منذ ما يزيد عن شهر تقريباً كنت متوجهاً في الصباح إلي الوحدة العسكرية التي أخدم بها. لم أجد مواصلات فأضررت إلي ركوب تاكسي. ما أن ركبت التاكسي حتي باغتني السائق قائلاً:
-“هو الشاب اليومين دول بيشترط يتجوز واحدة عاملة”؟
فاجأني السؤال.
-“نعم”؟
-“قصدي يعني إنت كشاب تشترط في البنت اللي تتجوزها إنها تكون بتشتغل علشان تساعد في المصاريف؟ العيشة بقت غالية اليومين دول”.
رتبت أفكاري سريعاً و أجبته بأني سأتحدث عن رأيي و ليس عن رأي كل الشباب. قلت له أن المرأة غير مكلفة بالعمل و الإنفاق علي المنزل لأن الأمور المادية مسئولية الزوج. إن أرادت أن تعمل و لم يخل عملها بإحتياجات الأسرة فأنا لا أمانع إلا أني لن أطب منها أن تعمل و لن أطلب منها أن تنفق من دخلها في المنزل، فرد علي السائق:
-“طبعا المصاريف مسئولية الراجل بس إنت مش هتطلب منها حاجة، هي هتحط فلوسها في البيت من نفسها”.
هو لا يريد حتي أن يعترف أنها تقوم بما ليس من مسئوليتها، لا يريد أن يعترف لها بأي فضل من أي نوع. أجبته بأنه حتي إن كان لزوجتي دخل من أي مصدر (عمل، ميراث، إلخ) و تطوعت هي بأن تنفق منه في المنزل فإني سأرفض ذلك. دخلها المادي لها تنفق منه علي نفسها، و حتي مصروفاتها الشخصية مسئوليتي مهما كان حجم دخلها. بالطبع لم يرق له ردي و لم ينطق بكلمة أخري طوال الطريق.
أنا بطبعي لست شخصاً إجتماعياً و بما أني أعمل مبرمج كمبيوتر فليس لي إحتكاك كبير بالطبقات الفقيرة من الناس. والدتي بحكم أنها طبيبة لها إحتكاك بالكثير من الطبقات الفقيرة، و كانت تحكي لي عن مواقف مشابهة و لكن ليس من رأي كمن سمع. أنا أعرف أن ظروفي و لله الحمد أفضل من الكثير من الشباب من معدومي الدخل. هناك بعض الشباب ممن يمثل لهم دخل الزوجة مصدراً لا غني عنه للحياة، و هؤلاء أشفق عليهم حين يصير أحد المقومات الرئيسية لإختيار زوجتهم هو هل تعمل أم لا، حين يتواري الجمال - الذي أشعر بغباء من يأخذه كمقياس رئيسي لإختيار الزوجة و ما أكثرهم في المجتمع - و تتواري خفة الظل و الإرتياح النفسي (لن أتحدث عن المستوي الثقافي لأنه معدوم وسط هذه الفئات) و يصبح الزواج عملية إقتصادية بدرجة كبيرة، و لكن ما أثار حفيظتي أن سائق التاكسي لا يريد حتي أن يعترف للمرأة التي تساعد زوجها مادياً بأي فضل من أي نوع. هناك مقولة قالها لي أحد أصدقائي قديماً هي “دعنا نتفق ما هو العدل ثم نتعامل بالفضل فيما بيننا” و لكن يبدو أن هذا الأخ يريد أن يصير الفضل عدلاً.
حين حكيت لوالدتي عن الموقف و كيف أن الرجل لا يريد حتي أن يعترف لزوجته بأي فضل أو تطوع من أي نوع، فهي مجرد كلمة بسيطة إلا أنها تساوي الكثير، أجابتني بأنه لن يكتفي بهذا بل سيظل يضربها و يهينها بإستمرار و لن يحفظ لها أي جميل من أي نوع حتي في معاملته لها لأن هذه هي كيفية التعامل بين الرجل و المرأة وسط هذه الفئات.
