كنت قد كتبت في مقال سابق عن مدينة بريبيات التي هجرها سكانها عند إنفجار مفاعل تشيرنوبل علي أساس أنها نموذج غير مسبوق في التاريخ. عرفت اليوم أن هناك مدن أخري مهجورة بسبب التلوث النووي و أيضاً تقع في الإتحاد السوفيتي!
في أواخر عام 1945 أرسل الإتحاد السوفيتي 70000 سجين ليعملوا علي بناء مدينة سرية علي ضفاف نهر تيتشا لم تظهر علي الخرائط تم تسميتها شليابينسك - 40 Chelyabinsk-40 لتكون مقراً لمعمل ماياك لإنتاج البلوتونيوم الذي سيستخدم في إنتاج الأسلحة النووية السوفيتية.
لمن لا يعرفون، البلوتونيوم غير موجود في الطبيعة و لكنه ينتج بتخصيب اليورانيوم و ينتج عن هذا التخصيب مواد مشعة يجب التخلص منها.
في هذا الوقت لم يكن العالم يعرف الكثير عن الإشعاع النووي و تأثيره المهلك. تذكر أن الأمريكيين أرسلوا جنودهم إلي هيروشيما و ناجازاكي فور إلقاء القنبلتين دون أن أزياء واقية من الإشعاع. بالتالي فإن المعمل كان يصرف مواده المشعة في النهر مباشرة!
في عام 1951 بعد حوالي ثلاث سنوات علي بدء تشغيل المعمل بدأ العلماء يقيسون مدي التلوث الإشعاعي في المدن الواقعة علي ضفاف النهر. الطبيعي في هذه المنطقة أن تكون نسبة الإشعاع 21.0 رونتجن في السنة فوجدوا أنها صارت 5 رونتجن في الساعة! هذا يعني تهديد حياة 28 الف شخص و تشكيل مشاكل صحية (و لكن لا تصل إلي الموت) ل 100 الف شخص.
قامت الحكومة الروسية بتهجير 7500 قروي من قراهم الواقعة علي ضفاف النهر، قامت بإنشاء أسوار حول مجري النهر، و حفرت أبار في القري لتجعل إعتمادها في الشرب علي المياه الجوفية و ليس علي مياه النهر.
فكر العلماء في إستخدام خزانات تلقي بها المواد المشعة لفترة من الوقت ريثما تهدأ نسبة إشعاعها. المشكلة أن المواد المشعة تسخن بسبب نشاطها الإشعاعي لذا تم وضع هذه الخزانات في قناة تمر بها المياه و تبردها من الخارج قبل أن تصب في النهر ثانية.
المشكلة أن المواد المشعة بسبب حرارتها سببت ضغط علي الأوعية التي تحتويها مما أدي الي بعض التسرب إلي المياه التي تصب في النهر، و هكذا عاد التلوث إلي النهر مرة أخري. بسبب أخطاء في الحسابات لم ينتبه أحد إلي أن الأمر سيزيد مع زيادة المواد المشعة التي تلقي في هذه الخزانات، بالإضافة إلي تكون خليط من النترات و الأسيتات المشعة. من يعرفون الكيمياء يعرفون أن معظم النترات متفجرة، ربما كان أشهر النترات هو ال TNT.
في 29 سبتمبر 1957وصلت درجة الحرارة داخل الخزانات إلي 350 درجة مئوية فإنفجرت بقوة تساوي إنفجار 85 طن من الTNT . إرتفع عمود من النفايات المشعة مسافة ميل إلي السماء و إنتشرت المواد المشعة علي مساحة 9 الاف ميل مربع لتؤثر علي 270 الف مواطن سوفيتي و علي مصادر غذاؤهم.
