هذا هو الجزء الثاني من المقال المنشور هنا.
القيمة مقابل السعر
هناك نقطة تغيب عن فكر الكثيرين هي كم المجهود المطلوب للحصول علي المعلومة. الطالب يحضر المحاضرات و يذاكر و يحاول أن يتعرف علي عقلية كل أستاذ لكي يكتب ما يرضيه في ورقة الإجابة و يخوض الإمتحانات و يخرج في نهاية السنة بمعلومات أكثر من تلك التي كانت لديه قبل بداية السنة. السؤال هنا هو ما هو كم العلم الذي كان يمكن الحصول عليه إن بذل المرء هذا المجهود في تعليم نفسه بنفسه؟ أن يأتي المرء بالمراجع و يحتك بالغربيين من خلال المنتديات و الإنترنت و يشترك في مشروعات ذات قيمة في شركات البرمجيات؟
هناك مثال طريف ضربه أحد زملائي لهذا الموضوع هو أنه إن كان شخص جائع و ذهبت إليه و عرضت عليه أن أعطيه باكو من البسكويت مقابل خمسين جنيهاً، فإنه سيشعر بالشبع بعد إلتهام باكو البسكويت. الفكرة أنه كان يمكنه الحصول علي وجبة من الكباب مقابل الخمسين جنيه بدلاً من مجرد باكو بسكويت لا يساوي أكثر من نصف جنيه.
كنت أري الكثير من الطلبة المجتهدين الذين لا يفعلون شيئاً سوي الإستذكار فأشعر بكمية الوقت و المجهود المهدرين في هذا الهراء. لو بذل هذا المجهود في إتجاه سليم لكان لكل واحد من هؤلاء شأن عظيم في حياتهم العملية و في رفعة مجتمعهم و نصرة دينهم.
ما أنا بقاريء
المشكلة أن أحد أقوي العوائق أمام قيام الطالب بالبحث عن مصادر التعلم بنفسه هو أن أغلب الطلبة لم يعتادوا القراءة منذ الصغر. أنا لم أكن أقدر هذه المشكلة حق قدرها في بداية دراستي في الكلية. في السنة الأولي قام أحد الأساتذة بإلقاء محاضرة لا محل لها من الإعراب- عدم تنظيم الأفكار، عدم التحضير المسبق، إنعدام القدرة علي الشرح، بإختصار العوامل المشتركة في أغلب المحاضرات في الكلية – فسألني أحدهم إن كنت فهمت المحاضرة أم لا. بالطبع أنا لم أكن أحضر المحاضرات و لا أذهب إلي الكلية من الأساس، فقلت له أني قرأتها من المرجع و فهمتها فكان رده “ما شاء الله”. أدركت وقتها أن القراءة من المرجع تعتبر شيء صعب بالنسبة له و حضور المحاضرة و إنتظار ما يجود به الدكتور هو الشيء السهل. هذا الزميل كان من أوائل الدفعة.
بعدها بسنة قام بعض الطلبة في الكلية بتنظيم مشروع يقوم فيه الطلبة الذين يجيدون أي علم من العلوم المتعلقة بالحاسبات بالتدريس لزملاؤهم في فترة الصيف. قمنا أنا و محمد حجاج بتدريس البرمجة في هذا المشروع. في إحدي المحاضرات سأل محمد الطلبة عما يقرأونه في أي مجال، فإكتشف أن أكثر من 95% من الطلبة في المدرج لا يقرأون أي شيء في أي مجال. سألهم عن كتابات د. أحمد خالد توفيق و د. نبيل فاروق فإكتشف أن أغلبهم لم يسمع بهم من الأساس. هم مجرد طلبة (دحيحة) يحفظون ما يريد الدكتور أن يراه علي الورق و يقدموه له بسياسة (ريح الزبون) الشهيرة، و لا يجيدون أكثر من هذا. كاد محمد وقتها أن يجن من فرط الغيظ.
المشكلة بالطبع تمتد لأعمق من مرحلة الكلية. في أثناء عملي في إحدي شركات البرمجيات عملت مع مبرمج شاب يجيد البرمجة بدرجة جيدة ولكنه لا يجيد التعبير عما في ذهنه بالكتابة. يمكنه أن يحل المشكلات التقنية التي يواجهها ولكنه لا يستطيع أن يكتب المشكلة التي واجهها و طريقة حلها لتكون مرجعاً لباقي الفريق. هو لم يعتد القراءة و بالتالي لم يعتد الكتابة للتعبير عما في رأسه من أفكار.
