في أواخر السبعينات تلقي ستيفن كينج عرضاً من جامعة ماين ليقوم بتدريس اللغة الإنجليزية في الجامعة. استأجر كينج و أسرته منزلاً في أورينجتون علي بعد بضعة أميال من الجامعة. كان البيت ظريفاً في ما عدا أنه كان يطل علي طريق سريع تملأه الشاحنات الثقيلة التي تتحرك من و إلي مصنع كيماويات قريب.
في الناحية المقابلة لهم كان هناك محل قال لهم صاحبه " إن عليكم أن تراقبوا أبناءكم و حيواناتكم الأليفة لأن هذا الطريق قتل عليه عدد كبير من الحيوانات الأليفة". و كأنما كان الرجل يتنبأ بما سيحدث، فقد وجد كينج قط ابنته ميتاً علي الطريق بعد بضعة أيام من انتقالهم للمنزل، دهسته إحدي الشاحنات و قتلته.
كان البيت في منطقة ريفية تحوطها الغابات و في ساحة صغيرة وسط الغابات كانت هناك لافتة مكتوب عليها “مقبرة الحيوانات الأليفة”. كانت مقبرة تضم حيوانات ماتت علي هذا الطريق و كان من الواضح أن أطفال هم من قاموا بعملها، بدليل أن اللافتة كانت بها أخطاء إملائية فبدلاً من أن يكتب الأطفال Pet Cemetery كتبوا Pet Sematary بخط طفولي واضح. في هذه المقبرة دفن كينج و إبنته القط.
في المساء سمع كينج أصوات بكاء و نحيب مقترنة بصوت فرقعة صغيرة تأتي من الجراج فقام ليرى ما حدث. وجد ابنته (كانت وقتها طفلة في الثامنة) في نوبة غضب و بكاء، و كانت تقفز علي الأرض من شدة الغضب. الأرض كان عليها أكياس بلاستيكية من التي تغطيها الفقاعات الهوائية و التي تستخدم لحفظ الأشياء القابلة للكسر. كان فقز ابنته علي الفقاعات يتسبب في أصوات الفرقعة الصغيرة و كانت ابنته وسط دموعها تهتف “لماذا أخذ الله قطي؟ إنه قطي أنا. لماذا لم يأت الله لنفسه بقط بدلاً من أن يأخذ قطي؟” الطفلة لم تكن مدركة لمعني الموت و معني أن “الله أخذ القط” و تعاملت برد الفعل الأولي لمثل هذا النوع من الصدمات و هو الغضب و الثورة.
لم يكن ابن ستيفن كينج وقتها قد أكمل الثانية من العمر، كان لا يزال طفلاً يمشي بخطوات بسيطة. بعد هذه الحادثة بعدة أيام و بينما كانت الأسرة في الحديقة تلهو بطائرة ورقية انطلق الطفل الصغير يعدو باتجاه الطريق السريع، و في نفس الوقت سمع كينج صوت شاحنة تقترب. انطلق كينج يركض خلف ابنه محاولاً اللحاق به. يقول كينج عن هذا الموقف: “لا أعلم إن كان سقط من تلقاء نفسه أم أني قفزت فوقه و أسقطته قبل أن يصل إلي الطريق، أنا غير متأكد حتي اليوم مما حدث بالضبط. حينما تكون مرعوباً فإن ذاكرتك تتوقف عن العمل”.
علي الرغم من أن ابن كينج لم يصبه سوء فإن كينج ظل يفكر: ماذا لو لم ألحق به؟ ماذا لو سقط أمام الشاحنة في منتصف الطريق بدلاً من أن يسقط علي طرفه؟ التفكير في هذه النقطة أدي في النهاية بكينج إلي كتابة رواية “مقبرة الحيوانات الأليفة”.
تدور القصة حول لويس كريد، طبيب من شيكاغو انتقل إلي ماين ليعمل كطبيب في العيادة الطبية في جامعة ماين. استأجر لويس و أسرته المكونة من زوجته رايتشل و طفلة في الثامنة اسمها إيلي و طفل في الثانية اسمه جيج، منزل يطل علي طريق سريع تملأه الشاحنات الثقيلة التي تتحرك من و إلي مصنع كيماويات قريب. علي الجانب الآخر من الطريق يقع منزل جود كراندال، و هو عجوز يعيش مع زوجته نورما. تدريجياً تنشأ علاقة أشبه بعلاقة الأبوة بين جود و بين لويس. يحذر جود الأسرة من الطريق و يخبرهم أنه قتل عدداً كبيراً من الحيوانات الأليفة لذا عليهم أن ينتبهوا لأطفالهم و لحيواناتهم الأليفة.
