حين قرأت أن الفكرة الأساسية لرواية (أشياء مُحتاجة Needful Things )–لم أجد ترجمة أفضل لكلمة Needful للأسف - لستيفن كينج تدور حول أن الشيطان جاء في صورة إنسان وافتتح محلاً في مدينة صغيرة في الريف الأمريكي اسمه (أشياء مُحتاجة)، يبيع فيه لكل شخص شيء يحتاجه بشدة في مقابل مقلب صغير أو حيلة يمارسها على شخص آخر في المدينة، و في النهاية تشتعل المدينة بسبب هذه الحيل المصممة ببراعة، حين قرأت هذا تصورت أن الرواية تنويع علي فكرة أن يبيع المرء روحه للشيطان، الفكرة القديمة قدم الدهر التي بدأت برواية فاوست علي قدر علمي. بالطبع الأشياء التي يحتاجها الناس ستكون الخلود، المال، السلطة، الجمال، الشهرة والحب، الأشياء التي يتمناها الناس منذ بداية التاريخ والتي يمكنفي مقابلها أن يبيع المرء روحه للشيطان.
لكن عندما قرأت الرواية وجدت أنها أعمق كثيراً من هذا التصور السطحي.
في الرواية نري الشيطان تمثل في هيئة (ليلاندجانت)، رجل في الخمسينات من العمر، أنيق المظهر و الكلام. المحل يعتبر محل للتحف أو الأنتيكات، لكن كل شخص يدخل المحل كان يجد شيئاً خاصاً يحتاجه بشدة.
حين يمر (نوريسريدويك)، أحد رجال الشرطة في المدينة أمام واجهة المحل يري صنارة صيد قديمة من ماركة يابانية معروفة. هنا يخفق قلبه بشدة ويتحرك كالمنوم مغناطيسياً ليدخل المحل ليسأل عن سعرها.
كانت العلاقة بين نوريس ووالده مثالية، الكثير من الحب والمشاركة خصوصاً في فترة المراهقة. أصيب والده بأزمة قلبية وهو في سن الرابعة عشر، وحتى اليوم لا يزال يذكر مشهد عودة أمه من المستشفى لتخبره أن عليه أن يكون شجاعاً لأن أبيه قد مات. ما زال موت أبيه محفور في ذاكرته اليوم بعد أن صار في الثلاثينات.
اليوم يري هذه الصنارة القديمة، نفس النوع والموديل الذي كان يستخدمه والده حين كان يأخذه في قارب في البحيرة لصيد السمك أثناء مراهقته. صنارة والده ضاعت وقد بحث عنها أعواماً بلا جدوى، والآن يري مثلها في واجهة المحل. في مقابل الصنارة، يطلب جانت منه أن يقوم بحيله صغيرة، أن يخدش سيارة شخص معين في المدينة. نوريس ضابط شرطة محترم وبالنسبة له فإنه يرفض تماماً أي فعل منافي للقانون، لكن في نفس الوقت هو لا يستطيع أن يترك الصنارة. إنه يحتاجها، لهذا يقبل الصفقة.
(هيوبريست) سكير المدينة. رجل في الخمسينات، موظف حكومي إلا أنه رث الثياب، دائم الشرب وهو محلاحتقارالبعض وشفقة ورثاء البعض الآخر. حين يمر هيو أمام المتجر يري ما يجذب انتباهه: ذيل ثعلب طبيعي كثيف الفراء.
لم يولد هيوبريست سكيراً، كان شاباً واعداً ملتزماً. في الماضي كان والده يمتلك ذيل ثعلب كهذا كان يربطه في هوائي الراديو في سيارته ليطير في الهواء عندما تتحرك السيارة. هيو كان يأخذ السيارة من والده ليخرج مع الشباب من زملاؤه وحين كان الكل يسكر كان هيو يلتزم بأن لا يقرب الكحول وهو يقود السيارة.
اليوم يري هيو ذيل ثعلب يثير فيه الحنين للأيام الماضية، حين كان شخصاً محترماً. ولكن لماذا لا يكون هذا الذيل الجديد مؤشراً لبداية جديدة؟ سيشتريه ويربطه في هوائي الراديو في سيارته ويتوقف عن تناول الكحول ويصبح شخصاً رائعاً مرة أخري، وليكن ذيل الثعلب هو البداية. يدلفهيوإلى المحل ويعقد صفقة مع الشيطان.
ماذا عن(نيتي كوب)؟ نيتي مستواها العقلي محدود. في الواقع هي خريجة مصحة عقلية دخلتها بعد أن قتلت زوجها. نيتي طيبة للغاية، تحب الناس كلهم وإن كانت تخاف منهم. حياتها وحيدة مليئة بالخوف من الناس وهوايتها الوحيدة هي تجميع الأشياء المصنوعة من الزجاج الملون: مزهريات، أغطية مصابيح، تماثيل صغيرة، الخ.
