لا توجد خلافات كبيرة بين العلماء في الرياضيات و الكيمياء و الفيزياء، و لكن في العلوم الإنسانية (مثل الإقتصاد، السياسة، الإجتماع، علم النفس) هناك الكثير من الآراء و النظريات المتناقضة و المختلفة. المشكلة أن الكثير من الناس لا يفرق بين العلوم الإنسانية و العلوم المادية، و يعتبر أن كل ما تأتي به العلوم الإنسانية سليم و لا يمكن الشك فيه. إن رفضت الأخذ برأي فرويد فأنت ترفض العلم. إن رفضت توصيات البنك الدولي فأنت ترفض توصيات مبنية علي العلم.
نسبة الخطأ في العلوم الإنسانية كبيرة جداً، و في هذا المقال نحاول أن نرصد العوامل التي تؤدي إلي الخطأ عند دراسة ما يتعلق بالإنسان من علوم و نظريات. سنعرض كل عامل منفرداً وسنعرض معه نظرية هامة كان هذا العامل موجوداً فيها. سنحاول أن ننتقي النظريات التي لها التأثير الأكبر في النظم الإجتماعية المعاصرة.
1- التعصب:
يعتقد الكثيرون أن العلماء أشخاص محايدون، لا يهتمون إلا بالعلم المجرد ولا يتحدثون إلا بما ثبتت صحته بغض النظر عن أي عوامل أو أراء شخصية، و لكن هذا غير صحيح. هناك الكثير من التعصب في النظريات الإنسانية الحديثة، تعصب لفكرة معينة بسبب الظروف المحيطة بالعالم الذي وضع النظرية أو بسبب شخصيته.
الطبيعة كخالق:
أشهر أشكال التعصب و أكثرها تأثيراً في النظريات الحديثة هو رفض كل ما يتفق مع الدين حتي إن وافق العلم، و حتي إن كان البديل فكرة لا تصمد لأدني تدقيق علمي محترم. الخلاف بين الكنيسة و العلماء في العصور الوسطي أدي إلي فكرة تناقض الدين مع العلم. ذكر الدين أو الله في أي نظرية علمية كفيل بسلبها الطابع العلمي في نظر العلماء. حتي إن إتفق الدين مع العلم يحاول العلماء البحث عن أي تفسير و لو كان غير منطقياً لظواهر طبيعية و إنسانية فقط لكل لا يقولوا ما يتفق مع الدين. تعذيب العلماء و قتلهم كان خطأ من الكنيسة في العصور الوسطي و لكن الحل ليس رفض أي فكرة تتفق مع الدين مهما بدت منطقيتها و قبول أي فكرة غير منطقية تمثل مهرباً من ذكر الألوهية. في اللغة الروسية هناك كلمة بريجيب التي تستخدم لوصف ما يحدث عندما تكون عصا معوجة ناحية اليسار فيحاول أحدهم تعديلها فيثنيها ناحية اليمين، و هي كلمة تعبر عن هذا الموقف
حين تحدث دارون عن الخلق قال أن الطبيعة هي التي تخلق. الطبيعة تعمل بشكل عشوائي إلا أنها في نفس الوقت لا حدود لإبداعها ! بالتالي الطبيعة أنتجت من يتفوق عليها، فالإنسان غير عشوائي بل هو كائن منظم بينما الطبيعة التي أنتجته غير منظمة. لتفسير الخلق قال العلماء الملحدون أن الأمر جاء بالصدفة، هذا الكون المحكم وليد الصدفة البحتة التي جاءت نتيجة لملايين السنين من التخبط الذي تعمل به الطبيعة. لو أعطيت قرداً آلة كاتبة و تركته يخبط المفاتيح عشوائياً لملايين السنين فلابد أن يأتي يوم ما يخرج فيه بقصيدة لشكسبير! بالتالي، و علي حد تعبير دارون، إفتراض أي خالق للكون يكون مثل إفتراض قوي غير طبيعية في نظام ميكانيكي محكم (مثل الساعة).