الأسرة يخيم عليها الحب مع ملاحظة أن لويس علي خلاف مع والد زوجته لأن والد زوجته لم يكن موافقاً علي زواج ابنته من لويس إلا أنها أصرت علي هذا الزواج.
بعد إنتقالهم إلي البيت بعدة أيام أخذهم جود في جولة في الغابات المحيطة بالمنطقة و رأوا مقبرة يدفن فيها الأطفال حيواناتهم الأليفة كتب عليها Pet Sematary بخط طفولي واضح. أغلب هذه الحيوانات قتلتها الشاحنات المسرعة علي الطريق. عندما عادوا إلي البيت ثارت رايتشل بسبب تعريض ابنتها لفكرة الموت بزيارة هذه المقبرة. رايتشل شهدت موت أختها في طفولتها بمرض عضال لهذا هي لا ترغب في أن تعرض فكرة الموت علي ابنتها في طفولتها لكي لا تتعرض لما عانته هي نفسياً في طفولتها.
في أحد الأيام و بينما كان لويس في عيادته الموجودة في حرم الجامعة أتي عدد من الشباب حاملين جسد أحد الطلبة يدعي فيكتور باسكو و قد صدمته سيارة، و يموت الشاب بين يدي لويس دون أن يتمكن من إنقاذه.
في المساء و أثناء نومه رأي لويس فيكتور و قد جاء ليصحبه في رحلة عبر الغابة المجاورة لمنزله. تبع لويس الفتي عبر الغابة و مروا بمقبرة الحيوانات الأليفة و تجاوزوها حتي وصلوا إلي حاجز بدائي عبارة عن كومة من جذوع الأشجار و الشجيرات الصغيرة. هنا يحذر فيكتور لويس من أن يتجاوز هذا الحاجز يوماً ما مهما شعر بحاجته لأن يتجاوزه. استيقظ لويس من نومه و ظن أن ما رآه كان حلماً إلا أنه يفاجأ بأن الملاءة ملوثة بالطين الجاف و الأعشاب! فسر لويس الأمر بأن صدمة موت الفتي بين يديه سببت له نوعاً من السير أثناء النوم و تجاهل الموقف بعدها.
في عيد الهالويين أصيبت نورما بأزمة قلبية إلا أن تدخل لويس في الوقت المناسب أنقذها.
في عيد الشكر سافرت رايتشل إلي شيكاغو لزيارة والديها مصطحبة الأطفال معها. لم يسافر معها لويس لأنه لا يحب أباها، و لهذا قرر أن يقضي إجازة عيد الشكر وحيداً في المنزل. في يوم من الأيام استيقظ لويس ليجد أن القط قد قتلته إحدي الشاحنات المسرعة علي الطريق فيظل مهموماً. حين تعود ابنته لن تمر عليها صدمة فقدان قطها بسهولة و الأدهي أنه كان هو المسئول عن رعاية القط في أثناء غياب باقي الأسرة عن البيت، بعبارة أخري هو مسئول أمام طلفته عن وفاة قطها.
حين يري جود مدي حزن لويس و قلقه من رد فعل ابنته حين تعود من زيارة جدها يأخذه إلي الغابة لدفن القط، و لكن بدلاً من أن يدفنوه في مقبرة الحيوانات الأليفة كما توقع لويس، تعمق جود في الغابة حتي وصلوا إلي حاجز الأشجار الذي رآه لويس أثناء نومه و الذي حذره فيكتور باسكو من تخطيه أيا ما كانت الدوافع. خلف ذلك الحاجز كانت هناك مقبرة أخري ، مقبرة تعود إلي إحدي قبائل الهنود الحمر القديمة. بناء علي نصيحة جود، دفن لويس القط في المقبرة و يعودان سوياً دون أن يقدم جود تفسيراً لدفن القط في هذا المكان بالذات.
في اليوم التالي كان لويس يقوم ببعض الأعمال في الجراج عندما وجد القط يسير أمامه في هدوء! ذهل لويس مما رأي. في البداية ظن أنه أساء التشخيص، في النهاية هو طبيب بشري و ليس طبيباً بيطرياً، و عندما وجد جثة القط و ظن أنه ميت فإن القط كان في الحقيقة في غيبوبة و ليس ميتاً. و لكن كلا. هذه مجرد محاولات لخداع النفس. القط مات و هو يعلم ذلك تماماً و لا تفسير لما يراه أمامه إلا أن القط قد عاد من الموت.
