في عام 2000 ظهرت في الأسواق لعبة كمبيوتر تدعي جندي الثروة Soldier of fortune ( و هو لفظ غربي للتعبير عن المرتزقة). كانت Soldier of fortune لعبة قتال حاول مصمموها أن يحققوا فيها أقصي قدر ممكن من الواقعية فأستعانوا بأحد المرتزقة أثناء تصميم اللعبة ليرشدهم اللي كيفية تصميم المعارك. بالإضافة إلي هذا وضع مصمموا اللعبة فيها بعض الأشياء التي كانت وقتها شيئاً حديثاً وسط الألعاب هو أن أطراف الأعداء (أرجلهم و أيديهم) تطير و تتناثر منها الدماء حين تصاب بالرصاصات.
عندما ظهرت اللعبة في الأسواق ظهر مقال يعلق عليها و يتهمها بأنها تعلم الناس القتل. قال كاتب المقال أن المرء لكي يقتل، يحتاج أن يعرف كيف يستخدم السلاح، و يحتاج لأن يتقبل القتل نفسياً (و هو ما تعلمه له اللعبة علي حد قوله) و يتبقي له الإرادة لكي يقتل لكي تكون لدينا جريمة كاملة.
بالطبع الكلام غير منطقي، و لكنه يمثل نموذجاً لموجة من النقد للحضارة الغربية عموماً، موجة تتهم أفلام العنف و العاب الكمبيوتر بل و حتي المسلسلات الكوميدية التافهة بإفساد عقلية الناس و تقليل قدراتهم العقلية و تعليمهم العنف و تقليل العلاقات الإجتماعية فيما بينهم.
علي الجانب الآخر هناك من يستحسن نموذج التسلية و الترفيه الغربي لاسباب علمية. في كتابه المثير للجدل (كل شيء سيء هو شيء جيد بالنسبة لك Everything Bad Is Good for You) ناقش ستيفن جونسون فكرة أن أساليب الترفيه صارت أكثر تعقيداً مما كانت في الماضي. تشابك الأحداث في الأعمال السينمائية مع عرض أكثر من خيط للأحداث في نفس الوقت و كيفية عرض هذه الأحداث و الربط بينها، العاب الكمبيوتر المعقدة التي تجبرك علي التفكير علي عدة محاور و إستكشاف عالم اللعبة بنفسك بدلاً من أن تعطيك المعلومات مباشرة، حتي المسلسلات الكوميدية التي تعج بالكثير من العلاقات المتشابكة بين الأشخاص، كل هذا يساهم في رفع نسبة ذكاء المشاهد و مدي قدرته علي التفكير في أشياء أكثر تعقيداً مما إستطاع الإنسان في الماضي القريب التفكير فيه أو تقبله.
إن ناقشنا فكرة أن الألعاب و الأفلام تعلم الناس و الأطفال العنف فأنا أري أن هذا هراء. أنا العب العاب الكمبيوتر منذ زمن و مما لاحظته علي نفسي و علي كل من أعرفهم ممن يلعبون العاب القتال فهي لا تثير فينا أي ميول عدوانية أو تعلمنا القتل. لم أر طفلاً ممن يمئلون مقاهي الإنترنت لدينا ممن يقضون وقتهم في لعب العاب القتال قد أمسك مدفعاً رشاشاً و أفرغه في زملاؤه في الفصل أو تحول إلي قاتل متسلسل مثلاً.
هناك حاجز نفسي ضخم يمنع إندماج الناس في الألعاب و الأفلام علي أنها حقيقة، هو فكرة أن هذه لعبة أو أن هذا فيلم و سينتهي بعد ساعة أو ساعتين، و بالتالي مهما مارس الإنسان القتل في الألعاب فإنه يظل مدركاً أنه يلعب و لا يمارس القتل فعلياً. أنا لا أري أن العنف يمثل أدني مشكلة حين يعرض في لعبة أو فيلم، دعك بالطبع من كيفية إستخدام السلاح فهي نقطة أكثر بلاهة من أن تناقش.
و لكن فكرة أن زيادة التعقيد في أساليب الترفيه الحديثة هي في مصلحة الإنسان هو أيضاً شيء يحتاج إلي وقفة. بالطبع زيادة التعقيد في الأحداث أو الألعاب تساهم في زيادة تعقيد تفكير الإنسان و لكن ما فائدة هذا الذكاء إذا كانت الألعاب و الأفلام تغرس معلومات و أفكار خاطئة في الناس جنباً إلي جنب مع الذكاء الذي ترفعه لديهم.