كلما أعطيت مبرمجاً كتاباً أو مقالاً يتحدث عن تقنية ما أو شيء يتعلق بالبرمجة أو يحتوي علي حل لمشكلة تواجهه و كلفته بقرائته يكون الرد “إشرح لي بدلاً من أن أقرأ”. هو لم يعتد القراءة و البحث في سنوات عمره التي تجاوزت العشرين و لن يعتادها اليوم. المشكلة أن ما يقرب من نصف عمل المبرمج عبارة عن قراءة أو هكذا ينبغي أن يكون.
من هو الأستاذ الجامعي في مصر
الأستاذ الجامعي في مصر هو نتاج نظام خاطيء. هو طالب قام بإرضاء أساتذته عن طريق الحفظ و الإستظهار و معرفة كيفية تفكير كل أستاذ و بالتالي يلقي له في ورقة الإجابة بما يرضيه. علي حد تعبير عمر فاروق فإن الطالب في كلية الهندسة يذاكر عقلية الأستاذ و لا يذاكر المادة العلمية نفسها.
يصير هذا الطالب معيداً ثم يأخذ الماجيستير و الدكتوراه بنفس الطريقة. د. أحمد زويل قال أنه كان يتخرج أول الدفعة عن طريق الحفظ و الإستظهار دون الفهم. في نهاية السنة يأخذ مكافأة التفوق ليشتري بها مراجع يقرأها في أثناء فترة الأجازة ليفهم ما حفظه و إمتحن فيه بالفعل. للأسف ليس كل أساتذة الجامعة أحمد زويل، و معظمهم يكتفي بمرحلة الحفظ و دخول الإمتحان.
عادة أنا أنظر للأستاذ الجامعي علي أنه موظف حكومي روتيني ، مثله مثل الباشكاتب في الأفلام القديمة أو موظف الأرشيف في كتابات أحمد رجب، مع فارق أنه موظف حكومي يرتدي السترة و ربطة العنق - إن وجد دخلاً خارجياً بخلاف مرتب الكلية يسمح له بشرائهما. حتي إن وجد الأستاذ الجامعي ذو المستوي العلمي المتميز - و هم قلة مندسة - فإني أنظر إليه علي أنه شخص أضاع من عمره بضع سنوات - و هي السنوات التي قضاها في الدراسة الجامعية في مصر- في ما لا يفيد. لو كان قضي هذه السنوات في تعليم نفسه بنفسه لكان مستواه العلمي أعلي مما هو الآن و لصار أكثر تميزاً مما هو عليه.
هذا يجذبنا إلي نقطة كيفية إختيار الأستاذ الجامعي من الأساس. في أمريكا علي الرغم من بعد الإمتحانات عن تقييم قدرة الطالب علي الحفظ و البحث عن ما تعلمه بالفعل إلا أنهم ينظرون للإمتحان علي أنه وسيلة تقييم تخبرك أن هذا الشخص قد إجتهد أم لا و لكنها لا يمكن أن تستخدم للمفاضلة بين المستويات العلمية للطلبة بشكل سليم. هي وسيلة تقييم ينقصها الكثير و لكن ليس في أيديهم خير منها لذا يعتمدون علي الإحتكاك الشخصي بين الأستاذ و الطالب كإحدي وسائل التقييم و يفتحون الباب لكل من أثبت كفاءة في أي مجال عمل ليلتحق بالسلك الجامعي و ليس لأوائل الدفعات فقط كما يحدث في مصر.
عم يبحث الطالب و الأستاذ الجامعي
أحد الأساتذة من ذوي المستوي العلمي المتميز قام بالتدريس لنا في السنة الثالثة. كان عائداً من أمريكا و كان يحاول أن يشرح لنا التقنيات الحديثة لدي الشركات الأمريكية و يحاول أن يركز علي الفهم بدلاً من الحفظ. أنا لم أحضر له أي محاضرات و لم أره حتي اليوم علي الرغم من أنه درس لنا في سنتين و علي الرغم من نجاحي في المواد التي درسها. حين أخبرني أصدقائي عنه في البداية قلت لهم أن النظام القائم و الطلبة لن يسمحوا له بأن يلقي محاضرة ينقل فيها ما لديه من علم علي وجه مناسب و لهذا لم أحضر محاضراته و قد كان ما توقعته.