ذهب لويس لمنزل جود ليستفسر منه عن معني ما حدث فأخبره جود بقصة المقبرة. يقال أن المقبرة كانت في مكان مارس فيه الهنود طقوس التهام البشر، و أن المكان يسيطر عليه كيان شيطاني. ربما كانت هذه خرافات و لكن الحقيقة التي يعرفها الكثير من كبار السن في البلدة أن الحيوانات التي تدفن فيها تعود للحياة ثانية. جود نفسه دفن كلبه الذي مات عندما كان طفلاً صغيراً فيها و قد عاد الكلب ثانية، البعض دفنوا فيها قططا و كلابا بل إن أحدهم دفن فيها ثور حاصل علي عدة جوائز في مسابقات للحيوانات. المشكلة أن الحيوانات لا تعود كما كانت بالضبط، فرائحتها تكون كريهة، عيناها ميتة، طباعها مختلفة، تسير بخطي مترنحة. الثور الذي دفن في هذه المقبرة عاد هائجاً يطارد الأطفال الصغار حتي أن صاحبه اضطر في النهاية إلي إطلاق النار عليه بنفسه.
ساله لويس عما دفعه لأن يأخذه للمقبرة و يدفن القط، فكر قليلاً و قال له ربما رداً لجميل إنقاذك لزوجتي من أزمتها القلبية، و ربما لأن ابنتك لا تعرف شيئاً عن الموت. الأطفال يحتاجون لأن يتعلموا أن أحيانا ما يكون الموت أفضل. ابنتك لا تعرف هذه الحقيقة، و غالباً السبب هو أن زوجتك لا تعرفها. بسبب ما فعلته معك فإن ابنتك ربما تتعلم شيئاً عن حقيقة الموت و هو أنه ليس فقط نهاية الحياة، بل إنه قد يكون نهاية للآلام و بداية لمرحلة من الذكريات الجميلة. ابنتك لن تعرف أن القط صدمته شاحنة و عاد إلي الحياة مرة أخري، هي ستظل تحبه إلا أنها ستلاحظ التغيرات التي تطرأ عليه و علي سلوكه و ستكون وجهة نظرها الخاصة وتفسيرها لما يحدث، و حين يموت القط فإنها في النهاية ستتنهد في إرتياح.
سأل لويس جود عن ما إذا كان أحدهم قد جرب دفن البشر هناك فانتفض جود فزعاً و قال بالطبع لا. و لكن لويس شعر بأنه يكذب.
مع الأيام لاحظ لويس علي القط ملحوظات مماثلة لما حكاه جود. القط رائحته كريهة و كأنه يتعفن حياً، جسده بارد، خطواته مترنحة، نظراته شريرة، صار يصطاد الطيور و الفئران بمعدلات كبيرة إلا أنه لا يأكلهم، فقط يمزق جثثهم بدموية ثم يتركها دون أن يأكل منها و كأنه يقتلها لمتعة القتل و التمثيل بجثثها.
بالطبع لم يخبر لويس أحداً من أسرته بأمر القط إلا أنه لم يعد يطيقه و صار يخافه فعلاً. يلمسه القط فيغير ثيابه كلها، يستيقظ فيجد القط واقفاً علي صدره ينظر إليه بنظرة فيها ترقب فينتفض هلعاً… الخ.
بعدها بفترة ماتت نورما زوجة جود و صار يعيش وحيداً.
بعدها بفترة كان لويس يلعب مع أبناؤه في الحديقة بطائرة ورقية فانطلق ابنه جيج يجري باتجاه الطريق السريع في نفس الوقت الذي كانت شاحنة ثقيلة تمر علي الطريق. مات ابنه أمام عينه و طارت قبعة البيسبول التي كان يرتديها لتسقط علي الأرض في مشهد ظل محفوراً في ذاكرة لويس إلي الأبد.
في مساء اليوم السابق لدفن جيج زار جود لويس و جلس يتحدث معه. قال له أنا أعلم أنك تفكر في دفن ابنك في مقبرة الهنود الحمر، و لكن قبلها دعني أحكي لك قصة تيمي باترمان. لقد كذبت عليك حين قلت لك أن أحداً لم يجرب دفن البشر في المقبرة من قبل. تيمي باترمان كان أحد شباب المدينة الذين ماتوا في الحرب العالمية الثانية. الجيش جاء بجثته في تابوت ملفوف بالعلم الأمريكي و سلمه لأبيه. بعد الجنازة بعدة أيام شاهده الناس يسير في شوارع المدينة. بالطبع أصاب الناس الفزع، ساعية البريد رفضت أن توصل البريد في الشارع الذي يقطنه تيمي من الأساس، الخطابات توالت علي وزارة الدفاع لتخبرهم أن تيمي المسجل في سجلات الوزارة علي أنه مقتول في الحرب يسير في شوارع ماين كالزومبي، نحيل يرتدي ثيابا مهلهلة، عيناه غائرتان و له ابتسامة شريرة و نظرة ميتة تمنع أحداً من مجرد الاقتراب منه. بدأ الجيش يرسل خطابات لمسئولي المدينة يستفسر عن صحة هذه المعلومات و بدا أن الأمر سيجر الكثير من المتاعب من داخل و من خارج المدينة الهادئة.
