نبدأ موضوعنا بالحديث عن تجربة شهيرة في علم النفس هي تجربة السجن التي اجريت في جامعة ستانفورد عام 1971. في هذه التجربة حاول عالم النفس الشهير فيليب زمباردو أن يقيس تأثير البقاء رهن الإحتجاز علي نفسية البشر، و حاول أن يقيس سلوك المساجين و الحراس في السجن.
في هذه التجربة تم نشر إعلان في الجرائد من أجل طلب المتطوعين للتجربة. الإعلان قال إن أجر المتطوع 15 دولار (75 دولار بمقاييس اليوم) و قد تقدم ما يزيد عن السبعين متطوعاً تم إختيار 24 شخص منهم. الأشخاص الذين تم إختيارهم هم الأشخاص الطبيعيين الي اقصي درجة ممكنة (ذكر ابيض متوسط المستوي الإجتماعي بلا اي سابقة جنائية و لم يعرف عنه اي قدر من العنف). تم تقسيم هذه المجموعة الي حراس و مساجين عشوائياً عن طريق عملة معدنية (ملك و كتابة).
تم إغلاق الطابق الأرضي في مبني قسم علم النفس بجامعة ستانفورد و تحويل الغرفات الي زنازين حقيقية بأبواب ذات قضبان معدنية و تم وضع كاميرات مراقبة في نقاط خفية تم بها تصوير التجربة التي إستمرت لبضعة أيام. تم تغيير معمارية الطابق الأرضي ليحاكي السجن: ممرات بها زنازين علي جانبيها، ابواب الزنانين المكونة من قضبان معدنية لا تعطي للمساجين أي قدر من الخصوصية. في هذه التجربة قام زمباردو بدور مدير السجن و قام أحد الباحثين بدور كبير الحراس.
لم يتم إعطاء اي تعليمات أو أوامر محددة بإستثناء التعليمات التي اعطاها زمباردو (كمدير للسجن) للحراس (المتطوعين الذين سيقوموا بدور المساجين) بأنه ممنوع العنف الجسدي، ما عدا ذلك فإن لهم أن يديروا السجن بالكيفية التي تروق لهم. أشار زمباردو للحراس بأنه يمكنهم أن يشعروا المساجين بالملل، بقدر من الخوف، بأن حياتهم دوما تحت سيطرة الحراس . يجب أن نجردهم من أي شعور بالتفرد، و نشعرهم بإنعدام القوة و الحيلة. بشكل ما نحن نمتلك كل القوة و هم لا يملكون شيئاً.
في السجن إرتدي الحراس زياً رسميا، و تم إعطاؤهم عصا غليظة و نظارات سوداء (لمنع التقاء عيونهم بعيون المساجين و إشعار المساجين بحاجز بينهم و بين الحراس). الحراس يعملون في نوبات و يذهبون الي منازلهم عند إنتهاء نوبة كل منهم بعكس المساجين طبعاً.
في اليوم المحدد لبدء التجربة تم إعتقال المساجين (المتطوعين الذين سيقوموا بدور المساجين) من منازلهم بتهمة زائفة (السرقة)، مع تلاوة حقوقهم عليهم (من حقك أن تظل صامتاً، كل ما ستقوله قد يستخدم ضدك في المحاكمة، الي اخر هذا الهراء الذي يعرفه محبي مشاهدة الأفلام الأمريكية) و تم إرسالهم الي قسم شرطة – أحد أقسام الشرطة إشترك في التجربة- و تم إجراء جميع الإجراءات الجنائية لهم (فيش و تشبيه، تصوير جنائي، الخ) ثم تم إرسالهم الي السجن الذي تم إنشاؤه في الجامعة.
في السجن قام الحراس بتفتيش المساجين تفتيشاً ذاتيا بتجريدهم من ثيابهم. تم إلباس المساجين ملابس غير مريحة و سلاسل في اقدامهم و غطاء جلدي علي رؤوسهم ليحاكي الرأس المحلوق للمساجين. تعمد زمباردو هذه الأشياء في التجربة ليشعر المساجين بنوع من إنعدام الراحة الجسدية. أصبح المساجين ينادون برقم مكتوب علي ملابسهم لا بأسمائهم.