في الأيام التالية ظهرت الكثير من الامراض المتعلقة بالأشعاع لدي السكان في المناطق المحيطة، و لكن صدرت الأوامر السوفيتية بترحيل هؤلاء السكان من مدنهم و بالتالي صارت كل هذه المدن و القري مدن أشباح، و صدرت الاوامر للأطباء بأن تشخص الأمراض علي أنها اي شيء إلا أمراض متعلقة بالإشعاع. علي مدي سنتين قتل الإشعاع أشجار الصنوبر في دائرة نصف قطرها 12 ميل من شليابينسك و تم وضع لافتات علي الطرق السريعة علي حدود المنطقة الملوثة تطلب من المسافرين إغلاق نوافذهم و عدم التوقف لأي سبب. و بالطبع حافظ الإتحاد السوفيتي علي الكارثة بعيداً عن سمع و بصر المجتمع الدولي.
بعدها تم إستخدام بحيرة كاراتشي التي ليس لها أي منفذ علي أي مجري مائي لإلقاء المخلفات. القاء المخلفات في المياه يضمن أن لا تتطاير كغبار في الهواء، و كون البحيرة بلا أي مصرف يضمن عدم تلوث مجاري المياه.
بعدها بعشر سنوات و في 1967 إكتشف العلماء أن البحيرة بدأت تجف و فقدت 50 بالمائة من حجم الماء بها. هذا يعني أن المواد المشعة الملقاة في البحيرة قد صارت غباراً ذرياً تحمله الرياح. علي مدي ما يزيد علي 12 عاماً اخذت الحكومة السوفيتية في إلقاء مزيج من الأحجار و التراب و الخرسانة علي البحيرة.
في عام 1990 و مع إنهياره، اعلن الإتحاد السوفيتي للمجتمع الدولي عن المنطقة و تاريخها الذري، و قامت بعثة علمية بالذهاب هناك فوجدوا أن نسبة الإشعاع عند البحيرة 600 رونتجن في الساعة و هي جرعة كفيلة بقتل الإنسان في خلال ساعة واحدة فقط! في هذا الوقت صارت أكثر من نصف مساحة البحيرة سطح خرساني.
في عام 1991 وجد أن سرطان الدم زادفي المنطقة بنسبة 41%، السرطانات الأخري زادت بنسبة 21%، مشاكل الدورة الدموية زادت بنسبة 31%، إنخفض متوسط عمر الذكور من 69 سنة إلي 45 سنة. قدر عدد من تأثروا بالإشعاع تأثيراً ضاراً في المنطقة ب 28000 شخص.
اليوم مساحة كبيرة من المدينة و حول البحيرة و علي ضفاف النهر هي منطقة أشباح.
الرائع أن كل هذا حدث دون أن يمتلك الناس القدرة علي الإعتراض. علي مدي ما يزيد علي ثلاثين عاماً يتم تهجيرهم، يموتون بأمراض غريبة، يمنعون من رؤية النهر و إستخدام ماؤه و لا يمكن لهم إلا تصديق ما تقوله الدولة و الإذعان لأوامرها.
في رواية سربرنتسا و في محاولة فلسلفية لتفسير السلوك القمعي و الدولة الشمولية لدي السوفيت قال الكاتب إن كل إنسان يحتاج للإيمان بإله، و عندما جاءت الشيوعية بمفاهيمها الإلحادية كان لابد أن يحل (شيء ما) محل الإله، و كان هذا الشيء هو الدولة. الدولة تعرف كل شيء حتي الخواطر التي تدور بذهنك، الدولة تملك كل شيء و تعطي لك منه كيف شاءت و بالطبع كل عملك وولائك و تفكيرك لابد أن يتجه للدولة. في هذه الحالة فإن الدولة هي التي تعرف ما أصابك و عليك أن تمتثل لأوامرها دون مناقشة و دون محاولة للفهم لأن الدولة تعرف مصلحتك أكثر منك، تعرف أين عليك أن تسكن و تعرف أفضل منك تشخيص أمراضك و تعرف متي يجب عليك أن تموت دون أن تملك أنت أن تعترض و دون أن يعرف أي شخص في العالم بما حدث لك.