و لكن حتي حين حسب العلماء إحتمالية أن يخرج القرد قصيدة لشكسبير وجدوا أنها أقل بكثير من عامل واحد محكم في الكون. نسبة الأكسجين لو زادت قليلاً عما هي عليه لحدثت كوارث، كوارث في درجات الحرارة، في معدلات حرق الطعام لدي الكائنات الحية، مشاكل في التنفس، الخ.بعد الأرض عن الشمس لو زاد لإنخفضت درجة الحرارة و لو قل إرتفعت و في كلا الحالتين لن تكون الأرض مناسبة لقيام حياة. إحتمالية أن يأتي القرد بقصيدة لشكسبير أقل بكثير من أن يأتي بعد الأرض عن الشمس بهذا الرقم المحكم المناسب للمناخ و للكائنات الحية. ما بالك بمدارات الذرة، بنسب الهرمونات في الكائنات الحية، بمدارات حركة الكواكب، الخ. كلها محكمة بدرجة كبيرة، و إحتمالية أن تأتي نسبة منهم صدفة أقل من إحتمالية أن يأتي القرد بقصيدة لشكسبير، فما بالك بأن تأتي كل هذه النسب مجتمعة سوياً؟
هذه محاولات غير منطقية لتجنب ذكر الله، لتجنب ذكر أن هناك قوي عليا تملك العلم و القدرة، لتجنب أن تذكر شيئاً ينطبق مع الأديان. هذا أول عامل في العوامل التي ذكرناها سابقاً.
الأسوأ من هذا أن النظرية تصف الإنسان أنه حيوان أكثر تطوراً من باقي الحيوانات. النظرية قد تصلح لوصف التحورات الجسدية في أجساد الحيوانات، مثل القول بأن الزرافة كانت قصيرة العنق و لكنها إحتاجت أن تأكل الورق من الأشجار في الفترات التي نضب فيها العشب فإستطال عنقها علي مدي ملايين السنين من محاولات مط عنقها، و لكن ما الذي سبب تطور المخ في الإنسان، و هو الشيء الذي يرتقي به علي كل المخلوقات؟ لا يوجد تفسير منطقي هنا، و علي الرغم من هذا تتجنب النظرية أن تصف الإنسان بأنه مميز، و لا تري سوي أنه حيوان أكثر تطوراً من باقي الحيوانات لتتجنب أن تتفق مع الأديان في فكرة أن الإنسان مميز في خلقه و في في أن الله منحه العقل و منحه السيادة علي الكون.
فكرة أنه لا يوجد خالق إختص الإنسان بصفات معينة و أن الإنسان مجرد حيوان متطور تلغي أي أساس للقيم الإجتماعية. علي سبيل المثال يصف ماركس الأسرة علي أنها نتيجة تطور المجتمعات من البدائية إلي الزراعة، حيث الرجل (الفلاح) هو المتكسب الأول في النظام الزراعي، لذا يبسط سيطرته علي أسرته و علي الأخص علي المرأة التي ينفق عليها و يجبرها علي أن تكون ملكاً له وحده. ومن ثم تصبح قضية العفة والمحافظة على العرض ذات قيمة كبيرة فى المجتمع الزراعى ، ويفرض على المرأة أن تحافظ على عرضها (إرضاء لأنانية الرجل المتكسب المنفق) ويضفى على ذلك ثوب الدين والأخلاق ، فتصبح قضية العفة قضية دينية وأخلاقية فى حين أنها مجرد انعكاس لوضع اقتصادى معين يكون الرجل فيه هو المتكسب دون المرأة.
لهذا إن إنتقلنا إلي المجتمع الصناعي فإن المرأة تستقل اقتصاديا لأنها تعمل وتتكسب ولا تعود عالة على الرجل كما كانت فى المجتمع الزراعى (المتأخر). ومن ثم يفقد الرجل سيطرته عليها ولا يعود فى إمكانه أن يفرض عليها أن تكون له وحده ، كما كان يفرض عليها فى المجتمع الزراعى فتتحرر من القيود ، وتفقد قضية العفة أهميتها فى المجتمع الصناعى المتطور ، لأنه أصبح من حق المرأة أن تهب نفسها لمن تشاء دون سيطرة الرجل عليها.
