منذ فترة فوجئت زوجتي بورم كبير في صدرها، ظهر فجأة بدون مقدمات. ذهبنا لطبيب ممارس عام، و هو في العالم الغربي شخص أكثر علماً بكثير من نظيره المصري و يمكنه تشخيص و علاج الكثير من الحالات و لا يحيل الأمور لأخصائي إلا فعلاً في حالات معقدة. الطبيب رأي أن هذا غالباً شيء حميد لكن بالطبع لابد من أشعة. أخبرنا أنه سيحول ورقنا لمركز أشعة و هم سيتصلوا بنا في خلال أسبوع. سألته في ضيق عن ما إن كان علينا الإنتظار لأسبوع كامل لنجري الأشعة فرد بأنهم لن يجروا الأشعة في خلال أسبوع بل سيتصلوا بنا ليحددوا موعد في خلال أسبوع !
بعد أسبوع لم يتصل بنا أحد. إتصلنا بمركز الأشعة فرد بأن إسم زوجتي لم يرد لهم. ذهبت للعيادة لأسألهم عن ما إن كانوا أجروا التحويل أم لا. الممرضة أخرجت لي ورقة التحويل و عليها ختم أنها (تم إرسالها بالفاكس faxed). كانت هذه هي ثاني صدمة. فاكس؟ هل ما زال هذا الإختراع موجود في الحياة أصلاً؟ الفاكس يمكن بمنتهي السهولة أن تضيع الأوراق منه، تسقط علي الأرض و تضيع إن لم يكن هناك أحد بجوار الجهاز وقت تلقي الرسالة، و أنا قادم من هولندا حيث منظومة المعلومات الطبية موحدة، بمعني أني أذهب للطبيب فيحيلني للمستشفي فأجد ملفي كاملاً هناك علي الكمبيوتر، و الفحوصات التي تجريها المستشفي تظهر علي كمبيوتر الطبيب. لم أتوقع أن الفاكس يستخدم في زمن الإنترنت. الفكرة التي خطرت في بالي فيما بعد هو لماذا لا يستخدموا حتي الإنترنت بشكله البدائي، الإيميل، فأخبرني أحدهم أن هناك قانوناً يمنع ذلك لأنه مصنف علي أنه غير آمن بالتالي يمكن لأسرار المريض الطبية أن تضيع. هل الفاكس هو الآمن؟ الأوراق التي تخرج من جهاز لتتساقط علي الأرض ثم تضيع، هل هذا الشيء آمن في عرف القانون الكندي؟ غالباً هو قانون من أيام الحرب العالمية الثانية أو وضعه موظف أخرق ما في الماضي. طلبت من الممرضة أن تعيد إرسال التحويل، ثم إتصلنا بمركز الأشعة فقال أن التحويل وصلهم هذه المرة. أول ميعاد متاح لإجراء الأشعة بعد شهر!