المرء يستغل ذكاؤه بالإضافة لما لديه من معلومات ليتخذ قرارات في الحياة. إن كنت في ذكاء نيوتن و لكن لديك معلومة خاطئة بأن مدينة نصر تقع في المكسيك فلن ينفعك ذكاؤك في الوصول إلي مدينة نصر مهما فعلت. الفكرة أن وسائل الترفيه الحديثة تنقل الكثير من الأفكار الخاطئة التي لن ينفع معها الذكاء في كثير أو قليل.
الأمثلة لا حصر لها. في السياسة لديك الأفلام التي تظهر الشعب الأمريكي و الجندي الأمريكي و الرئيس الأمريكي (أي رئيس في أي وقت) علي أنه قمة في الوطنية و الإخلاص و الإنسانية و علي إستعداد في أي وقت للتضحية بحياته من أجل الوطن. حتي حين تم إنتقاد السياسة الأمريكية في بعض الأفلام الأمريكية فإنها إنتقدت بشكل مفسد للأفكار و الأخلاق تماماً.علي سبيل المثال، في فيلم (ولد في الرابع من يونيو Born on the 4th of july) كان توم كروز جندياً شجاعاً تطوع للحرب في فيتنام دفاعاً عن الوطن فأصيب إصابة سببت لها شللاً، فصار يسير في المظاهرات التي تدعو لوقف الحرب لأن " أبناءنا يموتون فيها “. لم يذكر أحد فكرة إيقاف الحرب لأننا نقتل الأبرياء هناك بل لأننا نتضرر منها.
ماذا عن العلاقة بين الرجل و المرأة؟ ماذا عن إظهار المرأة ككائن جميل للتسلية فقط، مع إهمال الجانب النفسي و العقلي الذي تمثله المرأة، و الذي لا غني عنه لإستقرار الأسرة و المجتمع بل و لسعادة الرجل ؟ ألا يساهم هذا في تكون أسلوب تفكير خاطيء لدي المجتمع ككل بغض النظر عن مدي قدرة الناس علي التفكير المعقد؟
في مقال طريف نشر مؤخراً، كتبت إمرأة أمريكية عن لقاء عاطفي date للتعارف بينها و بين طبيب. كما هي عادة الأمريكيين كان اللقاء في مطعم لتناول العشاء، و كان المطعم الذي وقع الإختيار عليه مطعم إيطالي. مر اللقاء بشكل جيد حتي جاء النادل بعد إنتهاء العشاء ليسأل إن كان الطعام قد راق لهم فكلمته كاتبة المقال باللغة الإيطالية التي تجيدها من ضمن عدة لغات أخري.
عندها تغير وجه صديقها الطبيب و عبس و ظل حتي نهاية اللقاء شارداً لا يتكلم. هو لم يتصور أن تكون المرأة مثقفة أو هو لم يحب أن يقيم علاقة مع إمرأة مثقفة علي الرغم من أنه طبيب، و ليس شخصاً بسيط التعليم و الثقافة. هي موجة من الفكر المنتشر في الولايات المتحدة كما تظر الإحصائيات التي تقول أن معظم الرجال مهما كان مستواهم العلمي أو العقلي ينفرون من المرأة حين تبدي قدراً من الثقافة و الذكاء، و لا يميلون إلا للمرأة الجملية الرقيقة خفيفة الظل خاوية العقل.
المشكلة أن المرء يحتاج لقدر عال من الثقافة و العلم لينتبه الي الأفكار المغلوطة التي يتم دسها في وسائل الترفيه الحديثة و ليقوم بإختيار ما يقبله و ما لا يقبله من أفكار.
في حوار حديث أجرته معه مجلة تايم ، إنتقد ستيفن كينج الإعلام الأمريكي لتركيزه علي أمور تافهة و إهماله الكثير من الأحداث الهامة التي تحدث في العالم و التي يلعب الأمريكيون دوراً فيها. في الوقت الذي تؤيد فيه أمريكا ديكتاتوراً مثل برويز مشرف بينما هي دخلت العراق بدعوي الديمقراطية، نجد أن وسائل الإعلام الأمريكية تهتم بمن سيكون له الوصاية علي أبناء بريتني سبيرز و ما إذا كانت ليندسي لوهان قد تناولت الخمر في عيد ميلادها الواحد و العشرين أم لا. لقد تحولت الحضارة الأمريكية من حضارة مهتمة بالسياسة و الإقتصاد و الصناعة الي حضارة تهتم بالترفيه لذات الترفيه.