وقتها كان جود شاباً و قد جاءه ثلاثة من رجال المدينة يتناقشون فيما عليهم أن يفعلوه حيال الأمر. قرروا الذهاب إلي والد تيمي و مواجهته بالأمر. ذهبوا إلي منزله و كان تيمي يجلس مع أبيه في الساحة الخلفية للمنزل. ناقش الرجال الأربعة أبيه فيما فعله و واجهوه بمعرفة الجميع لحقيقة أنه دفن ابنه في مقبرة الهنود الحمر، فتعصب الرجل قائلاً أنه غير مطالب بأن يبرر تصرفاته، و أنه ليس من العدل أن يفقد إبنه، الشخص الوحيد الباقي من أسرته بعد موت زوجته. لتذهب وزارة الدفاع و الجيش بل و الولايات المتحدة كلها إلي الجحيم. كان من الواضح أن الحياة مع هذا الكيان الشيطاني قد أفقد الرجل قدرته علي التماسك النفسي و بدا علي وشك الانهيار. هنا تدخل تيمي نفسه في الحوار.
بعينين ميتتين و ابتسامة عريضة متشفية أخذ تيمي يذكر أشياء مشينة عن كل واحد من الرجال الأربعة. خيانات زوجية، علاقات نسائية، اختلاسات في العمل، الخ. أشياء لا يعرفها أحد سوي من فعلها و كلها أشياء مشينة مخجلة. الأمر كان خارقاً للطبيعة و كان في كلام تيمي ونظراته أسلوب شيطاني مرعب. أبوه يصرخ فيه أن كفي و توقف و لكن لا حياة لمن تنادي. هرب الرجال الأربعة هلعاً من الموقف و لم يروا تيمي ثانية.
بعدها بأيام أطلق أبوه عليه النار ثم أشعل النار في المنزل قبل أن يطلق النار علي نفسه. انتحر الرجل بعد أن قتل المسخ الذي كان ابنه يوماً ما.
في نهاية الجلسة طلب جود وعداً من لويس ألا يفكر في دفن جيج في مقبرة الهنود الحمر ووعده لويس أنه لن يفعل.
إلا أن الأمور ليست بهذه السهولة.
بعد الجنازة و دفن ابنه أقنع لويس زوجته أن تأخذ ابنته و تذهب لتقضي يومين مع أبيها لتتجاوز أحزانها. في وحدته ظلت الأفكار تلعب في رأسه. ظل يسترجع المستقبل الذي رسمه لابنه في ذهنه. سيدخل جامعة جون هوبكنز و يصير عضواً في فريق السباحة الأوليمبي. ستصوره كاميرات قناة NBC و قطرات الماء تتساقط عن جسده النحيل و الميدالية تتدلي من عنقه بينما النشيد الوطني الأمريكي يعزف في الخلفية. و قتها سيكون شعره و شعر رايتشل قد صار رمادياً ( ستداري رايتشل هذا بصباغة شعرها). يوماً ما سيعلن جيج أنه سيتحول إلي الكاثوليكية. وقتها ستقول رايتشل في غيظ أن تلك الفتاة المائعة التي يرافقها هي التي تلاعبت به و دفعته لاتباع هذه الديانة و هذا المذهب.
هذه الأحلام لم يعد لها محل من الإعراب الآن، و حل محلها مشهد جثة ابنه و بجواره قبعة البيسبول ملقاة علي العشب علي جانب الطريق. الأحلام و الآمال بددها سائق شاحنة بدين يدخن السيجار.
يقرر لويس أن يدفن جثة ابنه في مقبرة الهنود الحمر. يذهب لويس إلي قبر ابنه و يستخرج جثته و يذهب إلي مقبرة الهنود الحمر و يدفنها هناك.
في نفس الوقت تبدأ زوجته في طريق العودة من شيكاغو بعد أن تركت ابنتها في رعاية جدها و جدتها. لم تجد مكاناً علي الطائرة فاستاجرت سيارة و بدأت في العودة بالسيارة.
في الصباح يعود جيج. يتسلل إلي منزله بينما أبوه نائم. يفتح شنطة أدواته الطبية و يأخذ منها مبضع جراحي و يتجه إلي منزل جود. يراه جود فيفهم أن لويس قد دفنه في المقبرة. عاد جيج بنفس السمات المعتادة، الابتسامة الشريرة، العينين الغائرتين، الخطوات المترنحة، و في وجهه أثر لما بدا و كأنه جرح ملتئم من تأثير الحادثة. يقتل جيج جود بطعنه عدة طعنات بالمبضع.
