[caption id="" align=“aligncenter” width=“600”] لينينجراد تحت الحصار 1942[/caption]
سبتمبر 1941، لينينجراد، الإتحاد السوفيتي.
سحابة من التراب الأبيض تعلو المدينة في منظر خلاب، خصوصاً وذرات التراب الدقيقة تتلألأ في ضوء الشمس الغاربة. كانت هذه السحب مزيج من الدقيق والسكر المتناثرين من مخزن السلع التموينية الخاص بالمدينة بعد أن قصفه النازيون. خيمت هذه السحابة على المدينة طوال الليل ثم حملتها رياح البلطيق بعيداً في الصباح. لم يتبق شيئاً لإطعام المدينة ذات الثلاث ملايين مواطن.
استمر حصار النازيين لليننجراد لتسعمائة يوم بالتمام والكمال، انخفض فيها نصيب الفرد من الطعام الي 125 جرام من الخبز فقط لا غير يومياً. انقطعت المياه وانعدم الوقود ووسائل التدفئة. في خلال شهري يناير وفبراير 1942 فقط، مات مائتي ألف شخص من الجوع والبرد والأمراض. مجموع من ماتوا من سكان المدينة في خلال التسعمائة يوم كانوا تقريباً 750 ألف شخص، على الرغم من هذا لم يتوقف الإنتاج الحربي في المدينة ولم تستسلم أو تسقط في يد النازيين.
إلا أنه بعد الحرب بعدة سنوات لم يتحدث أحد عن تفاصيل الحصار. كلما سئل أحد الكبار الذين عاصروا الحصار عن يومياتهم في المدينة تري نظرات زائغة ويتجنب الكل الحديث في الموضوع مع عبارات عامة مطاطة من نوعية “كنت أحاول أن أحمي أهلي وأسرتي” و “كنا نحاول الحفاظ علي المدينة من السقوط في يد النازيين”.
كان الشيوعيون يحاولون بناء صورة خلابة لحصار لينينجراد تظهر فيه المدينة ككتلة متماسكة من البطولة في وجه الغزو النازي وأي رواية أخري تدحض هذه الصورة كانت مرفوضة، ونشأت أجيال كاملة لا تعرف عن الحصار إلا صورة معقمة للبطولة والمثابرة والفداء. بالمثل، رفض السوفييت الحديث عن الفظائع التي قام بها النازييون في الإتحاد السوفيتي. اليهود ملئوا العالم ضجيجاً بسبب نصف مليون يهودي ماتوا علي يد النازيين بينما السوفيت مات لهم عشرين مليوناً و لم يتكلموا عن الموضوع. صحيح أن الأمر كان واضحاً حينما انتفضوا و انقضوا علي الألمان، فالنازيين كانوا يفضلون أن يقتلهم الأمريكيين عن أن يأسرهم السوفييت بسبب ما تعرض له الألمان في معسكرات إعتقال السوفيت، و لكن لم يتم الكلام بشكل علني عن ما عاناه السوفيت علي يد النازيين، و لم يكن حصار لينينجراد إستثناءاً لهذه القاعدة. فقط عندما جاء جورباتشوف في الثمانينات، ومع سياسة الجلاسنوست – والتي تعني (المصارحة)، مصارحة الشعب بالحقائق دون الإخفاء الذي كان يقوم به الشيوعيون – ظهرت الروايات المرعبة عن يوميات الحصار وخرجت المذكرات التي خبأها أصحابها أو ورثتهم.