كانت هذه هي أول مرة نعرف فيها حقيقة طوابير الإنتظار في المنظومة الصحية الكندية. في البداية ظننا أن الموضوع فيه مزحة ما أو هناك نوع من سوء الفهم. إتصلنا بمراكز أخري فكان أسرع ما وجدناه هو بعد ما يزيد قليلاً عن ثلاثة أسابيع. بعد ثلاثة أسابيع من الإنتظار القاتل قمنا بإجراء الأشعة. النتيجة ورم سرطاني في مرحلة متأخرة. لا يمكن تشخيص السرطان بنسبة ثقة 100% إلا بأخذ عينة من الورم لتحليلها، بالتالي فطبيبة الأشعة تعطي تقييماً لمدي ثقتها في كون الورم سرطاناً Bi-Rads score. الطبيبة أعطت تقييم 5، و هو ما يعني نسبة ثقة 90%، أعلي نسبة ثقة مسموح بها. الخطوة التالية هي أخذ عينة من الورم لتحليلها، لتأكيد ما إن كان الورم سرطاناً و نوعه و نوعية العلاج التي يمكن أن يستجيب لها، الخ. أخذ العينة يحتاج ثلاثة أسابيع أخري من الإنتظار ! حاولنا الإتصال بمختلف مراكز، لا فائدة، الثلاثة أسابيع هي في أسرع مركز، هناك مراكز أخري قالت أن أمامنا شهرين من الإنتظار. هنا تساءلت عن ما إن كان من الممكن أن أدفع ثمن التحليل بنفسي، بدلاً من منظومة العلاج التي تدفع فيها الحكومة التكاليف للاطباء و المراكز الطبية (المراكز الطبية كثير منها خاص و من ضمنها مراكز الأشعة و التحاليل)، حيث أن الحكومة هي التي تدير التأمين الصحي. هنا وجدت أنه من الممكن أن أدفع ما يزيد عن ثلث مرتبي في شهر لأجري التحليل خارج منظومة التأمين الصحي الحكومية، و عندها سأنتظر شهرين! بالتالي لو أجريته مجاناً سأنتظر ثلاثة أسابيع، لو دفعت مبلغاً فلكياً من المال سأنتظر لشهرين! لا تستغرب، هذه هي منظومة الإدارة الكندية و هذا هو مفهوم الكنديين للبيزنس، هذا ليس أعجب شيء تراه في كندا عندما يتعلق الأمر بالبيزنس و المال و الشركات.
بالتالي الحل كان في النزول لمصر. حجزت تذاكر طيران بمبلغ فلكي طبعاً لإن عادة حين تحجز قبل سفرك بمدة قليلة تكون التكلفة مرتفعة. علي سبيل العلم بالشيء سألنا عن الخطوة التالي بفرض أننا إنتظرنا ثلاث أسابيع لإجراء التحليل (و أسبوع حتي تظهر نتيجته، و هي التي تظهر في مصر في يومين)، فكان الرد أننا عندها سننتظر لما يقرب من ثلاث أسابيع أخري قبل أن نقابل جراحاً أو طبيب متخصص في الأورام! كنت أتوقع الإجابة بشكل ما.
في مصر، و في اليوم التالي لنزولنا مباشرة ذهبنا لجراح أورام شهير عجوز. الرجل فزع من التقرير، قال إنه لا يستطيع التعامل مع هذا الورم جراحياً و هو بهذا الحجم، عليه أن يبدأ بعلاج كيماوي أولاً لكي يتضاءل حجمه، لكن قبل كل شيء لابد من فحوصات. سنبدأ بإجراء تحليل للورم نفسه. في خلال أقل من ساعة ذهبنا لمركز تحاليل مختص بهذه الأمور. لإجراء التحليل فالطبيب يغرس أبرة تخترق الجسم حتي يصل للورم ثم يأخذ منه عينة. لكي يري كيف يوجه هذه الإبرة فإنه يجري هذا تحت أشعة، موجات فوق صوتية. ما أن بدأ في إستخدام جهاز الموجات الفوق صوتية حتي قال لمساعدته (ثبتي هذا المشهد). المشهد كان فيه كمية ضخمة من السائل، و هي علامة علي أن الأمر ليس له علاقة بالسرطان. للتأكيد غرس أبرة و سحب كمية كبيرة منه ثم سأل عن هذا السائل، هو غير مذكور في تقرير الأشعة. سألنا أين أجرينا هذه الأشعة متوقعاً أن نخبره بمكان ما في مصر، مركز أشعة غير مشهور مثلاً، فردت زوجتي بأنه في فانكوفر، كندا. ردد الرجل الكلمة ساخراً. فيما بعد كان يتكلم هو و الجراح عن التشخيص بسخرية، عن كيف أنه واضح تماماً لأي أحمق أن الأمر لا يمكن أن يكون سرطاناً و كيف نتج عنه هذا التقرير المريع الواثق. التشخيص كان تليف و خراج و صديد (و هو سبب السائل الذي ظهر في الموجات فوق الصوتية)، الأمر ساء بشدة بسبب طول فترة الإنتظار لكن بالطبع أفضل بكثير من تشخيص السرطان في المرحلة المتأخرة. الأمر سيحتاج جراحة. ببحث سريع وجدت أن متوسط زمن الإنتظار لإجراء هذه الجراحة في كندا سيكون 12 أسبوع، بالتالي أجريناها في مصر، و ظللنا في مصر حتي تعافت زوجتي نسبياً. الأمر سيحتاج علاج يستمر لعدة شهور لكننا عدنا لكندا لنكمله هناك، مع متابعة مع الطبيب بالتليفون. الحمد لله كثيراً علي فضله.