حواري مع سائق التاكسي هو جزء من سلسلة إحتكاكي بالفئات الغير متعلمة في المجتمع. منذ أن دخلت الجيش بدأ إحتكاكي بالفئات الغير متعلمة (جنود و صف ضباط) و راعني ما أراه من سلوكيات و نماذج بشرية جديرة بالدراسة. هناك الميكانيكي الذي ليس معه اي مؤهل و بالتالي فإن تجنيده مدته ثلاث سنوات مرتبه فيها 125 جنيه شهرياً. هذا الجندي متزوج من إثنين و قد انجب من كل منهما! أما لماذا تزوج إثنين من الأساس فالسبب أنه تشاجر مع زوجته الأولي فتزوج أمرأة أخري ليغيظها و قد أنهي عملية الزواج هذه في أسبوع! المرء قد يستمر في البحث عن زوجة مناسبة لمدة سنوات أما هذا فقد وجد الزوجة و أنهي إعدادات الزواج و تزوجها في خلال أسبوع. فيما بعد تصالح مع زوجته الأولي و الآن هو زوج لإثنين و قد أنجبت كل منهما. السؤال الهام هنا هو من أين ينفق عليهما؟ حين حكيت لوالدتي أجابتني بأن “كل واحدة فيهم تسرح بعيالها”. علي كل منهم أن تعمل خادمة، تمسح سيارات، اي شيء، فليس من مسئولية زوجها أن ينفق عليها. الطريف في الأمر أن الزوج يشرب سجائر و حشيش أيضاً بالمال القليل الذي في حوزته.
وسط هذه الفئات يندر أن تجد من يفهم الرجولة بمعناها الحقيقي و يصير لديهم ما لا أستطيع وصفه سوي ب (العنجهية) . هو رجل بصرامته و صياحه و طلباته التي لا يقبل من زوجته أن تتقاعس في تنفيذها، هذه هي مقومات الرجولة، و لكنه لا يراعي زوجته أو إبنه أو يصدر منه ما يدل علي أدني عاطفة تجاههم، و إبنه هذا لا فائدة منه في الحياة سوي أن يدعو نفسه ب (أبو حسن).
و من هي التي تقبل أن تتزوج إنساناً في ظرف أسبوع (أو من الأهل الذين يقبلون أن تتزوج إبنتهم في خلال أسبوع) من شخص متزوج و لديه أولاد، و ليس لديه مال أو أي شيء من أي نوع يغري بالزواج ؟ ما الدافع الذي يدفعهم للقبول به؟ هذا شيء مازلت عاجزاً عن تفسيره.
في وسط هذه الفئات أيضاً إفطار رمضان جهراً بالنهار شيء عادي و مألوف، بل إن بعضهم يرسل في طلب الطعام (ديلفري) و يأتي الطعام و يأكله أمام زملاؤه بدون أي مشاكل. الطريف أن أحد الصولات ممن لا يصلون بتاتاً قد توعد أي جندي يعرف أنه أفطر في نهار رمضان بالويل و الثبور و عظائم الأمور. ما فائدة أن تترك الصلاة و تحافظ علي الصيام؟ لا أعرف.
في رسالة ماجيستير كانت إحدي زميلات والدتي تناقش المستوي الصحي للفقراء مقارنة بغير الفقراء فقامت بصنيف الأطباء علي أنهم من الفئات الغنية و قامت بتصنيف الخادمات وسط الفئات الفقيرة، فعلق الأستاذ المشرف علي الرسالة بأن هذا التصنيف خاطيء لأن اليوم صارت الكثير من الخادمات أعلي دخلاً من بعض الأطباء. حين حكت هذه الطبيبة لوالدتي علقت والدتي بأن الطبيبة تعرف كيف توظف مواردها البسيطة لتوفر لأبناءها طعام مغذي مع رعاية إجتماعية و صحية بينما الخادمة لن تستطيع توظيف مواردها و ستنفق أموالها هباء فيما لا يفيد. الممرضات أيضاً إحدي الفئات التي تنفق دخلها كله تقريباً علي الملابس و الثياب و ادوات التجميل دون أن ينعكس عليهم أي إرتفاع مادي أو إجتماعي من أي نوع. نفس المبدأ ينطبق علي من أحتك بهم من غير المتعلمين.
ليس كل من في هذه الفئة فقراء، فالحرفيين (خصوصاً المهرة) عادة ما يكون دخلهم مرتفع إلا أن النشئة الفقيرة و سوء الأخلاق و إنعدام التفكير يدفعهم لضييع أموالهم فيما لا يفيد مثل انفاقها كلها علي الطعام الفاخر و المخدرات و السجائر و عدم إستثمارها أو إدخارها أو إنفاقها في شيء مفيد مثل شراء شقة في مكان محترم، أو حتي إنفاقها علي تعليم أبناؤهم.
