني قرأت قصصاً و كتباً كثيرة لكتاب أمريكيين إلا أني لم أنتبه إلي هذه النقطة علي الرغم من مرورها عليّ أكثر من مرة، و لكني إنتبهت لها بأثر رجعي حين قرأت ملاحظة د. جلال أمين و أمكنني وقتها أن أتفهم أسلوب تفكير ذلك الكاتب الملحد.
نفس الخطأ يقع فيه الكثير من المتدينين و علماء الدين. الكثير من الكتب التي تتعرض للدين – مثل بعض كتب تفسير القرآن - تركز علي جوانب الإقناع العقلي في الدين و تهمل جانباً هاماً هو النفس التي يخاطبها الدين أو علي الأقل لا تعطي للجانب النفسي نفس الدرجة من العرض و التحليل، و غالباً ما يقع كتاب هذه الكتب بحسن نية في هذا الخطأ لأنهم يحاولون الرد علي الماديين أو علي الأقل تأثروا بطريقتهم في الحكم علي الأمور، علي الرغم من أن الله سبحانه و تعالي حين تحدث عن النعيم الذي يناله المحسنون لم يكتف بذكر النعيم المادي بل ذكر أيضاً النعيم المعنوي ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) .
أحد الأمور الشائعة لدي نسبة لا بأس بها من المتدينين إنتقاد بعض الدعاة لقلة علمهم. في رأيهم أن هذا الداعية أو ذاك ليس لديه ما يتميز به علمياً. هو ليس فقيهاً يفتي الناس و ليس عالم حديث يبحث في سند الأحاديث و يصحح هذا الحديث و يضعف ذاك و ليس مفسراً من مفسري القرآن، و بالتالي فلا مبرر لإلتفاف الناس حوله. علي الرغم من أهمية العلوم الدينية كلها إلا أنهم يهملون حقيقة هامة هي أن الدين به جانب نفسي لا يقل أهمية عن الجانب العقلي، حتي إن كان إيماناً بحقائق بسيطة مثل الإيمان بالله سبحانه و تعالي، فإنه يظل شيئاً هاماً أن يستثير شخص ما أو شيء ما مشاعر الإيمان في النفس البشرية من حين إلي آخر.
في السور المكية تكثر الآيات التي تدعو الناس للإيمان بالله. هذا منطقي فقد كانت الدعوة في مكة لتحويل الناس من كفار إلي مسلمين، و لكن حتي في المدينة بعد أن تكونت دولة إسلامية ظلت الآيات في السور المدنية تتنزل و بها الأمر للمسلمين بالإيمان بالله سبحانه و تعالي، هؤلاء المسلمون الذين وصفتهم السور المدنية بأنهم “يقاتلون في سبيل الله فيقلون و يقتلون “. علي الرغم من أنه لا توجد درجة أعلي من التضحية بالنفس في سبيل الله فإن الآيات المدنية ظلت تخاطبهم في موضوع الإيمان بالله، لأن الله سبحانه و تعالي أعلم بالنفس البشرية و أعلم بإحتياجها للتذكير الدائم و إستثارة الجانب النفسي فيها بإستمرار. إن كان الله سبحانه و تعالي قد أعطي لشخص ما موهبة إستثارة مشاعر الإيمان لدي الناس فهذا لا ينقص من قيمته و لا يعني أنه شخص لا قيمة له حتي إن لم يكن متبحراً في العلوم الدينية.
مقارنة الجوانب النفسية بالجوانب المادية في الحياة أشار إليها د. جلال أمين في أكثر من موضع حين تحدث عن مدي تقدم و تأخر الأمم. عادة ما توصف أمريكا و أوروبا بأنها دول العالم الأول و توصف الدول العربية بأنها من دول العالم الثالث. عادة ما يقترن هذا الوصف بتقارير الهيئات الدولية التي تقيس الناتج القومي للدول و تشير إلي الفوارق المهولة بين الجانبين في كم الإنتاج و نوعيته. بالتأكيد هناك فارق إقتصادي و مادي مهول و لكن الخطأ يقع في فكرة أن الإنتاج المادي هو المعيار الوحيد لقياس التقدم. الإنسان كائن له إحتياجات نفسية و مادية، و غالباً ما تكون الإحتياجات النفسية أكثر أهمية من الإحتياجات المادية. علي حد تعبير د. جلال أمين، فإن في الحياة أموراً أكثر أهمية من الإقتصاد، و هي كلمة يكون لها وزنها حين تصدر من شخص يمثل الإقتصاد تخصصه الأول.