أول شيء سيقفز لذهنك هو أن الأطباء الكنديين حمقي و المصريين عباقرة. هذا ليس الغرض من هذا المقال. فيما بعد حين بحثنا في الأمر عرفنا أن الطبيبة إرتكبت خطأ ضخم لإنها تجاوزت عن بعض أنواع الفحوصات التي كان يمكن بسهولة أن تكشف الأمر و إعتمدت علي فحوصات أقل، لا أريد الدخول في تفاصيل طبية هنا، لكن الأهم أنه لكي أقول أن الأطباء في مصر أفضل من نظرائهم في كندا فعلي أن أستخدم إحصائيات عن أخطاء التشخيص و إختلافها بين البلدين، و هو ما ليس عندي و لا أريد أن أتكلم عنه، و تقييمي أن الطبيب الكندي في العموم عنده علم و أجهزة و بروتوكولات علاج أفضل من تلك الموجودة في مصر. أنا أريد أن أتكلم عن المنظومة الطبية من الناحية الإدارية و السياسية. ما حدث دفعنا للبحث وراء الأمر لنفهم كيف يمكن أن يحدث ما حدث فوجدنا التالي:
ربما يكون التشخيص الخاطيء الذي حدث معنا واقعة فردية لكن طوابير الإنتظار ليست كذلك. هذه بعض الأرقام المرعبة:
متوسط زمن تشخيص سرطان الثدي في المقاطعة التي نعيش فيها 45 يوم. شهر و نصف، بالتالي ما حدث معنا ليس إستثناء بأي حال. متوسط زمن الإنتظار لإجراء أشعة رنين مغناطيسي في المقاطعة التي أعيش فيها 24 أسبوع. نعم أنت قرأتها بشكل صحيح، أسبوع و ليس يوم. متوسط زمن الإنتظار لإجراء عملية جراحية، جراحة عامة، 12 أسبوع. متوسط زمن الإنتظار لإجراء عملية جراحية، نساء: 28 أسبوع. نعم مرة أخري، أسبوع و ليس يوم.
من ضمن كل الدول الصناعية (الدول التي تصنف كدول عالم أول)، كندا لديها أطول طوابير إنتظار في المنظومة الطبية. الأمر لا يقف هنا، لكن متوسط زمن الإنتظار في كندا هو ثلاث أضعاف متوسط هذه الدول كلها، بما فيها كندا. لو كنت تعرف الإحصاء فهذا إنحراف معياري standard deviation مهول، إنجاز في الفشل لو كان هذا التعبير ممكنا.
فكرة أن نبحث عن العلاج خارج كندا ليست حادثة فردية لنا، 58 الف كندي يبحثون عن علاج خارج كندا سنوياً لكي لا تتدهور حالتهم بسبب الإنتظار، و هذا الرقم يزيد بنسبة 25 بالمائة سنوياً ! هذه نسبة نمو مهولة، نسبة تعني أن العدد يتضاعف كل ثلاث سنوات تقريباً.