إن تحدثنا عن الفساد فإن الفساد قاسم مشترك أعظم لدي المجتمع ككل ولكن هذه الفئات تتميز بعدم إحترام النفس بالإضافة للفساد الموجود لدي جميع الطبقات. الفقر و الجوع و التربية الخاطئة تزيح من أنفسهم أدني إحترام للنفس لذا ينحدرون سلوكياً إلي درجة يأبي الشخص المتوسط أن ينحدر لها مهما كان فساد أخلاقه. علي سبيل المثال، تجد السرقات وسط هؤلاء الجنود و صف الضباط من نوعية أخذ كيس بلح من أحد الجنود عنوة أو سرقة ملاءة سرير، الخ. ليس لدي أي منهم أدني إحترام للنفس، يمكنه أن يرتدي أقذر الثياب بدون مشكلة، الشتائم و الضرب و الإهانات بالنسبة لهم شيء عادي، دعك بالطبع من عدم الإلتزام بالصلاة أو الشعائر الدينية عموماً إلا فيما ندر و ليس لديهم أدني مانع من إرتكاب معظم أنواع الموبقات إلا في شريحة قليلة منهم.
ما لاحظته هو أن هذه الفئة لا يقدم لها أي خطاب ديني من أي نوع، فمعلوماتهم الدينية ضحلة إلي أبعد مدي و معرفتهم بعلماء الدين و الدعاة تكاد تكون منعدمة. هي فئات تحتاج لشخص موهوب ليفهم عقليتها و يصل إليها بحوار مناسب، و شخص يدرك حجم الكوارث الأخلاقية و الدينية الشائعة وسط هذه الفئات لكي ينتشلهم مما هم فيه، و بالطبع لابد أن يكون هناك الكثير من ترتيب الأولويات لإختيار نوعية المواضيع التي يمكن الحديث معهم عنها. بالطبع لا يمكنك أن تجد اليوم من يخاطب هذه الفئات خطاباً دينياً بلغة تناسبهم دعك بالطبع من إختيار الموضوعات.
عادة ما أنظر للناس علي أنهم (مبيفهموش). إنت كنت مصري (أو عربي عموماً) فأنت لا تجيد ما تقوم به إلي أن يثبت العكس. إن كنت طبيباً، مهندساً، مدرساً، زوجاً، أبا، في أي دور تقوم به فأنا أفترض أنك لا تعرف ما هي متطلبات هذا الدور و بالتالي لا تعرف كيف تقوم به إلي أن يثبت العكس (و بالطبع قلة مندسة هي من أثبتت لي العكس).انا آسف لهذا الإعتراف الذي لا يخلو من غرور و لكن هذه هي نظرتي للناس منذ أن دخلت الكلية و لكن في الفترة الأخيرة زاد عليها شيء آخر.
مادمت مصرياً فأنت فاسد بشكل ما و بالتالي فأنت بشكل من الأشكال تستحق المعاناة التي تلقاها (في وسائل المواصلات، في طابور العيش، الغلاء المكتسح، إلخ)، و هي معاناة تعاني منها الفئات الدنيا بنسبة أكبر. الفساد ليس بالرشاوي و سوء إستغلال النفوذ فقط، قد يكون فساداً في تعاملك مع أهلك، في تربية المرأة لأبناءها (الذين سيساهمون في يوم من الأيام في خراب الوطن)، في معاملتك لزوجتك، في كيفية إنفاقك لمالك، الخ. المهم أن أي مصري هو - بالإضافة لعدم إجادته لما يقوم به من أدوار في الحياة- فهو فاسد ايضاَ و غالباً هو يستحق الويل الذي يعانيه لأنه تسبب بدوره في الكثير من المعاناة لأشخاص آخرين إلا من رحم الله.
ليوسف معاطي مقال نشر قديماً في جريدة الأهرام إسمه (المتاهة في التفاهة) يحمل فكرة جيدة. المقال كان موجها لمنتقدي أفلام محمد سعد لهبوطها. قال يوسف معاطي إن من يشاهد أفلام محمد سعد لا يقرأ الجرائد غالباً فلا داعي لإنتقاد محمد سعد علي صفحات الجرائد. نفس الشيء ينطبق علي مقالي هذا، فلن يقرأ أي من هذه الفئات التي أتحدث عنها هذا المقال، فقط هي دعوة لإنتشالهم عن طريق توجيه نداء ديني لهذه الفئات بطريقة تناسبهم. لا أعرف ما هي الطريقة بالظبط فالدعوة الدينية تحتاج لقدر كبير من الموهبة التي أفتقر إليها، و لكن من يجد أن لديه ما يقدمه فليقدمه حالاً عسي الله أن ينتشل ولو شخصاً واحداً من هذا المستنقع.