الآن صار بالإمكان أن نري مشاهد مثل مشهد الفتاة المراهقة التي كانت تموت بجوار الجدار فاقترب منها فتي يهزها ويكلمها إلا أنها كانت فاقدة الوعي وتهلوس فنزع عنها حذائيها، فلما قال له الناس إنها لم تمت بعد، رد بأنها أمامها نصف ساعة وتموت بينما هو الآن قدميه تتجمدان من البرد، وبالفعل ماتت الفتاة بعدها بنصف الساعة تقريباً. هل رأيت مشهد الناس التي كانت تقضي حاجتها في الطرقات لأنه لم تعد هناك مياه في المدينة؟ هل رأيت مشهد الرجل الذي مات أبيه فانتظر بضعة أيام قبل أن يدفنه ريثما تموت أمه لكي ينهي إجراءات الدفن لهما سوياً لأنه لا يستطيع أن يذهب إلى المكاتب الإدارية مرتين بسبب البرد ونقص الغذاء؟ هل رأيت تكالب الناس وتدافعها على الطعام؟ هل رأيت أعمال النهب والسرقة؟ بالطبع أنت لم ترهم لأن الشيوعيون منعوا أن يتحدث أحد عن هذا. بالنسبة لهم نحن أمة من العظماء الذين لا يضعفون ولا يخطئون، وقفنا في وجه الحصار النازي لتسعمائة يوم ومات منا 750 ألف شخص ونهضنا في النهاية وانتصرنا بدون أن يبدر منا أدني خطأ أو يعترينا أدني ضعف. يعرف علماء النفس أن هناك مجموعة من الحيل التي يلعبها المرء مع نفسه ليتجنب أن يوجهها بالحقيقة حين تكون الحقيقة مؤلمة أو أكبر من قدرته على التحمل. مثلاً أنت تتظاهر بينك وبين نفسك أنك فعلاً مقتنع بالحاكم الظالم لأنك لا تستطيع أن تتحمل نتيجة مواجهته بظلمه ولأنك في نفس الوقت لا تتحمل فكرة أن تبدو جباناً أمام نفسك. علماء النفس يسمون هذه الحيل (ميكانزمات دفاع Defense Mechanisms).
إلا أننا هنا في هذا المقال سنتحدث عن ميكانزمات الدفاع الجماعية التي يمارسها مجتمع بأكمله وليس فرد بعينه، الأكاذيب والحيل التي يلعبها المجتمع كله لتجنب أن يواجه نفسه بحقيقة مؤلمة أو مؤسفة.
حين تحدثت مع أمي عن ثورة يناير وذكرت العنف الذي مارسه الفقراء أثناء الثورة رفضت الفكرة. عندما سألتها عما سبب انكسار الشرطة قالت إنهم الشباب المسالم مثلي ومثل أخي. لنتحدث قليلاً عن أمثلة لما قمنا به أنا وأخي أثناء الثورة. في يوم 28 يناير وعند الموسكي، تعرضت المظاهرة التي كنا نسير فيها إلى هجوم بقنابل دخان من رجال شرطة يرتدون زياً مدنيا يقفون فوق كباري المشاة. لم يكن أحد يتوقع هذا وهتفت في أخي أن يسد أنفه وجرينا. بالطبع هذا خطأ مني لأنه في موقف مثل هذا لا يجب أن تجري لأنك ستتنفس الكثير من الدخان، ولأننا محدثي قنابل دخان فإن أخي سد أنفه لكنه تنفس براحته من فمه ودخلت رئته كمية محترمة من الدخان. تفرقت المظاهرة في الحواري الضيقة وكاد أخي أن يغشي عليه. في النهاية عجزنا عن دخول ميدان التحرير. بالنسبة لي فإن طولي يزيد عن المائة و ثمانين سنتمتر و وزني يزيد قليلاً عن الستين كيلوجرام. بعبارة أخري أنا هيكل عظمي وأي شجار سأدخل فيه سأخسره بالثلث غالباً. في يوم موقعة الجمل بعد أن شاركت قليلاً في الدفاع عن الميدان من ناحية كوبري قصر النيل بإلقاء الحجارة على المهاجمين، لم أحتمل نفسيا أن أهاجم شخص آخر خاصة حين يكون هذا الشخص بهذا القرب، ولم أحتمل موجات التخوين والنزاعات التي تمت بين المتظاهرين أنفسهم داخل الميدان خاصة بعد خطاب مبارك الاستعطافي.