التأمين الصحي في كندا تديره الحكومة، أنت تدفع مبلغاً بسيطاً من المال كل شهر (30 دولار) و أحياناً لا تدفع أي شيء في بعض المقاطعات. الدولة تتولي دفع تكاليف الأطباء و الفحوصات و الأشعات و العمليات، و أنت تدفع ثمن الأدوية. بالتالي إن إحتجت لزيارة طبيب تذهب للطبيب و يقوم الطبيب بأخذ التكلفة من الحكومة. كأي شيء تديره الحكومة يصيبه الفشل الإداري، لو أضفنا لهذا أن هذه كندا، حيث الفشل الإداري من أسس الحياة في الشركات الخاصة و الحكومة و كل مكان نجد الصورة القاتمة التي عليها النظام الصحي الكندي، و العجائب التي عرفناها. من ضمن العجائب أن أحدهم قام ب(تشغيل دماغه) فقال أن الطبيب يمكن أن يهمل فحص المريض، يجريه بسرعة لكي يأخذ المريض التالي و يزيد دخله اليومي، بالتالي قررت الحكومة لكل طبيب كوتة معينة من الحالات يفحصها يومياً. كل من درس الإدارة يعرف أن تقييم الموظف بناء علي الوقت فقط (أو عامل واحد فقط) كارثة. المثال الشهير هو مثال شركة كمبيوتر شهيرة وضعت قاعدة أن كل موظف في خدمة العملاء يحل مشكلة العميل في التليفون في أقل من كذا دقيقة يزيد تقييمه و بالتالي فرصه في الترقية و زيادة المرتب. النتيجة أن موظفي خدمة العملاء كانوا ينهون مشكلة العميل بأغرب الطرق التي من ضمنها أن يرسلوا له جهازاً جديداً تماماً ! ما دمت لا تقيم الموظف إلا بالوقت تحميل النتيجة. عموماً عوامل تقييم الموظفيين نقطة شديدة التعقيد في الإدارة ككل لإنها تحدد سلوك الموظف و الشركة ككل لكن يبدو أن الحمقي في الحكومة الكندية لم يعرفوا هذا، بالتالي النتيجة أن الأطباء في كندا ينهون الكوتة اليومية في ساعتين ثم يذهبوا لبيوتهم أو لمركز طبي أخر. لم تجبرهم هذه القاعدة الحمقاء علي إنفاق وقت طويل مع المرضي لكن نتج عنها بالطبع أن طوابير الإنتظار زادت. حين أخبروني أن أول زمن متاح لأخذ عينة من الورم و تحليلها بعد ثلاث أسابيع و حاولت أن أناقش الأمر، أخبرتني الموظفة أنهم لا يجروون هذه التحليل إلا يومين فقط أسبوعياً، و في كل يوم يأخذون أربع حالات فقط ! المنطقي أنه إن كان لديكم طوابير إنتظار و أنتم تتقاضون مالاً من الحكومة في مقابل هذه الحالات فالمنطقي أن تجروها بمعدل أعلي لتكسبوا المزيد من المال، لكن غالباً الحكومة تتعامل معهم بكوتة كما تفعل في كشف الأطباء.
بالإضافة لهذا فالمقابل المادي الذي تضعه الحكومة للطبيب بسيط مقارنة بما هو متاح له، و هو العمل في أمريكا، حيث القوانين تسهل علي الطبيب الكندي الدخول لسوق العمل و للمنظومة الطبية الأمريكية،و حيث سيتقاضي مبلغاً فلكياً. عموماً هناك نقص شنيع في الأطباء، و أي عيادة أو مركز نذهب إليه نجد إعلانات تطلب أطباء. و مع هذا النقص العنيف في الأطباء، فإن قوانين الهجرة للأطباء في كندا هي الأعقد في العالم ! مثلاً لكي تكون طبيب مصري و تعمل كممارس عام في كندا فأنت ستدرس لمدة سنة تقريباً أو أقل، تكلفة الدراسة 20 الف دولار، و بالطبع عليك بجانها أن تتولي مصاريف إقامتك و حياتك لأنك لا تتقاضي مرتباً. لو لم يكن هذا معقد بما يكفي، فأنت أيضاً تحتاج لأن تكون حاصل علي إقامة دائمة، بالتالي مثلاً لا يوجد شيء إسمه (تصريح عمل لطبيب). إما أن تكون مقيماً إقامة دائمة و إما لا. بالتالي في كندا تسمع الحكايات اللطيفة عن أطباء مصريين هاجروا و حصلوا علي الجنسية ثم عادوا مصر لأنهم لم يستطيعوا أن يمروا بكل هذا حتي يسمح لهم بالعمل كأطباء في كندا. قارن هذا مثلاً بألمانيا التي تفتح ذراعيها للأطباء المصريين. بالطبع تعليم مصر غير معترف به في أي مكان محترم لكن ألمانيا مثلاً تفتح لهم فرص للكسب المادي من أول يوم و تسهل عليهم الدراسة و التدريب حتي يصيروا مؤهلين بالمقاييس الألمانية. لكن في كندا قوانين العمل و الهجرة عموماً منفصلة عن إحتياجات الدولة، بالتالي يمكن بسهولة أن تقول أن الدولة تحتاج كذا شخص من التخصص الفلاني، الأرقام كلها معروفة و منشورة، ثم تجد أن قوانين الهجرة و العمل لهذا التخصص مذهلة في صعوبتها مقارنة بباقي دول العالم الأول، الأطباء ليسوا إستثناءاً. هذه واحدة من علامات الغباء الإداري الكندي التي لا تحصي.