الناس الذين لا يوجد في حياتهم الكثير يضعون الكثير من القيمة والوزن لأشياء بسيطة، نيتي كوب كانت مثالاَ ممتازاً. مثل الزجاج الملون لنيتي كل شيء في حياتها. كان زوج نيتي السابق شخصاً دنيئاً لم يراعي ضعفها العقلي وهشاشتها النفسية. كان يضربها بعنف كثيراً ولم تكن تعترض، لكن في يوم من الأيام كسر لها أحد تحفها الزجاجية عامداً. هنا قتلته. المرأة التي احتملت كسر عظامها مرتين لم تحتمل كسر مزهرية زجاجية. حياتها كلها كانت تدور حول هذا الزجاج الملون لأن حياتها لم يكن بها الكثير.
دخلت نيتي المصحة العقلية وخرجت لتعمل خادمة في المدينة، بنفس خوفها من الناس وضعفها العقلي. أثناء مرورها أمام المتجر رأت مصباحاً شديد الجمال من الزجاج الملون. كما نعلم جميعاً، عقدت نيتي صفقة مع الشيطان مقابل مقلب بسيط تمارسه على أحدهم.
المرأة المهووسة دينيا وجدت قطعة خشب قديمة كلما أمسكها أحدهم وأغلق عينيه شعر بالأرض تتحرك تحد قدميه وشعر بالمطر. جانت يدعي أن قطعة الخشب هذه جاءت من سفينة نوح.
المرأة السفيهة التي تحب ألفيس بريسلي إلى حد الجنون وجدت نظارة شمس يدعي جانت أنها كانت ملك لبريسلي، كلما ارتدتها رأت نفسها ترقص وتعيش مع ألفيس بريسلي شخصياً. لن أتحدث هنا عن كل شخص في المدينة لكني أعتقد أن الفكرة قد وصلت للقارئ
باختصار، وجد كل شخص في المتجر شيء ما يمسه، ليس الثروة ولا النفوذ بل أشياء تحمل لكل منهم قيمة معنوية عظمي.
تدريجياً تستحوذ هذه الأشياء على من اشتروها. يفكر نوريسريدويك في أن يذهب في رحلة صيد في قارب في البحيرة كما كان يفعل مع والده، وسيأخذ معه الصنارة التي اشتراها. لكن ماذا لو أمسكت سمكة كبيرة بالصنارة وجذبت الخيط حتى كسرتها أو أسقطتها في الماء؟ ربما كان الأفضل أن يأخذ معه صنارة عادية يستخدمها في الصيد ويضع الصنارة القديمة تحت قدميه.
يفكر هيوبريست في أن يربط ذيل الثعلب في هوائي الراديو في سيارته. لكن ماذا لو ترك السيارة في الشارع فجاء صبي عابث فأتلف ذيل الثعلب؟ أو ربما سرقه؟ ربما كان من الأفضل أن يضعه في الدولاب، في أعلي رف حيث لا يصل إليه أحد.
كلما خرجت نيتي من المنزل خافت أن يسرق أحدهم المصباح الزجاجي الملون. أغلقت عليه دولاب قديم موجود في الكوخ الصغير الذي في الحديقة، هذا مكان لن يفكر سارق أن يبحث فيه. تأكدت من إغلاق الدولاب عدة مرات لكن عندما خرجت من الباب وبعد أن سارت بعضة خطوات ظهر هاجس صغير: هل أغلقت باب الدولاب بالمفتاح؟ هي متأكدة أنها أغلقته، متأكدة أن مخاوفها هي مجرد هواجس لكن لا مانع من التأكد مرة ثانية. عندما تأكدت ثانية وخرجت من باب المنزل خدشت يدها بالمفتاح لتكون هذه علامة تنظر لها كلما مر هاجس الباب المغلق في ذهنها.
تدريجياً تتلاشي الحياة من تفكير كل منهم ولا يعود يفكر إلا في الشيء الذي اشتراه، توقفت حياتهم وعملهم ولم يعد في الحياة سوي ذلك الشيء الذي اشتراه كل منهم، كيف يحميه، كيف يقضي معه أكبر وقت ممكن يتأمله وينظفه ويعتني به.
هنا نكتشف شيئاً هاماً: هذه الأشياء لا قيمة لها إلا في نظر من اشتراها. الصنارة اليابانية التي اشتراهانوريسريدويك يراها الكل على أنها مجرد عود خشبي حقير، هو وحده من يراها صنارة يابانية محترمة. ذيل الثعلب الفاخر يراه الناس على أنه قطعة مهترئة متعفنة من الفراء تفوح رائحتها من على بعد أمتار. نظارة ألفيس بريسلي هي نظارة حقيرة كسر ذراعها وتم لحامه بشريط لاصق، الخ.
كان ليلاند جانت يعلق لافتة صغيرة داخل المتجر كتب عليها Caveat emptor، العبارة اللاتينية التي تعني (فليحذر المشتري)، وهي العبارة التي تمثل أحد الأسس التي تبني عليها التشريعات القانونية المتعلقة بالرأسمالية.
مشكلة الرأسمالية ليست في القوانين الاقتصادية التي يناقشها علماء الاقتصاد، بل في الأسس الأخلاقية التي تنبني عليها الرأسمالية. من ضمن هذه الأسس مبدأ Caveat emptor، الذي يعني أن البائع يعرف أكثر من المشتري وأن المشتري مسئول عن قراره.