بدأت التجربة تخرج عن السيطرة في اليوم الثاني. بدأت اشكال من العنف تسري بين الحراس، مثل وضع اكياس سوداء علي وجوه المساجين - كما حدث في معتقلات جوانتانامو و المعتقلات الأمريكية في العراق- و إنتشر التعذيب و العنف الجسدي. بدأ الحراس يستمتعون بهذا العنف و بدأ بعضهم في العمل لوقت إضافي بعد إنتهاء نوبة حراسته بدون مقابل مادي، فقط لأنه مستمتع بالأمر. العقوبات النفسية و الجسدية إنتشرت مثل إجبار المساجين علي القيام بتدريبات بدنية شاقة، و إزالة الأسرة من زنازين المساجين (الغير مطيعين) و تركهم ليناموا علي الأرض الخرسانية الباردة. أيضاً قام الحراس بإنتهاك خصوصيات المساجين في دورات المياه و إجبار بعضهم علي تنظيف المراحيض بأيديهم العارية. إنتشر أيضاً إجبار المساجين علي التعري تماماً و إنتشرت اشكال من الإنتهاكات الجنسية شبيهة بتلك التي حدثت في العراق.
في اليوم الرابع إنتشرت شائعة عن أن المساجين يخططون للهرب مما دفع بالحراس الي أن يطلبوا من زمباردو أن ينقل التجربة الي مقر شرطة او سجن حقيقي يكون مؤمناً اكثر من ذلك السجن المرتجل في مبني علم النفس في الجامعة ! بالطبع لم يحدث هذا ولكن الإقتراح نفسه يثير الكثير من علامات الإستفهام و التعجب.
كلما إستمرت التجربة ظهرت علامات سادية علي كثير من الحراس. في نهاية التجربة وجد أن ثلث الحراس اظهروا صفات سادية حقيقية و قد حزن الكثير منهم عندما إنتهت التجربة في موعد مبكر عن موعدها!
لم يستطع أحد المساجين التحمل فبدأ إضراباً عن الطعام، مما دفع الحراس الي عقابه بسجن إنفرادي في دولاب صغير لمدة ثلاث ساعات، اجبروه خلالها علي أن يمسك بيده الطعام الذي رفض أن يأكله و أجبروه فيما بعد علي أن ينام و بيده هذا الطعام. في النهاية قال الحراس للمساجين أن المسجون رقم 416 سيتم عقابه بأن يتم حبسه إنفرادياً. من يرفض له هذا المصير فإن عليه أن ينام بدون اغطية هذه الليلة في مقابل رفع هذه العقوبة عن زميلهم! و بالطبع رفض اي منهم أن يتحمل عن زميله العقوبة و نام المسجون رقم 416 في الحبس الإنفرادي.
في النهاية أصيب بعض المساجين بإنهيار عصبي بعد ستة ايام من بدء التجربة مما دفع بزمباردو الي انهاء التجربة التي كان مقرراً لها أن تستمر لأسبوعين.
يمكن مشاهدة صور و فيديو التجربة هنا (ملحوظة: توجد مشاهد عري و تفتيش ذاتي للمساجين في بعض الصور).
التجربة تشير الي مدي ما يمكن أن يتحول اليه إنسان عادي مسالم حين يوضع في مكان يسمح و يحض علي العنف. نحن هنا أمام بشر عاديين بلا أدني سابقة عنف تحولوا الي مجرمين في بضعة ايام لمجرد أنهم وجدوا في أيديهم سلطة و جو يحض علي العنف.
الحديث عن تجربة السجن يدفعنا للحديث عن تجربة شهيرة اخري لعالم نفس آخر كان زميلاً لفيليب زمباردو في المدرسة الثانوية و هو ستانلي ميلجرام و هي التجربة التي عرفت بإسم تجربة ميلجرام.
قبل هذه التجربة بثلاثة اشهر تمت محاكمة النازي الشهير ادولف إيخمان في القدس. كان إيخمان احد ضباط قوات الصاعقة SS المتهمين بجرائم حرب و تعذيب لليهود و لكنه هرب بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية و لم يتم القبض عليه. في السيتينات قام سيمون ويزنثال –المهندس المعماري السويسري اليهودي الذي كرس نفسه للبحث عن النازيين الهاربيين- بالبحث و توصل الي إيخمان الذي كان يعيش بهوية مزيفة في الأرجنتين و نشر المعلومات التي توصل اليها. قام الموساد بإختطاف إيخمان من الأرجنتين و تهريبه مخدراً الي إسرائيل بدون معرفة السلطات الأرجنتينية. تمت محاكمة إيخمان في القدس و تم إعدامه. في أثناء جلسات المحاكمة - التي كانت علنية مثل محاكمات نورمبرج- دافع إيخمان عن نفسه بأنه قام بما أمره به قادته ، وهي الحجة الجاهزة لدي جميع النازيين في محاكمات ما بعد الحرب.