كل هذا كوم و ما سأقول الآن كوم آخر: 94 بالمائة من الكنديين يرون أن منظومتهم الصحية هي فخر قومي !
السبب أنهم يقارنون أنفسهم بأمريكا، حيث المرء يدفع مبالغ طائلة لشركات التأمين الصحي و حيث التأمين يغطي نسبة من التكاليف (بناء علي نوع التأمين الخاص بك و كم تدفع شهرياً)، و حيث يموت المرء بديون ثقيلة لورثته إن أصابه مرض خطير علاجه مكلف. تذكر أن نائب أوباما شخصياً باع بيته ليعالج إبنه من السرطان. بالتالي الكنديين يفخرون بأنهم يعالجون كل الناس، و يرون أن هذا البطء ضريبة لكونهم يعالجون الجميع. في المقابل الأمريكيين يرون النظام الكندي مرعب، و هو البعبع الذي يستخدمه ترامب ليقنع الناس بإلغاء التأمين الصحي الحكومي، أوقفوا التأمين الصحي و إلا صرنا مثل الكنديين لا نجد علاجاً في الوقت المناسب مهما كان معنا من مال.
أنا قادم من بلد النقاش الرئيسي فيه هو (الإخوان أم السيسي)، بالتالي عندي حساسية من المناقشات الغبية القائمة علي الإختيار بين خيارين إثنين فقط و كأن الحياة ليس فيها إلا نموذجين إثنين علينا أن نختار منهم. مناقشة النظام الصحي الكندي هي واحدة من هذه المناقشات المريضة، هم لا يعرفون إلا أمريكا و أمريكا لا تعرف إلا كندا. علي مستوي الأبحاث العلمية التي تدرس منظومة التأمين الصحي فالخيارات متعددة، و كل بحث يخرج في النهاية ليقول أن (لدي الفرنسيين و الألمان و الهولنديين الكثير ليعلموه لنا نحن الكنديين فيما يتعلق بمنظومة التأمين الصحي)، لكن علي مستوي السياسة و نقاش رجل الشارع و ما تسمعه في الأخبار و من الموظفات في العمل فإنهم لا يرون الحياة إلا من خلال واحد من النظامين.
