يدور فيلم ميونخ الذى أنتجه و أخرجه (ستيفن سبيلبيرج) حول ضابط موساد يقود فريق من القتلة لإغتيال أعضاء منظمة أيلول الأسود الذين قتلوا أحد عشر رياضياً إسرائيلياً في أوليمبيات ميونخ في السبعينات. هنا نرى أن ضابط الموساد يتشكك في مهمته من الناحية الأخلاقية و يتساءل عن الفارق بينه و بين أعضاء المنظمة (الإرهابية) و يشك فى أنه ربما كان معهم حق فيما فعلوا و ربما لا تكون القضية الإسرائيلية قضية عادلة كما كان يظن. السؤال هنا هو كيف يمكن أن يصدر هذا الفكر من يهودى متعصب مثل (سبيلبرج)؟ كيف يمكن أن يتشكك الإسرائيلي في قضيته بينما الفلسطينيين لا يشكون في قضيتهم و يؤمنون بها إيماناً شديداً؟
الفكرة هي أن المرء عادة ما يتعاطف مع الآخرين حين يري جوانب ضعفهم و أخطاؤهم و حيرتهم. الفلسطينيين في الفيلم ظهروا كشخصيات أحادية البعد، شخصيات ليس لها أي جانب سوى إيمانها بالقضية الفلسطينة، فقط لا غير. في المقابل نرى في الفيلم ضابط الموساد الإسرائيلي كإنسان حقيقي، يمر بلحظات ضعف نراها هنا في تشككه في قضيته من الأساس. النتيجة أن المشاهد سيخرج من الفيلم و هو أكثر تعاطفاً مع الضابط الإسرائيلي ! الشخصيات التى تجيد كل شيء و أي شيء وليس لها نقطة ضعف نفسية أو فكرية أو إنسانية مثل (أدهم صبرى) لا تثير التعاطف أو الشفقة و لا تمس النفس إلا بشكل سطحي.
نفس الفكرة ظهرت بشكل أكثر فجاجة و وضوحاً في فيلم (بستاني الأوركيد) للمخرج الدانماركي (لارس فون تيريير) الذى بدأ بعبارات علي الشاشة تقول أن هذا الفيلم يهديه المخرج لفتاة ماتت بسرطان الدم، مع ذكر إسم الفتاة و تاريخ ميلادها و وفاتها. لم يكن هناك أي فتاة بهذا الإسم و الأمر كله كان ملفق بالكامل، و قد فسر المخرج هذا فيما بعد بأنه رأي أنه إن بدأ الفيلم بجملة كهذه فإنها تدفع الناس لأخذ الفيلم بجدية أكبر و ستزيد من قبولهم للفيلم و تأثرهم به. هنا هو إختلق ضعفاً بشرياً غير موجود أساساً ليضمن تعاطف الناس و تأثرهم بالفيلم.
الأمر لا يتوقف عند لحظات ضعف الأفراد بل إن الأمر يمتد لمجتمعات بأكملها. (إيمانويل كانت)، الفيلسوف الفرنسي الشهير، في كتابه (تعارض الكليات) قال إن مما جذب الأوربيين من خارج فرنسا للثورة الفرنسية و ساهم في تأثرهم بها هو ذلك الصراع الأخلاقى الذي كان مهيمناً علي الثورة، الصراع بين فكرة حماية الثورة و حملات الإعدام الرهيبة التي سادت فرنسا وقتها. هذا النزاع الأخلاقي هو ما دفع الأوربيين للتعاطف مع الثورة الفرنسية لأنه أضفي عليها طابعاً من الضعف البشري الذي عادة ما يجذب الناس و دفعهم للتعاطف مع الثوار علي الرغم مما إرتكبوه من أخطاء.