دفعت هذه المحاكمة ميلجرام الي التفكير في قياس مدي طاعة الناس العاديين للأوامر حتي إن خالفت معتقداتهم و ما تأمر به الأخلاقيات و المباديء، و بالتالي قام بإجراء هذه التجربة.
في هذه التجربة يتم إيهام المتطوع أنها تجربة من أجل قياس تأثير العقوبة علي المتعلمين. يقوم المتطوع بدور المعلم الذي يجلس في غرفة و ينتقل صوته من خلال المايكروفونات لشخص يقوم بدور التلميذ يجلس في غرفة اخري. يتم إعطاء صاعقة كهربية للمعلم تبلغ 45 فولت ليشعر بمدي العقاب الذي سيتعرض له التلميذ.بالإضافة الي هذا، يتم إيهام المعلم بأن التلميذ مريض بالقلب.
التجربة هي أن يقوم المعلم بقراءة مجموعة كلمات و مرادفاتها. بعد أن ينتهي يقرأ المعلم كل كلمة و علي التلميذ أن يقول معناها. إن أخطأ التلميذ، يقوم المعلم بضغط زر يقع امامه ينقل صاعقة كهربية للتلميذ. كل مرة تزيد قوة الصاعقة الكهربية عن المرة التي قبلها حتي تصل الي 450 فولت بينما ينتقل صراخ التلميذ الي المعلم من خلال المايكروفونات. بالطبع لا توجد أي صواعق، و التلميذ هو مجرد ممثل يقوم بدور من يصعق كهربياً، و بعد عدة صعقات يبدأ بالطرق علي الجدارن و النحيب و الصراخ بان قلبه المريض لا يحتمل المزيد.
الفكرة هنا أن بعض الناس تتوقف أيحانا أو تتردد في إستكمال التجربة، و لكن المشرف علي التجربة يقول له “لابد أن تستمر، التجربة تطلب هذا، الخ”. الهدف هو قياس المدي الذي يتوقف عنده الشخص عن تعذيب التلميذ و يعصي الأمر الموجه له من المشرف علي التجربة.
نتيجة التجربة ان 65% ممن مروا بها إستمروا حتي النهاية (التجربة تنتهي عندما يتم إعطاء ثلاث صعقات كل منها 450 فولت و هو الحد الأقصي). لم يتوقف أي من المتطوعين قبل الوصول لصاعقة ال 300 فولت. 84% من المتطوعين قالوا إنهم (إستمتعوا) بهذه التجربة. بعد هذه التجربة بست سنوات ارسل احد المتطوعين رسالة الي ميلجرام يقول فيها أنه لم يكن يدرك هل هو يقوم بالتعذيب كقناعة شخصية ام طاعة للأوامر، الامر الذي جعله خائفاً من نفسه فيما بعد حين يتفكر فيما حدث.
إستنتج ميلجرام من التجربة أن الشخص العادي قد يطيع الأوامر حتي إن تناقضت مع ما يؤمن به إن آمن بأنه مجرد أداة وليس له خيار او رأي. الشخص العاجز عن إتخاذ القرار سيترك الأمر للمجموعة ، هذه المجموعة قد تكون المؤسسة التي يعمل بها او رئيسه في العمل أو أي شخص آخر.
قبل أن أنتقل الي التشابه بين نتائج هذه التجارب و ما يقوم به الجنود الامركيين في الوقت الحالي، اريد أن الفت النظر الي نقطتين. النقطة الأولي هو أن العلماء الذين قاموا بهذه التجارب حاولوا أن يختاروا لها اشخاص “عاديين مسالمين”، و لكن اغفلوا نقطة هامة هي أنهم أمريكيين.