من السخف أن أناقش أمي في قدرات ولديها النفسية والجسدية فإنها لا تكون أماً إن لم تكن تعرف هذه القدرات، وغالباً القدرات النفسية والجسدية لمن هم مثلهم من الشباب المسالم لا تختلف كثيراً. الأمر ليس له علاقة بالعقل والمنطق بل فقط بالصورة المعقمة للثورة التي نقلها الإعلام وراقت للكثيرين ومن ضمنهم أمي، قصيدة تميم البرغوثي الرائعة واللقطات المختارة بعناية والموسيقي التصويرية، كل هذا يحرك المشاعر بلا شك ولكنه ليس الصورة الكاملة. هم لا يستطيعوا أن يعترفوا بأن هناك عنفاً في الثورة. لا أحد يحب العنف ولا أحد يتمناه، ربما نلتمس بعض العذر لمن قاموا به بسبب ضغوط الواقع السياسي والاجتماعي، وبالتأكيد يجب أن نعمل على اقتلاع كل ما يؤدي للعنف، ولكننا لن نقتلع العنف إن لم نعترف بأنه حدث أصلاً. بالتأكيد هناك مشاهد مليئة بكل ما هو جميل ونقي من دفاع عن مبادئ وتضحية بالذات وفي نفس الوقت هناك غضب مكبوت في نفس من قاموا بالثورة وخرج هذا الغضب في هيئة عنف وحرق للأقسام ومقر الحزب الوطني، الخ. لابد أن أفخر بهذا وأعترف بذاك.
كان من المألوف في مصر أن تسمع الناس تنادي بأنه لابد من ثورة لتصحيح الأوضاع وإيقاف مسيرة الفساد فلما قامت الثورة رفضها الكثير منهم بسبب الكثير من المشاهد التي لابد أن تصاحب الثورة.
يقول سلافوي جيجك، المفكر اليساري السلوفيني، إن الثقافة السائدة اليوم هي ثقافة أخذ كل شيء بدون أي مقابل أو تكلفة من أي نوع، قهوة بدون كافيين، لبن بدون دسم، ما زعمه كولين بأول عن حرب في العراق وأفغانستان بدون خسائر بشرية (في الجانب الأمريكي) وثورات بدون عنف.
ربما أمكن تصنيع قهوة بدون كافيين إلا أن أحداً لم يخترع حتى اليوم حرب بدون خسائر بشرية (وما حدث للأمريكيين في العراق وأفغانستان خير دليل) وبالمثل لم يخترع أحدهم ثورة بدون عنف.
مطالبة الناس بالثورة ثم غضبهم على ما صحبها من عنف قد لا يكون سببه أنهم لم يتوقعوا أن الثورات يصحبها العنف بل ربما يكون سببها أكثر تعقيداً من الناحية النفسية.
في عام 1994 كانت أمريكا تهاجم كوبا لأنها دولة منغلقة على نفسها، تمنع مواطنيها من الخروج أو الهجرة هرباً من الظروف الكوبية الخانقة، وادعت أنها ترغب في مد يد العون للمواطنين الكوبيين. بالتأكيد أمريكا لا تحب أن تجد نفسها وقد أغرقتها موجة من المهاجريين الكوبيين الذين سيمتصون الكثير من موارد أمريكا وفرص العمل بها، إلا انها تثق في أن الحكومة الكوبية لن تتراجع عن موقفها، فلماذا إذا لا نستمر في المطالبة لنضغط على كاسترو سياسياً ونظهر بمظهر الرحماء المدافعين عن حقوق الإنسان؟
هدد كاسترو بأن أمريكا إن لم تتوقف عن ضغوطها فإنه سيفتح بالفعل باب الهجرة من كوبا لأمريكا إلا أنهم لم يأخذوا تهديده على مأخذ الجد ففعلها ! فتح الهجرة من كوبا لأمريكا وأرسل الآف الكوبيين إلي أمريكا التي أسقط في يدها و لم تعرف كيف تتصرف بالظبط، ثم غيرت سياستها تجاه المهاجرين الكوبيين بشكل معلن بعد هذه الواقعة.
اليوم، بنفس الأسلوب يطالب الكثير من اليساريين في أوروبا الحكومة بفتح باب الهجرة للأجانب ليهاجروا إلى المجتمع الأوروبي. هم يعلمون أن المهاجرين سيزاحمونهم في أعمالهم وأقواتهم وسيسببون المشاكل بسبب عاداتهم الاجتماعية والفكرية، إلا أنهم يثقون أن الحكومة لن تفتح باب الهجرة، فلماذا إذا لا نطالب بهذا لنظهر أمام أنفسنا بمظهر نزيه فكرياً وأخلاقياً. بهذه الوسيلة يمكننا أن نفهم مطالبة البعض بثورة في عهد مبارك فلما قامت رفضوها، ربما هم لم يكونوا يتوقعون من البداية أن تقوم ثورة فنادوا بها بقلب مطمئن فلما قامت لم يرضوا عنها أو عن بعض مظاهرها.