في هذا الحوار أبدي كينج ملاحظة ذكية هي أن بريتني سبيرز تشتهر بأنها شهيرة. مبيعات ألبوماتها الغنائية في إنحدار مستمر و علي الرغم من هذا هي دائماً علي أغلفة مجلات المشاهير، و بالتالي فهي شهيرة بأنها من المشاهير Celebrity ولم تعد شهيرة بأنها مطربة ناجحة. يري كينج أن المجتمع الأمريكي عليه أن يراجع نفسه في ما إذا كانت وسائل و قنوات الإعلام الحديثة مثل youtube و MTV و كل ما ينشر ثقافة المشاهير Celebrities تمثل ضرراً للمجتمع ككل أم لا.
هنا نري جانباً آخر لفكرة رفع مستوي الذكاء و تعقيد التفكير، و هي في ماذا يستغل المرء هذا الذكاء الذي كونته لديه وسائل الترفيه؟ أو بعبارة أخري، فإن وسائل الإعلام و الترفيه تسهم في تكوين إهتمامات الناس و هواياتهم. لمزيد من التوضيح أنظر الي هذه الصورة و حاول أن تصف ما تري.
بالطبع معظم من يري الصورة منا سيصف مجموعة من الناس يجلسون في غرفة لها نافذة مربعة. حين تم عرض هذه الصورة علي أشخاص من شرق أفريقيا، وصف معظم من رأي الصورة مجموعة من الأشخاص يجلسون تحت شجرة و بينهم إمرأة تحمل صندوقاً علي رأسها. في هذه المنطقة من المعتاد رؤية النساء يحملن أثقالاً فوق رؤسهن، بالإضافة الي كثرة الأشجار و الغابات و قلة المنازل الخرسانية.
هذه الصورة يستخدمها علماء النفس كدليل علي أن تفسير المرء لما يراه يتأثر بالبيئة و الثقافة التي نشأ فيها، حتي إن كان ما يراه يحتمل تفسيرات أخري.
و الآن لنعد الي وسائل الترفيه و تأثيرها علي معدل ذكاء الناس، فإن إقتنعنا أن وسائل الترفيه الحديثة تزيد من قدرة الناس علي التفكير في أمور معقدة، فإنها أيضاً تحصر هذا التفكير في نقاط معينة دون غيرها. الشخص الذي نشأ و هو يري تركيزاً غير عادي في وسائل الإعلام علي آخر أخبار المشاهير و آخر الفيديو كليبات التي لا تحتوي علي أي مضمون إنساني أو أخلاقي من الصعب عليه أن يبحث عن الجوانب الإنسانية و الأخلاقية من الحياة حتي إن وجدها أمامه فلن ينتبه لها.
إعتدت قبل أن أشتري كتاباً أو منتجاً ما أن أبحث عن نقد له من أشخاص إشتروه من قبل. حين بدأت قراءة قصص كينج ذهلت للمحتوي الإنساني المهول في كل كتاباته و الذي لم يذكره أحد تقريباً في النقد الذي يكتبه القراء لكتبه و ينشر علي الإنترنت علي مواقع مثل أمازون. مثلاً حين تجد قصة مثل مقبرة الحيوانات الأليفة و التي بها الكثير من المشاعر الإنسانية لأب فقد إبنه و فكرة التسليم بالقدر علي الرغم من صعوبته ثم تجد أن كل ما كتب عنها هو وصف لمدي الرعب الموجود فيها فلابد أن تشعر أن شيئاً ما خطأ. من المنطقي أن ينتبه الناس إلي أن كتابات كينج تحتوي من هو أكثر عمقاً و أهمية من الرعب و لكن هذا لم يحدث، غالباً لأنهم لم يعتادوا علي رؤية أي شيء عميق أو ذو قيمة فيما يحيط بهم من وسائل الترفيه.
حين دخل ستيفن كينج السينما ليشاهد فيلم كاري المأخوذ عن القصة التي قام هو بتأليفها، لاحظ أن أكثر المشاهد إرعاباً و الذي جعل المشاهدين في السينما يصرخون رعباً هو مشهد لم يوجد في القصة أساساً. من السهل علي المخرجين أن يزيدوا علي ما لدي كينج من قدرة علي الإرعاب. المشكلة أن الجانب الإنساني في قصصه غالباً ما يسقط من إهتمامات المخرج، و هذا سبب لعدم رضا كينج عن الكثير من الأفلام التي أخذت عن قصصه علي الرغم من نجاحها مادياً و جماهيرياً.
التفسير المعتاد للدور الذي تلعبه وسائل الإعلام هو أن شعب من الحمقي أسهل في حكمه من شعب من المثقفين الأذكياء. ربما كان هذا صحيحاً، و ربما كانت التفاهة أكثر ربحاً، و لكن الربح المادي ليس هو المعيار الوحيد لتقييم الأمور، و هذه أيضاً إحدي النقاط التي ساهمت وسائل الإعلام في طمسها في مشاعر الناس و أفكارهم !