علي مستوي تماسك الأسرة و المجتمع و إشباع الإحتياجات العاطفية فإن الشعوب العربية أكثر تقدماً بكثير من أمريكا و أوروبا و هو شيء يلعب الدين فيه دوراً أساسياً، و بالتالي فإن تغييرت مقاييس التقدم و التخلف فإن الدول العربية قد تصنف علي أنها من دول العالم الأول.
علي الرغم من أهمية الجوانب المعنوية في الحياة إلا أنها يصعب وصفها و من السهل أن لا يلتفت إليها المرء بعكس الجوانب المادية التي يمكن قياسها بسهولة. لستيفن كينج قصة إسمها ( أعمال طرق Roadwork ) تدور حول مغزي مشابه.
تحكي القصة عن (بارت داوس) الذي يعمل كمدير لمغسلة ملابس و يعيش مع زوجته بعد أن توفي إبنه الصغير بورم في المخ. تقرر المدينة أن تنشيء إمتداداً لإحدي الطرق السريعة و قد تقرر أن يخترق هذا الإمتداد المدينة و بالتالي ستتم إزالة عدد من المباني. من ضمن المباني التي تقرر إزالتها منزل بارت و المغسلة التي يديرها. تقرر المدينة صرف تعويض مادي لبارت يفوق قيمة المغسلة و تعويض آخر يفوق قيمة المنزل.
المشكلة أن بارت يحمل الكثير من الذكريات لهذا المنزل و لهذه المغسلة. هذا المنزل هو آخر ما يربطه بإبنه من ذكريات. في هذا المنزل حبا إبنه و فيه كبر و فيه مات. في هذا المنزل بدأ حياته مع زوجته في شبابهما و فيه نما حبهما. المشكلة أنه لا يستطيع أن يصف لأي شخص - بما في ذلك زوجته التي تمثل ذكرياته معها أحد الأشياء التي تربطه بهذا المنزل - لماذا لا يستطيع أن يتحمل هدم المنزل و المغسلة. البلدية ستدفع مبلغاً من المال يفوق قيمتهما معاً و يمكنه بالمال الذي سيُدفع أن ينشيء مغسلة أفضل و يشتري منزلاً أكبر فما المشكلة إذاً ؟ في النهاية لا يجد بارت حلاً سوي أن يشتري متفجرات و أسلحة و حين يأتي رجال البلدية لهدم المنزل في اليوم المقرر لذلك يجدوا أنه قد حول المنزل إلي حصن عسكري غير قابل للإقتحام. لقد عجز أن يشرح لزوجته و للمجتمع أهمية الذكريات و المشاعر و لماذا لا يمكن تقييمها بالمال، ربما لأن الذكريات بضاعة لا قيمة لها إلا لدي صاحبها كما يقول د. أحمد خالد توفيق .
أحد الجوانب الأخري في الحياة التي يدمرها هذا التفكير المادي هو العلاقة بين المرأة و الرجل. وسائل الإعلام الحديثة التي تتفنن في تقديم فكرة أن المعيار الوحيد لتقييم المرأة هو الشكل من خلال ثقافة المشاهير Celebrities و الإستفتاءات من عينة (من هي أكثر النساء إغراءاً) التي تقوم بها المجلات الأمريكية، بل و حتي المواقع الإباحية، كل هذه الأشياء تصب في فكرة أن المعيار الوحيد لتقييم المرأة هو جمالها، و تدريجياً تظهر في وجدان الناس مقاييس شبه ثابته لقياس هذا الجمال و بالتالي لتقييم المرأة.
عندما كنت صغيراً - في الصف الثاني الإعدادي تقريباً - قرأت خبراً في إحدي المجلات التافهة عن تصريح لشارون ستون قالت فيه إن زوجها يقول لها أنه لا يجد فيها أي إغراء من أي نوع و لا يدري لماذا تزوجها من الأساس. في ذلك الوقت لم أكن أدري من هي شارون ستون - لم أكن أتابع الأفلام الأجنبية وقتها - و لم أعلق الكثير من الأهمية علي ذلك الخبر التافه و لكني مازلت أتذكره حتي الآن و لا أعلم لماذا.