فكرة حيوانية الإنسان أيضاً كانت أساس لنظرية الوجدان الجمعي لإيميل دوركايم Emile Durkheim عالم الإجتماع الفرنسي. درس دوركايم الثورة الفرنسية فوجد أن الرعاع إرتكبوا أفعالاً من القتل و النهب و التعذيب يرفض أي منهم أن يقوم بها لو كان بمفرده و لكنه قام بها بسعادة حين كان وسط الجماهير الغوغائية. الكثير من العلماء درسوا هذه الظاهرة و خرجوا بالكثير من النظريات المختلفة، إلا أن دوركايم إستنتج منها أن الإنسان - الحيوان المتطور- محكوم " بنزعة القطيع" التى تحكم عالم الحيوان وتسيره دون وعى منه ولا إرادة، و قد سمي هذه النزعة (الوجدان الجمعي)، و إليه رد دوركايم كل القيم الإجتماعية لدي البشر. هذا (الوجدان الجمعي) متغير و لا يثبت علي حال، بالتالي ما كان مقبولاً في الماضي قد يصير مرفوضاً اليوم و العكس صحيح.
من هنا يستنتج دوركايم عدم ثبات القيم الإجتماعية و الأخلاقية. الدين و الأسرة فطرة في الإنسان و لكن دوركايم يري أن هذه الأشياء ليست فطرة في الإنسان و ليست تعليمات سماوية بل هي مجرد نتائج للعقل الجمعي الذي يحكم قطيع البشر.
حكي عبد الوهاب المسيري أنه حين كان في أمريكا كانت أخته تزوره، و كانوا يساعدون أحد جيرانهم في نقل أثاثه. أثناء نقل الأثاث شعرت أخته بالعطش و كانت جارتهم تجلس في شرفة أمام مدخل بيتها، فتوجهت أخته إلي جارته و طلبت منها كوباً من الماء فردت عليها قائلة “لماذا يجب علي أن أفعل هذا؟ Why should I?” . لم تفهم أخته ما تقصده الجارة فتوجهت إلي المسيري لتسأله عن معني ما قالته الجارة فقال لها أنها تعني أنه لا يوجد ما يجبرها علي أن تعطيك كوب من الماء، لا تعاقد بينك و بينها و لا نص في القانون يجبرها علي أن تعطيك كوباً من الماء، فلماذا تعطيك إياه.المسيري يصف هذا المجتمع ب (المجتمع التعاقدي) حيث العقود و القانون هي ما يحدد علاقة المرء بالآخرين بدون أي قيم أو مباديء ثابتة.
عدم وجود قيم إجتماعية ثابته لا يعني أن يشكك المرء في نظام الأسرة و عفة المرأة فقط، بل أن يشكك في أبسط البديهيات الأخلاقية مثل إعطاء العطشان كوب من الماء.
2-رد كل التصرفات البشرية إلي عامل واحد:
الكثير من العوامل المتشابكة تؤثر في سلوك الإنسان، و لا يمكن رد التصرفات البشرية كلها إلي عامل واحد. الخطأ يحدث في النظريات الإنسانية حين تركز علي عامل واحد فقط و تهمل باقي العوامل المؤثرة في سلوك الإنسان. الكثير من نظريات علم النفس وقعت في هذا الخطأ. الجنس عامل مؤثر في تصرفات البشر إلا أن فرويد أخطأ برد كل تصرفات و أفكار البشر إلي عوامل جنسية بما في ذلك الدين ذاته. نظر فرويد إلي الطاقة الجنسية علي أنها الطاقة الكبري المسيطرة علي الإنسان و علي كل طاقاته. يهمل فرويد فكرة حب الخير كعامل في فطرة الإنسان، يهمل القيم المستمدة من الدين - حيث يصبح الدين نفسه نتيجة لعوامل و صراعات جنسية - و يهمل الحب و المشاعر الطيبة بين الناس بعضهم البعض و بين أعضاء الأسرة الواحدة. أي شكل من أشكال التسامي الأخلاقي هو نوع من الشذوذ و كل مشاكل البشر النفسية و الأخلاقية سببها الكبت.
من هنا يمكننا أن نفهم مقولة ألدوس هكسلي Aldos huxley، الكاتب الإنجليزي الشهير، التي قال فيها “إن المحلل النفسي يقف لا محالة إلي جانب الفاسدين عديمي الأخلاق”. التحليل النفسي بناء علي فكر فرويد يرفض أي شكل من أشكال الرقي الأخلاقي و التسامي و لا يؤمن بوجود شيء إسمه القيم العليا في فطرة الإنسان أو في الدين، و يري الدين علي أنه شيء غير صحي يسبب للمرء الكبت.