الطلبة الذين قضوا أكثر سنين عمرهم في نظم تعليم فاشلة لم يعتادوا سوي أن يدخلوا المحاضرة للبحث عن ما يجب سكبه علي ورقة الإجابة يوم الإمتحان و بالتالي كان أسلوب هذا الأستاذ منفراً بالنسبة لهم. كلما شرح شيئاً واجهه الطلبة بالسؤال التقليدي :“دي هتيجي إزاي في الإمتحان؟” مما دفعه ذات مرة للثورة و الرد بعبارة “و إنتوا مالكوا و مال الإمتحان؟”. بالطبع العبارة غير مفهومة لعقلية جاءت الكلية أساساً من أجل إجتياز الإمتحان و ليس من أجل التعلم.
تدريجياً أدرك هذا الأستاذ نوعية العقليات التي يتعامل معها و علي مر سنة أو إثنين نما عنده إحتقار للطلبة. المشكلة هنا هي لماذا لم يترك هذا الأستاذ الجامعة؟ هو أدرك أن الكلية فاشلة (علي حد تعبيره) و أن الطلبة لا جدوي من تعليمهم و لديه شركة فلماذا لا يترك الكلية بدلاً من أن يدخل المحاضرات و علي وجهه و في سلوكه أعتي علامات الإشمئزاز؟
كما يبحث الطالب عن شهادة تعطيه مركزاً إجتماعياً فإن الأستاذ الجامعي يبحث عن وظيفة في سلك التدريس كوسيلة للترقي الإجتماعي و كداعم للبيزنيس الخاص به و ليس كمكان للبحث العلمي و التعلم لأنه لا يوجد علم في الجامعة.
الحياة تبدأ بعد الستين
من ضمن الأفكار الخاطئة التي تسود عقلية الطلبة أن المرء يتعلم في الكلية الجانب النظري و يتعلم الجانب العملي من الشركات التي سيعمل بها، أو أن المرء يجب عليه أن يبدأ في أخذ الكورسات و قضاء فترة تحت التمرين في شركة بعد التخرج لأنه مازال صغيراً. لا أحد يفكر أن عليه أن يتخرج بالفعل قادراً علي العمل بكفاءة بعد قضاء فترة خمس سنوات في الكلية، و أن الجانب النظري لا يجب أن يكون بعيداً عن الجانب العملي و تفصل بينهم هذه الهوة الساحقة إلا إن كان هناك شيء ما خطأ. في الكلية لا يوجد علم نظري أو عملي، ما يوجد في الكلية ليس علم من الأساس.
هذا يجذبنا لنقطة الممارسة العملية. الكثير من أساتذة الكلية يقضون حياتهم من البيت للكلية و من الكلية للبيت. هو لم يطبق العلم الذي يدرسّه، لم ينزل يوماً إلي سوق العمل -السوق الوحيد الذي رآه الكثير من الأساتذة و بخاصة النساء منهم هو سوق الخضار- و بالتالي كثيراً ما تري أساتذة لا يحسنون فهم ما يقرأونه و يسيئون تفسير ما يقرأونه في الكتب لأنهم لم يمارسوا شيئاً من هذا. في الكثير من الكليات العملية في الغرب لا يسمح لفرد بالإلتحاق بهيئة التدريس قبل قضاء بضع سنوات في الممارسة العملية في إحدي الشركات في السوق، و لكن للأسف هذا ليس الوضع هنا. المشكلة أن هذا يتسبب في فساد عقلية الطالب و يكون عليك في النهاية إصلاح هذا الفساد حين يتخرج الطالب و يلتحق بشركة من الشركات، و في معظم الأحوال يكون إصلاح هذا الفساد متعذراً.