الشخص الأمريكي العادي ليس هو الإنسان العادي نفسياً و خلقياً حتي مقارنة بالإنسان في كثير من الدول الغربية. المجتمع الذي قام علي مبدأ Finders Keepers Loosers Wheepers ( وهو احد الأمثال الشهيرة التي يعرفها الاطفال الأمريكيين و يعني أن من وجد شيئاً فهو مالكه و علي صاحب الشيء الحقيقي أن يبكي علي ما ضاع منه) لا يمكن تصنيفه علي أنه مجتمع سوي نفسياً أو أخلاقياً. أن يكون هناك أشخاص نفعيين أو ماديي التفكير في أي مجتمع فهذا طبيعي، و لكن الغريب في المجتمع الأمريكي أنه مجتمع قام ككل منذ نشأته علي النفعية و الإستغلال. أعتي المستعمرين حاول أن يجمل فكرة الإستعمار بكل شكل، علي سبيل المثال من خلال فكرة “عبء الرجل الأبيض”، ولكن المثير في الأمريكيين أنهم – و منذ نشأة المجتمع الأمريكي- لم يحاولوا تبرير إبادة الهنود الحمر، بل إن الفكرة المنتشرة لديهم هي فكرة أننا أبدنا الهنود الحمر لأنهم غير جديرين بالأرض التي منحهم الله إياها و إلا لأستطاعوا أن يدافعوا عنها. المجتمع الذي نشأ و يعيش علي هذه القيم ليس هو المجتمع الذي يؤخذ منه “الشخص العادي” الذي يصلح كمقياس في التجارب النفسية. فكرة أن الشعب الأمريكي مختلف اخلاقياً و نفسياً عن باقي شعوب العالم فكرة لاحظها الكثيرون في الكثير من النقاط.
مايكل مور المخرج المشاغب قال في فيلم Bowling for Columbine إن نسبة الوفيات بالسلاح في أمريكا هو 11 ضعفاً لنفس العدد في إنجلترا. الدولة الوحيدة في العالم تقريباً التي يمكن فيها أن يدخل طالب مسالم الي حرم جامعي ليفرغ مدفعه الرشاش في زملاؤه ثم ينتحر، الدولة صاحبة اكبر عدد من القتلة المتسلسلين و المختلين نفسياً ليست هي مصدر الإنسان العادي المسالم الذي يمكن القياس به.
ستيفن كينج كتب روايته الشهيرةRage التي تدور عن طالب يحتجز زملاؤه و مدرسيه كرهائن و عندما إنتقده الناس و قامت الFBI بالتحقيق معه بشأن روايته، قال إنها مجرد إخراج لما في نفسه علي الورق – مثلها مثل كل قصصه تقريباً- و أنه لم يقصد بها اي نوع من نشر هذا التفكير، و قد كتب يدعو من يجد في نفسه الرغبة في القتل أن يمسك بورقة و قلم و يحول افكاره الي قصة بدلأ من أن يقتل بالفعل، و كأنه من المعتاد في المجتمع الأمريكي أن يشعر المرء برغبة ملحة لقتل و إختطاف بعض الأبرياء.
علي مستوي السياسة فإن الساسة الأمريكيين كما يقوم الأستاذ محمد حسنين هيكل، لهم أسلوب تفكيرهم المميز القائم علي التغاضي عن أي شيء (حتي عن السمعة السياسية و العسكرية) إن ظهرت أدني بادرة لأي قدر من الخسائر، مع ضرب عرض الحائط بكل القوانين و المواثيق الدولية مما يجعل بعض السياسيين الغربيين يقعون في حيرة شديدة اثناء تعاملهم مع نظرائهم من الساسة الأمريكيين.
أيضاً من النقاط المثيرة التي ذكرها الأستاذ محمد حسنين هيكل فكرة أن إسرائيل تقدم في المجتمع الأمريكي علي أنها “مشروع ناجح”. هؤلاء قوم وضعوا لأنفسهم أهدافاً و حققوها، و هو مبرر كافي لكسب إعجاب و تأييد المواطن الأمريكي. لا أحد يتحدث عن الحقوق أو الكيفية التي تم تنفيذ هذا “المشروع” بها.
حتي علي مستوي الأدب و الفنون يعرف الكثيرون أن اوروبا كحضارة اكثر عمقاً و رقياً من امريكا الأكثر تقدماً و ثراءاً.