في نفس الوقت تعود رايتشل و تقرر أن تمر علي جود قبل أن تذهب إلي بيتها. تجد الباب مفتوحاً و تنادي جود فتسمع صوت أنين مكتوم. تظن أن العجوز قد سقط و كسر ساقه أو شيء من هذا القبيل فتدخل مسرعة فتري ابنها واقفا و يده خلف ظهره و الدماء تلطخ وجهه. لم تنتبه لأي من هذا، كل ما تحرك فيها كان مشاعر الأم الثكلي التي وجدت ابنها أمامها فجأة. هتفت باسمه في شوق و انطلق هو ناحيتها وإحدي يداه خلف ظهره هو يهتف “أمي لقد أحضرت لك شيئاً معي.. أمي لقد أحضرت لك شيئاً معي.. أمي لقد أحضرت لك شيئاً معي”.
يستيقظ لويس و ينظر من النافذة فيري سيارة بجانب سيارة جود. يرن الهاتف فيرد فيجد حماه يسأله هل وصلت رايتشل؟ هنا يبدأ لويس في استنتاج ما حدث و يتنامي داخله الشعور بأن هناك شيئاً ما ليس علي ما يرام. يأخذ حقيبة الأدوات الطبية معه و يذهب بيت جود. قبل أن يدخل يتأكد من أن هذه سيارة زوجته لأن بداخلها شنطة يدها.
يدخل لويس البيت و هو ينادي علي ابنه ! هو شبه متأكد أن ابنه عاد و أن هناك شيئا سيئا متعلقا بعودته. في الردهة يري جثة جود و الطعنات تملأها. يسير في البيت و هو يردد بدون إنقطاع “جود، أنا آسف”. يخرج من الحقيبة ثلاثة محاقن يملأ كلا منها بجرعة قاتلة من المورفين و يضعها في جيوبه. في الطابق العلوي يجد جثة زوجته و بها ما يزيد عن دستة من الطعنات. يجلس بجوارها منهاراً. ينتبه من بكائه علي مشهد ابنه و هو واقف بجانبه و يهوي بالمبضع عليه. يتفادى لويس الضربة بسهولة بسبب الحركة المترنحة لابنه. سقط ابنه و جثم لويس عليه بجسده ليشل حركته ثم أخرج من جيبه محقناً أفرغه في ذراعه. قام ابنه و سار بضع خطوات ثم سقط ميتاً بتأثير جرعة المورفين القاتلة.
قام لويس و فعل نفس الشيء مع القط ثم أشعل النار في المنزل.
اجتمع الناس حول المنزل و لاحظ أحدهم أن هناك رجلاً يحمل ما يبدو أنه جسد امرأة و يسير باتجاه الغابات. الرجل كان لويس كريد بعد أن تحول شعره كله للون الأبيض من الهول الذي مر به منذ دقائق. يسير الرجل باتجاه لويس و يسأله ماذا تفعل، فيرد دون أن يتوقف عن السير:علي أن أدفنها. لقد تأخرت جداً مع جيج. لقد دفنته في مقبرة عادية ثم دفنته بعدها بأيام في مقبرة الهنود الحمر، و لكن الأمر سيكون مختلفاً مع رايتشل. أنا متأكد من هذا!
تنتهي القصة بلويس جالساً في البيت ليلاً ثم يسمع صوت خطوات من خلفه و يأتي صوت زوجته تناديه قائلة “حبيبي” بصوت مكتوم و كأن الطين و الأتربة تملاً فمها.
بعد أن أنهى ستيفن كينج القصة تركها ستة أسابيع ثم أعاد قراءتها، و هو ما يفعله مع كل قصصه في المعتاد. يقول كينج: “حين تكتب يوماً وراء يوم فإنك تكون كمن يرى الأشجار من أمامه و من خلفه لكنه لا يري الصورة الكبيرة للغابة التي يسير فيها”. قرأ كينج القصة فوجد أنها مرعبة، و قرر أنه لن ينشر هذه القصة، علي الأقل في حياته. القاها في الأدراج و لم تخرج إلي النور إلا حين أراد أن ينهي عقداً مع دار دبلداي للنشر و كان مازال مديناً لهم بقصة حتي ينهي العقد. استشار زوجته فنصحته أن ينشر القصة و قد كان.
هذه القصة كانت و مازالت أكثر القصص التي كتبها كينج إرعاباً له هو نفسه لأنها تلعب علي حادثة شخصية. طبقاً لآراء القراء فإن رواية الشروق The shining هي أكثر الروايات إراعباً و لكن بالنسبة لكينج فإن مقبرة الحيوانات الأليفة هي القصة التي يقراؤها فيشعر أنه فعلاً تجاوز الحدود.