يقول كينج أن رونالد ريجان، الرئيس الأمريكي بكل ما جاء به من قرارات وأفكار رأسمالية كان مصدر إلهام له عند بناءه شخصية الشيطان في الرواية، الشخص الأنيق المهذب الذي يبيع الوهم ويعلي من قيم الرأسمالية وأفكارها.
كان الشيطان يبيع للناس أشياء بسيطة، فقط هي لها القدرة على أن تأخذ ما يلقيه عليها المرء من آلامه النفسية. الأشياء التي كان الناس يحتاجونها لم تكن المال أو الشهرة أو الخلود، فقط الهروب من آلامهم، آلام أحبائهم الذين فقدوهم، ألام إدمان الخمر، إدمان القمار، الوحدة والانعزال، حب المشاهير، الخ. الشيطان يعرف عن البضاعة أكثر منهم إلا أنه طبقاً للمبدأ الرأسمالي غير ملزم بأن يخبرهم كل ما يعرف، كل منهم يشتري على مسئوليته الخاصة.
كان الشيطان يبيع لهم ألامهم ذات نفسها، يبيع لهم ما يدفع لمزيد من الانغماس في ألامهم ومشاكلهمويجعلهم يدفعون ثمناً مضاعفاً أيضاً.
المشكلة بحسب ما قال كينج على لسان إحدى بطلات الرواية أن الناس تظن أن أكثر ما يحتاجه المرءهو أن يعيش بدون آلام. لا أحد يتمني المعاناة ولكن إن حدثت فإن المرء عليه أن يتعايش معها، عليه أن يعترف أنه يعاني وأنه تألم يوماً ما وما زال يتألم إلى اليوم، ربما كان هذا دافعاً لأن يشعر بقيمة ما بين يديه الآن من نعم أخري، ربما ترفع معاناته من قيمة حياته وجمال ما معه الآن.
كل أبطال الرواية حاولوا الهروب، بوعي أو بدون وعي، وهذا ما باعه لهم الشيطان، باع لهم ما ظنوا أن فيه هرباً من آلامهم إلا أن الأمر كان في الواقع وسيلة لجعل المشاكل والآلام تحكم قبضتها عليهم. الهروب من الألم سلوك إنساني طبيعي بديهي إلا أنه لا يصلح أن يكون أسلوب حياة دائم.
“المغفرة تعني أن يترك المرء كل أمل لديه في ماضي أفضل”. ليلي توملين، كاتبة وممثلة أمريكية
كل الناس تعرف قصة الرجل الذي جاء للرسول عليه الصلاة والسلام طالباً أن يأذن له في الزنا. الناس كلها تعلمت من القصة أن الرسول تعامل مع الأمر بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن قليلين هم من انتبهوا لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليه طلبه، لم ينكر عليه أنه أظهر المشكلة وانتقل إلي حلها دون أن يطلب منه أن يتكتم الأمر ولا يناقش المشكلة.
يقول الله سبحانه وتعالي عن النفس: “قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها”. دساها مشتق من دسس، وهو فعل يعني الإخفاء، عادة ما كان العرب يقولون دسس فلان شيئاً أي أخفاه في التراب. الدسائس هي المؤامرات السرية التي عادة ما تكون سياسية.
جعل الله سبحانه وتعالي الإخفاء مضاداً لتزكية النفس. تزكية النفس مفهوم واسع ينطوي على الكثير من الأشياء الإيجابية. عادة ما تتضمن تزكية النفس مواجهة الكثير: رغبات المرء وهوي نفسه، آلامه وأحزانه وطموحاته المهدرة، مخاوفه، الخ. على العكس من هذا يأتي الهروب، إخفاء الآلام وعدم الاعتراف بها والبعد عن مواجهتها، سواء على مستوي الفرد أو على مستوي المجتمع ككل.
ربما لا تكون الفائدة الوحيدة للألم والمعاناة هي رفع قيمة باقي نعم الحياة كما يري كينج فقط.ربما كان الأمر أكبر من هذا.
الهدف الاسمي للحياة أن يزكي المرء نفسه، أن يواجه مخاوفه ومشاكله وما يؤلمه، يعترف بوجودها ثم يتحرك ليواجهها ويبحث عما يصلح نفسه وأخلاقه. لا أحد يتمني المعاناة ولكنها من لوازم الحياة (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، وعلى الرغم من أن الهروب طبيعة بشرية إلا أنه لا يصلح أن يكون أسلوب حياة. الأفضل أن يعترف الإنسان بمعاناته وأمراض نفسهويواجهها لأن الهروب منها وإنكارها ومحاولة محوها من النفس والذاكرة يمثل بشكل ما مزيداً من الانغماس فيها، وتدرجياً يتحول الأمر إلىمعاناة يومية مستمرة من آلامه دون أن يرتقي أو يتحرك للأمام على المستوى الإنساني.
اللهم زكي نفوسنا.