النقطة الثانية أن أي من التجربتين لم تأخذ الدين في الإعتبار. لم تحاول اي من الدراستين قياس مدي الإيمان الديني لدي المتطوعين. ربما كان من المنطقي أن لا يخطر الدين بذهن العلماء الذين قاموا بالتجربة من منطلق أن المجتمع الأمريكي هو احد اكثر المجتمعات ضياعاً من ناحية الإيمان الديني. المجتمع الأمريكي مليء بال agnositcs و ترجمتها (اللا أدري) - و هو من لا يدري ما هو الدين الصحيح و لن يرهق نفسه بالبحث عنه لأنه شيء لا فائدة منه - و مليء بالمتعصبين لمذاهب غريبة مثل ال Creationism, Intelligent design ، الخ، و هي افكار دينية نادراً ما تتطرق للتعامل بين البشر و تهتم بأشياء مثل تاريخ خلق الأرض و الإنسان، دعك ممن يتبع دينا سماوياً يتعامل معه علي أنه شيء ثانوي تكميلي في الحياة، فضلاً عن الملحدين من الأساس.
و لكن إن تم إجراء هذه التجارب مع وضع الدين في الإعتبار فإني أعتقد أن النتائج ستكون مختلفة بكل تأكيد.
نتائج التجربتين التي قام بهما ميلجرام و زمباردو تتشابه مع الكثير مما يقوم به الجنود الأمريكيين في العراق و جوانتانامو حالياً، مع إضافة نقطة أخري هي أن الجندي الأمريكي ليس هو الشخص المتوسط مادياً و إجتماعياً و نفسياً و ثقافياً الذي تمت إجراء التجربة عليه. في الوقت الحالي فإن 11.6 % من الجنود الذين يلتحقون بالجيش الأمريكي من ذوي السوابق الجنائية. في فيلم 911 فاهرنهايت، عرض مايكل مور كيف يتم إختيار و إقناع الزنوج و الفقراء بالإنضمام الي الجيش الأمريكي. هم اشخاص بلا أي مستوي مادي أو إجتماعي غالباً و يمثل الجيش بالنسبة لهم مصدراً للدخل و وظيفة بشكل ما. إن كانت نتائج التجربتين أن الشخص العادي تحت الضغط و إمتلاك النفوذ قد يصدر منه الكثير من العنف و التجاوز، فما بالنا بالشخص الجاهل الفقير الذي له سوابق إجرامية بالفعل؟
في مقال مثير للإهتمام نشر في مجلة New Republic، كتب أحد الجنود الأمريكيين عن بعض الأفعال العنيفة التي صدرت منه و من زملاؤه. هذه بعضها:
- كانت إحدي الفتيات الأمريكيات العاملات في الجيش الأمريكي ذات وجه مشوه تماماً بسبب شحنة متفجرة إنفجرت فيها. الفتاة كانت إنطوائية كما هو متوقع و لا تحتك بزملائها من الجنود أو تتكلم معهم. في أحدي المرات في أثناء وقت الطعام جلست هذه الفتاة علي منضدة تقع بجوار الجندي كاتب المقال. بعد دقائق قام زميله الذي يجلس بجواره و القي بالملعقة و صاح بأعلي صوته بأنه لا يستطيع أن يأكل بينما هذا “المسخ” يجلس بجوارهم. بالطبع تجمدت الفتاة و لم ترد. المثير أن كاتب المقال رد عليه مازحاً-بصوت عالي تسمعه الفتاة- بأنه علي العكس يراها مثيرة Hot . نحن هنا أمام عنف نفسي و إنعدام شفقة ليس تجاه العراقيين بل تجاه امريكية زميلته. يقول كاتب المقال أنه كان فيما مضي مشتركاً في أنشطة لمساعدة المعوقين بأمراض في المخ و أنواع أخري من الإعاقات الجسدية، و حين فكر فيما بعد فيما صدر منه ذهل و شعر بالحزن و الخوف والإشمئزاز من نفسه، ولكن باقي زملاؤه لم يفكر أحدهم فيما حدث و لم يفكر أحدهم في ان ينتقد الموقف بل إستحسنه الجميع علي أنه نوع من الدعابة الجيدة. الموضوع يذكر بذلك المتطوع الذي ارسل لميلجرام يقول أنه صار يخاف من نفسه حين يفكر فيما بدر منه في التجربة.