يقول كينج: “لا أشعر بالراحة تجاه العبارة الأكثر رنيناً في القصة، و هي (أحيانا ما يكون الموت أفضل)، و أتمني من كل قلبي أن لا تكون حقيقة علي الرغم من أنها في سياق القصة الكابوسي فإنها سليمة. ربما (أحيانا ما يكون الموت أفضل) هو الدرس الذي نتعلمه من الموت بعد أن نتعب من القفز علي الأكياس ذات الفقاعات الصغيرة طالبين من الله أن يأتي لنفسه بقط (أو ابن) و يترك قطنا أو ابننا و شأنه. هذا الدرس يقول أننا في النهاية لا نجد السلام النفسي إلا بقبول إرادة الكون (و هو ما أسميه أنا إرادة الله) . ربما يبدو هذا كفذلكة و لكن البديل يبدو لي مظلماً لدرجة لا يستطيع البشر ككائنات فانية أن يتحملوه”.
علي الجانب الشخصي فإن أكثر ما أثار تفكيري و مشاعري في هذه القصة ليس فقط رفض القدر. المرء قد يرفض القدر فيسخط أو يغضب أو يثور، و لكن ما زاد في هذه القصة هو أن يرتكب المرء الخطأ الواحد مرة و اثنتين و ثلاثة، علي الرغم من كثرة الشواهد و العلامات التي تقول لكل ذي عينين أن هذا خطأ. زيارة باسكو للويس أثناء النوم، حكاية جود عن الحيوانات التي لا تعود كما كانت، القط الذي صار مرعباً لا يحتمل لويس أن يلمسه، قصة تيمي باترمان، كلها علامات متراكمة تؤكد للويس أن دفن ابنه في المقبرة خطأ، و خطأ شنيع، إلا أنه يتناسي هذه الأشياء عامداً أو متعمداً و يدفن ابنه في المقبرة.
حتي حين عاد ابنه ككيان شيطاني قتل زوجته حتي اضطر لويس لقتل ابنه نفسه، فإنه لم يتعظ و خرج باستنتاج ليس له أي أساس منطقي لتفسير ما حدث، مبرر يسمح له أن يطارد حلماً وهمياً بأن تعود زوجته إلي الحياة مرة أخرى.
المرعب في هذه الرواية ليس الموتي الأحياء و ليس القتل و الكيانات الشيطانية و لكن المرعب هو تعرض الإنسان لصدمة لا يستطيع تحملها، المرعب هو عدم تسليم الإنسان بالقدر، و أن يرتكب الإنسان الخطأ مرة و إثنين و ثلاثة علي الرغم من كل الشواهد المحيطة به و التي تصرخ أن ما تفعله خطأ.
علي الرغم من أني قرأت هذه الرواية لأول مرة منذ ما يقرب من أربعة أعوام فإنها من الروايات العالقة بذهني و دائما ما أتذكرها و أتذكر معها دعائين، دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه “اللهم أرنا الحق حقاً و أرزقنا اتباعه” و دعاء الرسول عليه الصلاة و السلام " اللهُم اقْسمْ لنا منْ خشْيتك ما تحُولُ به بيْننا وبيْن معاصيك ، ومنْ طاعتك ما تُبلغُنا به جنتك ، ومن الْيقين ما تُهونُ به عليْنا مصائب الدُنْيا".
*****************
مرت السنين و قرأت رواية أخري لكينج تعالج فكرة مشابهة، رواية جديرة بالتأمل كمعظم رواياته.
في الثمانينات كان إنتاج ستيفن كينج غزيراً بأكثر مما يحتمله الناشرون، الذين رأوا أن السوق لا يحتمل نشر كتابين في نفس الوقت لكاتب واحد. لهذا خطرت لستفين كينج فكرة أن ينشر الكتب بإسم مستعار هو ريتشارد باكمان.
من ضمن الأساسيات التي يقتنع بها كينج أن الخير دائماً ينتصر في النهاية، بناء علي تجارب حياتية، بناء علي نظرته في الحياة كان هذا هو ما وصل إليه و هذا ما يحدث دائماً في كتبه كلها بإسثناءات قليلة للغاية. الغريب أنه حين بدأ يكتب بإسم مستعار شعر بأن هذا القيد الفكري قد زال من عنده و كتب قصصاً تكسر هذه القاعدة. فيما بعد كانت تجربة الكتابة بإسم مستعار دافعاً لأن يكتب رواية (النصف المظلم The Dark Half ) عن كاتب يكتب الكتب بإسم مستعار فتصير هذه الشخصية المستعارة شيئاً حقيقاً ملموساً يطارد الكاتب.