في هولندا منظومة التأمين الصحي قائمة علي شركات لكن تحكمها قوانين. بالقانون أنت مطالب أن تؤمن علي نفسك، تختار شركة تشترك معاها، الأمر ليس إختيارياً بل هو إجباري. في المقابل تكلفة التأمين كانت 130 يورو تقريباً (شاملة الأسنان، الأدوية، جلسات علاج طبيعي، الخ). الدولة تحكم السعر بدرجة ما و تحكم الخدمات الأساسية للتأمين، بالتالي مثلاً في أمريكا لو ذهبت لشركة تأمين و أنت تعرف أن عندك سرطان يمكن للشركة أن ترفض أن تؤمن عليك أو تجبرك علي دفع قسط شهري فلكي لإن تكلفة العلاج كبيرة، في هولندا الشركة ليس لها خيار، أنت ستدفع المبلغ المحدد و الشركة ستعالجك لأن هذا جزء من الخدمات الصحية الأساسية. الشركات تتنافس في جودة خدمة العملاء، الخدمات التكميلية مثل النظارة الطبية، الخ، لكن الخدمات الأساسية محكومة بالقانون. بالتالي المنظومة فعالة لإن الشركات تتنافس فيما بينها للفوز بالزبائن، الأطباء و المستشفيات تحاول أن تقدم أفضل خدمة لأنها تتقاضي مقابلها مالاً من شركة التأمين، و لأن شركة التأمين تحكم الممارسة الطبية بقدر ما، و لأنك بسهولة من الممكن أن تترك هذا المستشفي لتذهب للمستشفي المجاور و تترك هذا الطبيب و تذهب لآخر. حتي في الخدمات المجانية، و هي علاج الأطفال، حيث الطفل في هولندا و حتي سن 18 سنة (التعريف الرسمي للطفل بحسب منظمة الصحة العالمية) تتولي الدولة علاجه، فإن الدولة لا تتدخل في التأمين الصحي مباشرة بل تدفع الرسوم لشركة تأمين. بالتالي مثلاً أنا أريد أن أؤمن علي إبني، أذهب لشركة تأمين أقول لهم أني أريد تسجيل إبني معهم. تقارن شركة التأمين بين باكيدج التأمين الصحي لي و لأمه و تعطيه الأعلي فيهم، و إن كانت لا تشمل علاج الأسنان (علاج الأسنان إختياري و له رسوم إضافية) فإن الشركة تضيف له علاج الأسنان. أنا لا أدفع شيئاً و الشركة تأخذ تكلفة قسط التأمين من الحكومة، لكن الحكومة نفسها لا تتدخل، لا تحاول أن تحكم الممارسة الطبية مثلاً و لا تقوم بأي من الأدوار التي يجب أن تقوم بها شركة التأمين. بالتالي طبعاً لا تجد قرارات بلهاء مثل كوتة للطبيب في اليوم لإن المريض وقتها سيترك الشركة و يذهب لشركة أخري إن إعتذر له الطبيب بأنه أنهي الكوتة المقررة من شركة التأمين الخاصة به.
بعد أن حدث لنا ما حدث و أثناء بحثي في المنظومة الطبية الكندية و مقارنتها بغيرها إكتشفت أن هولندا هي الدولة صاحبة أقصر زمن إنتظار في دول العالم الأول كله. لم أعرف هذه المعلومة حين كنت أعيش في هولندا.
هناك تقييم مشهور لأكثر المدن قابلية للحياة في العالم تجريه الإيكونوميست، في هذا التقييم فانكوفر هي المدينة الأولي علي العالم و أحياناً الثالثة، الموضوع يتغير من سنة لأخري لكنها دائماً في مركز متقدم. المدينة التي تحتاج فيها لسنة لتجري فيها إختبار حساسية بسيط، المدينة التي يجري فيها الناس جراحة تغيير مفصل بعد إنتظار عام، المدينة التي تجري فيها رنين مغناطيسي في 6 شهور، يري الحمقي في الإيكونوميست أنها أفضل مدينة للحياة فيها في العالم. بعد بحث وجدت أن التقييم يري أن المنظومة الطبية الكندية أفضل من نظيرتها الهولندية لأن الهولنديين يدفعون مالاً في تأمينهم الصحي لكن الكنديين لا