الآخر الأكبر Big Other
في أمريكا وأثناء فترة اضطهاد الزنوج، كان هناك فصل عنصري بين البيض والسود بشكل رسمي ومعلن في كل مكان، الأحياء، المواصلات، المدارس، إلا مكاناً واحداً: الكنيسة. لم يجرؤ أحد على أن يضع لافتة على كنيسة ليقول إنها مخصصة للبيض، ولم يجرؤ أحد على مناقشة الفكرة، إلا أنه كانت هناك كنائس للبيض وكنائس أخري للسود. المجتمع كان فيه قاعدة غير مكتوبة وغير معترف بها تنص على أن البيض لابد أن ينفصلوا عن السود في الكنائس، وكل الناس عملت بشكل تلقائي على تحقيق هذه القاعدة بدون أتفاق معلن بألفاظ أو لافتات، ولم يجرؤ أحد يوماً على أن يعلن هذه القاعدة الاجتماعية على الرغم من أن مارتن لوثر كينج قال “إن أكثر وقت فيه تفرقة عنصرية في أمريكا المسيحية هو الساعة الحادية عشر من صباح الأحد”، في إشارة إلى موعد القداس.
أحد المفاهيم الأساسية في التحليل النفسي مفهوم الآخر الأكبر Big Other، وهو يعني كل القواعد والأفكار في المجتمع التي تحكمه دون أن يجرؤ أحد على مناقشتها أو الحديث عنها. ربما كان هذا تفسير الفصل بين البيض والسود في الكنيسة في أمريكا.
بعد وفاة ستالين تولي خرشوف قيادة الاتحاد السوفيتي. في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي انتقد خروشوف سياسات ستالين أمام قادة الحزب. لم يكن هناك شيء غير مألوف بالنسبة للحاضرين، فخروشوف ينتقد السياسات والفظائع التي قاموا هم بتنفيذها. بعد الخطاب عانى اثني عشر عضواً من انهيارات عصبية استلزمت نقلهم للخارج على أثرها لتلقي العلاج. سكرتير الحزب الشيوعي البولندي مات بعدها بأزمة قلبية. ألكسندر فادييف، الكاتب الستاليني، أطلق الرصاص على رأسه.
على الرغم من أن خروشوف لم يقل لهم شيئاً جديداً إلا أنه كسر قاعدة أساسية غير مكتوبة. لا أحد ينتقد ستالين أو الحزب الشيوعي وفي نفس الوقت لا أحد يستطيع أن يقول “ممنوع إنتقاد ستالين”. هذا Big Other بالنسبة للشيوعيين، قاعدة أساسية لا يمكن الكلام عنها وفي نفس الوقت لا يمكن كسرها، وعندما تم كسرها انهار الكثيرون.
خاتمة
من أساسيات الفكر الإسلامي أن “كل بن آدم خطاء”، كل البشر ضعفاء وباب التوبة والعفو والرحمة دائماً مفتوح بشرط أن يعترف المرء بخطئه. ما يهمله الكثيرون هو قبول فكرة أن الإنسان مخطئ ضعيف، قبولها نفسياً وليس عقلياً فقط. ربما يتلاعب عقلنا بنا لكيلا نواجه حقائق مؤلمة إلا أن هذا التلاعب لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، وإن كان من الخطر أن يستمر على مستوي الفرد فإنه من الكارثي أن يستمر على مستوي المجتمع.
لا أحد ينكر بطولة السوفييت في تصديهم للحصار الألماني لما يقرب من ثلاثة أعوام، ولكن في نفس الوقت فإن البشر ضعفوا أمام الظروف الصعبة، من حرب وقلة طعام وقلة ماء وبرد قارص، فصدر منهم أفعال لا نقبلها، إلا أننا في نفس الوقت لا يمكن أن ننكرها أو نتجاهلها. أفعال كهذه تذكرنا أننا بشر ولسنا آلهة، أفعال ندرسها لنتواضع ونحاول أن نمحي الأسباب التي أدت إليها. بالمثل، كل الحيل النفسية التي يمارسها المجتمع ليلتف حول الحقائق المؤلمة يجب أن يواجها يوماً ما لأن الهروب من المشكلة يعني أن تستمر هذه المشكلة إلى الأبد.