رواية (أعمال طرق Road Work) هي واحدة من الروايات التي نشرت بإسم ريتشارد باكمان، و هي الرواية التي كتبها كينج بعد عام من موت والدته موتاً أليماً بالسرطان. يقول كينج أنه كتبها في محاولة منه للبحث عن مغزي لموت والدته الذي تركه حزيناً و مصدوماً بعبثية موتها و معاناتها كما بدا له وقتها.
تدور الرواية حول بارت داوس، مدير مغسلة صناعية عملاقة، و الذي يعيش مع زوجته بعد وفاة إبنه ذي السنوات العشر بورم في المخ. تقرر المدينة إنشاء طريق سريع يخترق المدينة و سيزيل في طريقه عدة مباني من ضمنها بيت داوس و المغسلة التي يديرها. الدولة ستدفع مقابل مادي أكثر من مناسب ليشتري مغسلة و بيت جديدين في مكان آخر.
عندما مات إبنه لم يبك داوس. زوجته بكت كثيراً و إنهارت، هو ظل صامتاً. الناس لم تفهم، ظنت أنه القوي الذي لم يتأثر. لكن إتضح أن بكاء زوجته و إنهيارها ساعدها علي أن تتعافي. بارت ظل صامداً من الخارج إلا أنه من داخله كان يتعذب بفكرة أن ورم صغير بحجم حبة البندق تسبب في أن يعاني إبنه من مشاكل في الكلام، يشم أشياء غير موجودة، يصاب بخلل في الرؤية ثم يموت. إبنه الذي كان (إبن أبيه) كما يقول العرب، علاقة أب بإبنه مثالية كما في الكتب، تقاهم و تشارك في الأنشطة، سنوات عشر ينمو فيها علي عينه. كل هذا ذهب بسبب ورم أصغر من البندقة الصغيرة. هذا يعطي طابعاً عبثياً للأمور، هذا يعني أن أجمل الاشياء في حياتك لا تصمد أمام شيء صغير تافه. حقيقة أن الورم كان أصغير من البندقة كانت ترن في عقل داوس بإستمرار مخيف.
اليوم تأتي الحكومة لتهدم المغسلة و البيت. المغسلة التي عمل فيها داوس كموظف صغير عند صاحبها الذي أنفق علي تعليمه الجامعي بدون مقابل، فقط أن يجلب ما تعلمه إلي المغسلة ليحسن من أسلوب عملها و إدارتها، و لأنه كان يعتبر العاملين من أسرته. المغسلة التي صار اليوم بعد ما يقرب من عشرين عاماً مديرها، بعد أن إشترتها مجموعة إستثمارية صغيرة لا تمثل لها المغسلة أكثر من مجرد مشروع من مشاريعها العديدة. المجموعة تطالب بارت بأن يأخذ المال و يشتري أرضاً جديدة في الجانب الآخر من المدينة ينشيء فيه مغسلة آخري.
في نفس الوقت مطلوب منه أن يأخذ المال ليشتري بيتاً جديداً، و يترك هذا البيت الذي هو كل ما تبقي له من ذكريات مع إبنه و مع زوجته. يذهب للجانب الآخر من المدينة، في بيوت لا يعرف جيرانه فيها، بيوت بدون ذكريات ولا دفء.
هو لا يستطيع أن يفعل أي من هذا. في نفس الوقت لا يستطيع أن يشرح لزوجته أو لأصحاب المجموعة الإسثتمارية لماذا لا يستطيع أن يفعل هذا. لا أحد يفهم ولا أحد يشعر بما يشعر به. لا يمكنه أن يشرح أن الذكريات لا تشتري ولا يمكن تحديد سعر لها، و أن الحكومة حين تهدم بيتك فإنها تأخذ منك ما هو أكثر من الجدران و الأثاث، تأخذ ذكريات و ألفة و تاريخ هو كل ما تبقي له بعد موت أبنه، بعبارة أخري تأخذ كل ما يستند عليه ليصير إنساناً متماسكاً. لقد حاول التماسك كثيراً حين مات إبنه لكن الآن جاءت أعمال الطرق هذه لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير.
يماطل داوس في شراء منزل و شراء الأرض المتاحة لإنشاء مغسلة حتي يتم بيع البيوت و الأراضي المتاحة. هو يعرف أن ما يفعله خطأ، أصعب ما في الأمر أنه لم يفقد عقله، هو يعرف أنه بهذا يشرد زوجته و يشرد باقي العاملين في المغسلة و يقضي علي مستقبله لكنه في نفس الوقت لا يستطيع أن يفعل شيئاً مختلفاً. هو فقد تماسكه النفسي لكنه لم يفقد عقله.
في نفس الوقت يسحب مدخراته كلها ليشتري سلاحاً و متفجرات. مشهد المدير الخجول الهاديء و هو يقصد أحد رجال العصابات طلباً لمتفجرات مشهد مثير. إلا أن رجل العصابات الذي رأي الدنيا قرأ ما وراء قناع داوس الهاديء.