عندما كان (سلوبودان ميلوسوفيتش) الرئيس الصربى هارباً بسبب طلبه للمحاكمة الدولية لجرائم الحرب و المذابح التي إرتكبها، إجتمع به أحد السياسيين في الطابق العلوي من فيلته و ناقشه و أقنعه بأن يسلم نفسه للمحكمة الدولية. هنا إستأذنه (ميلوسوفيتش) في النزول للطابق الأرضي لخمس دقائق بعدها يذهب معه لتسليم نفسه. شك السياسي في أن (ميلوسوفيتش) سينتحر و صارحه بشكوكه إلا أن (ميلوسوفيتش) طمأنه و أخبره بأنه كان قد وعد زوجته بأن يغسل شعره قبل أن يخرج و هو يريد أن يلتزم بهذا الوعد ! العقل يرفض فكرة أن السفاح الذي قتل و عذب الآلاف يحافظ علي وعد بسيط كهذا لزوجته و يهتم بوعوده لها حتي و هو علي وشك تسليم نفسه للمحاكمة، ربما لأن فكرة كهذه تدفع المرء للتعاطف معه و نحن لا نحب أن نتعاطف مع شخص كهذا. بالمثل هل نقبل حقيقة أن (هايدريتش)، قائد قوات العاصفة النازية (SS)، و المسئولة عن الكثير من المذابح في الحرب العالمية الثانية، كان يستمتع بعزف مقطوعات بيتهوفن لأصدقاؤه في البيت؟ فكرة كهذه قد تدفعنا لأن نشعر بأن هناك جانب إنساني وراء هذا السفاح و نحن نحب أن ننظر لأمثاله نظرة أحادية البعد، فلا نري من شخصيته سوى الجانب الدموى العنيف. هذا يجعل كرهه سهلاً و بسيطاً.
إلا أن الحقيقة تظل أن كل الناس فيهم الخير و الشر، النفس البشرية معقدة للغاية و لا وجود فيها لجانب واحد، لا يوجد من يمتلىء شراً و لا يوجد شخص كامل بدون نقاط ضعف بشري و عيوب. لهذا فإن فلسفة العقاب في الإسلام لا تقول بأن من يعاقب هو شخص سيء، بل العقاب فقط هو حماية للمجتمع (و لكم في القصاص حياة). الرسول عليه الصلاة و السلام أقام الحد علي المرأة التي زنت علي الرغم من أنه قال عنها أنها تابت توبة لو وزعت علي أهل المدينة لكفتهم. إن قبلنا فكرة أن العقوبة هي حماية للمجتمع ولا تعني أن من يعاقب هو شخص سيء، فإن هذا يعفي المرء من الجدل الفكري الذي يدور حول فكرة هل المجرم ولد مجرماً أم أن ظروف النشأة و التربية هى التي دفعته لهذا، و يعفي المرء من الصراع النفسي بين التعاطف مع السفاحين حين نري جوانب ضعفهم و إنسانيتهم، و بين الرغبة في الإنتقام منهم لما فعلوه في حق الأبرياء. في الإسلام أنت تنفذ العقوبة حماية للمجتمع من إنتشار الجرائم و تترك حساب الناس علي الله، لأننا كبشر لا نستطيع أن نحاسب أحداً علي ما فعل لأن الأمر أعقد من علمنا و قدرتنا.
حين تحدث الله سبحانه و تعالي عن الأزواج قال (هن لباس لكم و أنتم لباس لهن). اللباس هو الشيء الذي يستر و يدارى العورة. لو أخذنا الجانب المعنوى للأمر لرأينا أن الزوجين يعرف كل منهما عيوب الآخر، يري لحظات ضعفه، و يداري كل منهم هذه العيوب و يجملها و يساعد كل منهم الآخر علي تجاوز هذه العيوب و هذا الضعف، بل ربما كانت رؤية هذه العيوب و هذا الضعف أحد النقاط الأساسية في الترابط النفسي و التواصل بين الزوجين.
لا أحد يجب أن يظهر ضعيفاً أو أن تظهر عيوبه و لكن الضعف ملازم للإنسانية و عامل أساسى في التواصل بين الناس، و أشد نقاط ضعفنا، تلك التي نخاف حتي من أن نعترف بها لأنفسنا، نحتفظ بها لنظهرها أمام من نحبهم و يحتلون في أنفسنا مكانة خاصة، علي أمل أن يزيدهم هذا الضعف قرباً منا و أن يساعدونا علي أن نتجاوز هذا الضعف و نتغلب عليه.