فيما بعد حين عرفت أن شارون ستون هي إحدي أشهر نجمات الإغراء تعجبت من هذه العبارة و لم أفهم لها مبرراً إلا قريباً. التفكير المادي الذي يقيس المرأة بناء علي جمالها يسهم في تحول المرأة إلي جماد في وجدان الناس أو ما يعبر عنه علماء النفس بتعبير ( Woman Objectification ). حين يفكر المرء في المرأة علي أنها جماد فإنها ينطبق عليها ما ينطبق علي الجمادات.
في دراسة نفسية حديثة ثبت أن مراكز التسوق العملاقة تسهم في تكون شعور بعدم الرضا لدي الناس بسبب تعدد الإختيارات و البدائل و تعدد العوامل التي يحكم المرء بناء عليها. إن ذهبت لتشتري قميصاً فمن الممكن أن تجد أكثر من قميص جيد، و بالتالي فإن أشتريت قميصاً قماشه ممتاز، سيبقي لديك شعور بأنه كان يمكنك أن تشتري ذلك القميص الآخر لأن لونه كان أفضل، أو ذلك الذي كانت تفصيلته أفضل، الخ. حتي إن وجدت قميصاً ممتازاً من جميع الجوانب فمن الممكن أن تجد أكثر من قميص ممتاز، كلهم يروقون لك و لكنهم يختلفون عن بعضهم البعض في اللون أو التصميم و بالتالي لا تشعر في كل الأحوال بالرضا التام إن إشتريت أحدهم.
نفس الشيء ينطبق علي المرأة. إن فكر المرء في المرأة علي أنها جماد فمن الصعب أن ترضيه أي إمرأة مهما كانت درجة جمالها لأنه سيجد الكثير من النساء الذين يمثلون بالنسبة له إختياراً بديلاً أو تنويعاً عن المرأة التي يرتبط بها. هكذا يمكننا أن نفهم الكلمة التي قالها زوج شارون ستون. لقد صارت المرأة بالنسبة له جماداً و سلعة و بالتالي فلن يرضي عن أي إمرأة أيا من كانت. هو لا يبحث إلا عن الجمال و قد سقطت من إعتباره عوامل أخري مثل الشخصية و العقلية، دعك من الشعور بالحب لشخص ما دون البحث عن مبررات لهذا الحب، أن يحب المرء إنساناً لأنه هو، دون المزيد من الأسباب.
حتي إن تكلمنا عن العلاقة الجنسية، فعلي الرغم من أنه من البديهي أن الشكل و الجسد يمثلان عاملاً هاماً في الإغراء الجنسي إلا أن علماء النفس يقولون إن هناك عاملاً آخر لا يقل أهمية هو الجانب النفسي. حين يرتبط رجل بإمرأة نفسياً - من خلال الحب و الزواج - فإن هذا في حد ذاته هو أحد عوامل التي تساهم في جعل هذه المرأة مغرية له أكثر من غيرها، لا لشيء إلا لأنها هي.
المشكلة أن تفكير ال woman objectification يطغي الجانب الجسدي و المادي علي الجانب النفسي، و يتسبب في أن يبحث المرء عن الجانب الجسدي و يهمل الجانب النفسي علي الرغم من أن كلاهما بذات الأهمية في العلاقة الجنسية بين الرجل و المرأة. بشكل ما هو يمثل إتلافاً للفطرة الطبيعية التي فطر الله الناس عليها و بالتالي يترتب علي هذا الكثير من الخلل و عدم الرضا في علاقات الأزواج.
المسلمين إنتبهوا قديماً إلي أهمية الجوانب النفسية و المعنوية في الحياة. حين طلق عمر إبن الخطاب - رضي الله عنه - زوجته النصرانية أم إبنه عاصم و إختلفا في حضانته كل منهما يريد أن يعيش إبنه معه فذهبا إلي الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال ( ريقها خير له من شهد وعسل عندك يا عمر ) فأطاعه عمر رضي الله عنه و أعطي حضانة الطفل لأمه، و قد وردت الرواية بألفاظ مختلفة و لكنها تحمل نفس المعني. لقد فهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أن هناك أموراً أهم من الجانب المادي في الحياة و أحسن - رضي الله عنه - تقييم الجانب النفسي الهام في العلاقة بين الطفل و أمه و قدرة الأم علي إعطاء ما لا يستطيع الأب أن يعطيه حتي إن كان هذا الأب هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
عسي أن ننتبه نحن أيضاً إلي ما لا يمكن قياسه في الحياة كما إنتبه إليه الصحابة قديماً.