يحكي له عن أنه أثناء طفولته كان أحد جيرانه يمتلك كلبة هادئة يلعب معها كل أطفال الحي. لكن صاحبها الأحمق ربطها في الشمس لعدة أيام دون أن يدرك أن هذا يثير جنونها. هو أدرك بغريزته أن الكلبة تجن تدريجياً و لم يعد يذهب ليلعب معها مثلما يفعل باقي الأطفال. سخر الأطفال منه لأن الكلبة معروفة بأنها أليفة هادئة إلا أنه لم يبالي بسخريتهم. بعد عدة أيام أنشبت الكلبة أنيابها في حنجرة أحد الأطفال. اليوم هذا الطفل هو رجل بالغ أخرس.
يخبره في النهاية بأنه يري فيه ما رآه في هذه الكلبة في طفولته. لقد تحمل داوس ضغوطاً كثيرة و قريباً سينشب أنيابه في حنجرة شخص ما. و للعجب نجد أن رجل العصابات الذي إرتكب كل الموبقات في حياته يخشي هذا المدير الخجول الهاديء بما رأي بخبرته وراء هذا الهدوء.
زوجة داوس تترك البيت ثم تطلب الطلاق، المغسلة تغلق و يتم رفده و تسريح العاملين، و هو لا يلوم أحد علي شيء. كلهم علي صواب و هو أساء لهم كثيراً لكن في نفس الوقت هو لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر. و يوم يأتي اليوم الذي ستهدم فيه الحكومة البيت يجدونه في إستقبالهم بالرصاص و المتفجرات و بعد مواجهات مع الشرطة يموت و هو يفجر منزله.
****************
من ضمن النقط التي بحث فيها الفلاسفة فكرة العزاء: ما الذي يستند إليه المرء حين تحدث له مصيبة، و علي الأخص حين يفقد عزيزاً. في كلا الروايتين لكينج نري رجلاً لم يستطع تقبل مصيبة فقدان إبنه. ربما كانت الرسالة الأخلاقية عن قبول القدر في مقبرة الحيوانات الأليفة أكثر وضوحاً لأنها أحدث بالتالي كان أسلوب كينج أكثر إحترافاً و تماسكاً.
حين سألوا كينج هل تؤمن بالله قال إنه يحب أن يؤمن بالله ليشعر أن هناك قوة أكبر منه لأنه يؤمن بأنه شخص ضعيف. علي الرغم من أن إنتقاد كينج للمهاويس الدينيين متكرر (مثل روايات كاري، الضباب) إلا أنه لا يفقد إيمانه بوجود إله، و هذا الإيمان بأنه ضعيف و أن المرء يحتاج لأن يؤمن بقوة أكبر منه يلمسني و يعجبني. أشعر أن فيه الكثير من الإنسانية و الوعي بالذات لا تتوافر للكثيرين بسهولة، حتي من عتاة المتدينين.
علي الرغم من أن كينج يري أن المرء عليه أن يستسلم للقدر فإن هذا ليس عزاءاً كافياً في رأيي. الإستسلام شيء و التعزية شيء آخر.
في كثير من آيات القرآن نري أيات تتكلم عن جمع الله للأهل و الأزواج في الجنة لو كانوا صالحين، مثل قوله تعالي “جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ”. من البديهي في الإسلام أن الصالحين يدخلون الجنة و لكن ما الداعي لذكر الأهل و الأحباب مرتبطين ببعضهم البعض في أكثر من موضع في القرآن؟
عموماً، أي فلسفة لا تستند لحياة آخرة تفشل في أن تقدم عزاءاً للمرء عن مصائب الدنيا، أعني عزاء مُرضي نفسياً، علي الأقل مُرضي لي. بدون أي أمل في لقاء أولئك الذين فقدهم المرء و الحياة معهم مرة أخري يظل هناك شيئاً ناقصاً، شيئاً كبيراً هاماً، و طبعاً هذا الأمل لا يأتي إلا بحياة أخري بعد الحياة الدنيا.
الدعاء الذي يقال عند المصائب (إنا لله و إنا إليه راجعون) يحمل في نصفه الأول (إنا لله) ما شبه فكرة كينج عن الإستسلام للقدر و الرضا به، لكنه يربطها بكوننا جميعاً ملك لله سبحانه و تعالي، أما النصف التالي، الرجوع إلي الله، فيحمل أبعاداً كثيرة أحدها هو جانب اللقاء بالأحباب و الأهل في جنة الله تعالي إن كنا و كانوا من الصالحين.
اللهم إجعلنا من الصالحين و إجمعنا بمن نحب في جنتك في ظل رضاك و رحمتك يوم القيامة.