يدفعون أو يدفعون 30 دولار فقط. لا أحد ينظر لنسبة هذا المال مقارنة بمتوسط الدخل القومي للفرد (هو نسبة بسيطة للغاية)، لا أحد ينظر لأن المنظومة الكندية لا تتولي ثمن العلاج - بالتالي المرضي بأمراض خطيرة يدفعون مبلغاً محترماً، ليس ضخماً مثل أمريكا التي ستدفع فيها تكلفة كل شيء، أطباء و أدوية و فحوصات، لكن بالتأكيد ليس مثل هولندا التي تتولي فيها منظومة التأمين الصحي تكلفة الدواء أيضاً - و لا أحد ينظر لزمن الإنتظار لتقابل أخصائي أو تجري أشعة أو عملية بسيطة. الحمقي في الإيكونوميست و ما يشبهها من الهيئات التي قيمت القابلية للحياة في المدن عندما قيمت النظام الطبي نظرت فقط للمبلغ الذي يدفعه المرء للتأمين الصحي شهرياً ثم يخرجوا كل سنة بتقييمهم المتخلف شديد الشهرة للأسف. أنا تعلمت من جلال أمين أن الإقتصاد فيه عوامل كثيرة و أن المنظمات الدولية حين تقول مثلاً إن الأداء الإقتصادي للدولة الفلانية جيد فإنها تنظر لبعض العوامل و تهمل بعض، بالتالي ممكن مثلاً أن تنظر لحجم اقتصاد الدولة و تهمل عدالة توزيع الدخل مثلاً، بالتالي إن تحسن حجم الإقتصاد و ساء توزيع الدخل فإن هذا لا يعني تحسناً في حياتي كمواطن بسيط. تقييم فانكوفر الذي تخرج به الإيكونوميست و أشباهها مثال علي هذه الفكرة.
في كندا عندما يقترح أحدهم إدخال القطاع الخاص في منظومة التأمين فإن الناس توشك علي رجمه لأنهم لا يفهمون إدخال القطاع الخاص إلا بالشكل الأمريكي الذي يعني أنك إن كنت فقيراً مريضاً فأنت ميت أو مدين بأرقام تاريخية. أوروبا و ما فيها خارج التفكير تماماً، هم يعرفون أن الحياة هناك أفضل و أن نظامهم الصحي أفضل، لكن علي أرض الواقع لا ينظر أحدهم لها مقارناً ما يفعلونه بما يفعله هو، تماماً كما يعترف الإخواني أو اللي مش إخوان بس بيحترمهم بأن (بالتأكيد عندنا مشاكل، نحن بشر، الخ) لكن كل المنظومات الفكرية و السياسية الأخري التي عرفتها البشرية هي خارج تفكيره اليومي و خارج وعيه، ولا يظن في نفسه يوماً ما أن يتعلم منها و يقلدها فعلياً و بجدية.
هناك مصطلح في الرياضات القائمة علي مضارب (التنس، الإسكواش، تنس الطاولة) هو (البقعة الحلوة sweet spot)، و هي نقطة في المضرب (وسطه غالباً) تعطي اللاعب أعلي تحكم في الكرة و أعلي سرعة في نفس الوقت إن إستطاع أن يضرب الكرة بهذه البقة تحديداً. لو إنحرف عنها فإما أنه يأخذ تحكم في إتجاه الكرة بدون سرعة أو العكس. غرب أوروبا هي البقعة الحلوة بين الإشتراكية و الرأسمالية، النقطة التي أخذت ميزات هذا و ذاك. التأمين الصحي في هولندا مثال ظريف علي هذا. كندا هي الدولة التي تتمني أن تفعل هذا لكنها فشلت في أن تفعله، و علي حد تعبير أحد أصدقائي فإنك تشعر أن هناك أشياء وصل لها البشر في أوروبا من سنين و لم يعرف الناس بعد في قارة أمريكا الشمالية كيف يفعلونها. في الماضي كنت أنتقد المنظومة الرأسمالية بشدة لكن اليوم صرت أتحسس من المبالغة في إنتقاد الشركات و المؤسسات و عالم البيزنس. عالم البيزنس يمكن أن يقدم للبشر الكثير من الخدمات التي تحسن من حياتهم، كندا مثال رائع عن ما يمكن أن تصل إليه دولة لا تعرف كيف تدير بيزنس و كيف تقحم البيزنس و الشركات في الحياة بشكل سليم.