الروتين
الروتين هو أحد النقاط المدمرة للأعصاب و الإحتمال في كلية الهندسة. بعض الأساتذة يصر علي أخذ الغياب و معاقبة من يغيب حتي لو كان الطالب لا يرغب في الحضور أو لا فائدة لحضوره. في السنة الثانية كنا نذهب إلي المعمل و المعيد يعلم أن الجهاز متعطل - مثل معظم الأجهزة المتهالكة في الكلية – و علي الرغم من هذا نذهب لأخذ الغياب ثم ننصرف.
الموقف نفسه تكرر مع أختي – و هي خريجة قسم عمارة - بصورة أكثر سخافة. ذات مرة كان عندها محاضرة – وقتها كانت في هندسة شبرا قبل أن تنتقل لهندسة عين شمس - و كان الدكتور في المستشفي منذ بضعة أيام يجري عملية قلب مفتوح و كل من في الكلية يعرف هذا، و علي الرغم من هذا تم التنبيه علي أهمية حضور المحاضرة و أرسل مجلس القسم معيداً ليأخذ الغياب ثم يصرف الطلبة.
دعك من أن إجبار الطلبة علي الحضور لن يجبرهم علي التركيز و يتسبب في الحلقة المفرغة لثرثرة الطلبة و الضجيج و التشويش علي من يريد الإستماع للمحاضرة بحق، و لنفكر في شعور و عقلية هذا المعيد الذي يأتي ليأخذ الغياب ثم ينصرف. المفترض أن المعيد منصب علمي و لكن هنا المعيد تحول إلي دمية لا شعور لها ولا كرامة ولا رأي في لا منطقية ما تقوم به، هو فقط يطيع سادته من أجل أن ينال الرضا و يصبح يوماً مثلهم، و بالطبع لا تتوقع منه أن يصلح الكلية في اليوم الذي يصير فيه إستاذاً بل سيصير موظفاً روتينياً مثل سادته.
الخلاصة
حين يأتي أحدهم ليتحدث عن إصلاح منظومة التعليم في مصر يتحدث عن المال و الميزانية. المشكلة في مصر هي مشكلة ضمير و مراعاة الله في العمل في المقام الأول، ثم عقليات متهالكة في المقام الثاني – الكثير من أساتذة الجامعة حسنوا النوايا و لكنهم لا يعرفون طريقة أخري لتعليم أنفسهم أو لإدارة المنظومة التعليمية في الجامعة - ثم مال في المقام الثالث. إن أتيت بالملايين و القيتها للعقليات و الضمائر الفاسدة التي تملأ الكليات المصرية فلن ينتج عنها أي إصلاح من أي نوع.
بالنسبة لمجال البرمجيات فإن ندرة الكفاءات هو مشكلة ساحقة في مصر تتسبب أحيانا في توقف المشروعات و إغلاق الشركات أو تقليص نشاطها. هناك إتجاهاً لدي الكثير من الشركات لعدم الإعتبار بالشهادة الجامعية و البحث عن الكفاءة الفعلية. لا أعرف إن كان هذا هو الإتجاه السائد في باقي المجالات، و لكن غالباً صاحب العمل يهتم بأن يجد من ينجز العمل و ليس من يحمل ورقة لا تساوي شيئاً. أنا شخصياً لا أكتب في السيرة الذاتية أني خريج كلية الهندسة لأني لا أعد هندسة عين شمس كلية من الأساس.
الفكرة هنا أن يحاول المرء أن يعلم نفسه بنفسه و يخرج من الجامعة بأقل خسائر ممكنة – الخسائر هي الوقت و المجهود كما قلت من قبل. بالطبع إنفصال المرء عن الجامعة يتعلق بمجال الدراسة. أنا كنت مهتماً بالبرمجة، كل ما أحتاج اليه جهاز كمبيوتر فقط، و لكني لا أستطيع أن أطلب من طالب الطب أن يأتي بالمشرحة و متاحف الطب الشرعي إلي بيته، و لكن المهم أن يحاول المرء أن يحتك بالغربيين - من خلال الإنترنت و المنتديات و ما إلي ذلك – ليقف علي آخر ما وصل إليه الناس في مجال عمله و يحاول أن يعلم نفسه بنفسه و يضع في باله أنه كلما قل الوقت و المجهود الذي يبذله في الكلية كلما كان خيراً له لأن القيمة العلمية لشهادات الكليات المصرية لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به الشهادة.