- أحد الجنود من زملاء الكاتب يسعد للغاية بركوب السيارة المدرعة لأنها تشعره بالسيطرة و القوة. هو يسير بها في شوارع العراق بأقصي سرعة ليدهس بها الكلاب في الطريق، بل إنه قد يوقف السيارة ريثما يمر من أمامها كلب ثم ينطلق بأقصي سرعة ليدهسه.
- حين الكشف عن المقابر الجماعية فإن الجنود يتعاملون مع الجثث بكثير من الإستخفاف ، و يتعاملون مع الأمر علي أنه شيء فكاهي. في أحد المرات أثناء الكشف عن مقبرة جماعية من عهد صدام، قام أحد الجنود بوضع جمجمة طفل صغير علي راسه مثل التاج و سار متبختراً وسط زملاؤه بينما الجميع يضحك و يمزح. لا حرمة للجثث و لا شعور بادني قدر من الحزن أو الأسف تجاه هؤلاء الذين قتلوا و دفنوا جماعة.
ما ذكر في هذا المقال هو بعض ما يقوم به الجنود في العراق. حين تأتي بشخص جاهل فقير عنيف عديم الثقافة سطحي التفكير، و تعطيه القوة ( التي يستمدها من السلاح الذي يحمله و المدرعة التي يركبها) و الخوف من الموت بسبب كثرة العمليات الإستشادية و التفجيرات فلابد أن تتوقع الأسوأ.
الكثير من الجنود العائدين من العراق ذكروا أنهم لم يعودوا قادرين علي الحياة بشكل طبيعي. الكثير منهم صار يفتقد القوة التي يستمدها من السلاح، و من نظرة الخوف في عين البسطاء العراقيين التي كان يراها اثناء عمليات التفتيش و التمشيط. الكثير منهم صار عاجزاً عن التعامل مع اهله و أصدقاؤه و كثرت حالات التفكك الأسري. من جديد هنا التشابه بين ما يحدث و ما قاله المتطوعين في التجارب عن إستمتاعهم بالعنف الذي مارسوه.
هناك أيضاً العنف والغضب الذي لابد أن يخرج في “إتجاه ما”. في السيتينات و أثناء غزو أمريكا لفيتنام وقعة مذبحة تدعي مذبحة مي لاي. بإختصار مخل أقول أن هذه المذبحة وقعت لأن إحدي القري الفيتنامية كانت تساعد رجال المقاومة، أو هذا ما قيل في التحقيقات و المحاكمة التي كان بها الكثير من التساهل و الإنكار و المشكوك كثيراً في صحتها- كان كولين باول أحد الذين قاموا بهذه التحقيقات - فقام الجيش الأمريكي بإبادة القرية كلها، و لم يكن بها وقت إبادتها إلا النساء و الأطفال و الشيوخ الذين كان بعضهم قد تعدي الثمانين من العمر. هذه المذبحة كانت أحد أهم العوامل التي سببت سحب الثقة و الشك في حرب فيتنام لدي الرأي العام الأمريكي.
المثير أن بعض من شاركوا في حرب فيتنام اعلنوا مؤخراً أن مذبحة مي لاي هي المذبحة التي تسربت اخبارها و صورها و تفاصيلها للإعلام، و لكن هناك الكثير من المذابح المشابهة التي لم تعرف بها أحد. الكثير من الجنود إعترفوا أن هذه المذابح كانت في المقام الأول إنتقام من رجال المقاومة الفيتنامية. هو قدر من الغل و العنف الذي لابد أن يخرج في إتجاه ما، و هذا الإتجاه غالباً ما يكون العزل الأبرياء.
نفس ما حدث في مي لاي يحدث في العراق بشكل أو بآخر. بل و كما ذكر سابقاً قد يخرج من الجنود بإتجاه بعضهم البعض أحياناً.
في النهاية اقول أن كل هذا يذكر المرء بما كان يفعله الرسول عليه الصلاة و السلام و الخلفاء الراشدون حين كانوا يسدون التعليمات الي الجيوش في الغزوات بعدم قتل النساء و الأطفال و الضعفاء و البعد عن الإعتداء. علي من يذهب لحرب ما أن يتسلح بأكبر قدر من المباديء و القيم و الأهداف السامية و إلا فإن النتيجة ستكون كارثية.