3- محاولة قياس ما لا يمكن قياسه:
تحدث جلال أمين عن ولع الأمريكيين بالقياس. الأمريكي لا يصف شخصاً بأنه طويل بل يقول إن طوله كذا قدم. لا يصف المسافة بين مدينتين بأنها قصيرة بل يقول تستغرق كذا دقيقة بالسيارة. للاسف هناك الكثير من الأشياء لا يمكن قياسها و محاولة قياس ما لا يمكن قياسه سبب للكثير من الأخطاء في النظريات الإنسانية.
تشخيص المرض النفسي إحصائياً:
في عام 1973 قام عالم النفس ديفيد روزنهام بتجربة عرفت فيما بعد بإسم تجربة روزنهام Rosenham experiment . إختار روزنهام أحد عشر شخصاً بالإضافة لنفسه و قاموا بالذهاب إلي 12 مصحة نفسية مختلفة في أنحاء أمريكا. طلب روزنهام أن يدعي كل منهم أنه يسمع كلمة واحدة هي كلمة خواء Empty يرددها شخص غير موجود (كنوع من الهلوسة السمعية). بخلاف ذلك علي كل منهم أن يتصرف بشكل طبيعي تماماً و لا يدعوا أي أعراض أخري من أي نوع.
تم تشخيص الإثني عشر شخصاً علي أنهم مرضي عقليين بأمراض مختلفة و تم وضعهم تحت العلاج و لم يتم إطلاق سراحهم إلا حين إدعي كل منهم أنه قد شفي و لم يعد يسمع الهلاوس. ديفيد روزنهام صاحب التجربة أخبر أهله أنه سيغيب لمدة يومين إلا أنه لم يتم إطلاق سراحه إلا بعد شهرين كاملين من (العلاج) !. بعدها أعلن روزنهام النتيجة فقام ممثلوا إحدي المصحات النفسية التي شملتها التجربة و قالوا إن ما حدث كان خطأ غير مقصود، و لكنه لا يشكك في قدرتهم علي تشخيص الأمراض العقلية. كإثبات لوجهة نظرهم طلبوا من روزنهام أن يرسل حالات من المرضي الزائفين إلي مستشفاهم علي مدي شهر و سينجحوا في إستبعادهم من وسط المرضي الحقيقيين. وافق روزنهام علي التحدي و بعد شهر أعلن أطباء المستشفي بفخر أنهم نجحوا في الإمساك ب 41 مريض زائف. هذا رائع و لكن هناك مشكلة صغيرة. روزنهام لم يرسل أي شخص إلي المستشفي ! المرضي الذين تم إستبعادهم بواسطة المستشفي هم مرضي حقيقيين جائوا طلباً للعلاج.
كانت هذه التجربة صدمة للأطباء النفسيين و علامة في تاريخ الطب النفسي. التجربة أثبتت أن الأطباء النفسيين ليست لديهم معايير ثابتة لقياس و إثبات المرض العقلي و ظهرت بناء عليها عدد من النظريات التي تشكك في الكثير من ما كان يعتبر من ثوابت الطب النفسي من قبل علي أساس أن الأطباء النفسيين لم يعودوا محل ثقة كما كانوا من قبل.
تحرك علماء الجمعية الأمريكية للطب النفسي، فقالوا إننا لا يمكننا أن نفهم العقل البشري و لا سبب الأمراض العقلية إلا أننا نفهم كيف تبدو الأمراض العقلية. هذه هي أعراض الإكتئاب، هذه هي أعراض إزواج الشخصية، الخ. بناء علي هذه الأعراض تم عمل قائمة من الأسئلة يجيب عنها المرء بنعم أو لا. أسئلة من طراز هل تجد صعوبة في التعامل مع الناس؟ هل يتغير مزاجك بإستمرار؟ هل تشعر بالحزن أحياناً دون مبرر منطقي؟ الأسئلة يتم إدخالها إلي الكمبيوتر و بناء علي النتائج الإحصائية يحدد الكمبيوتر ما إذا كان الشخص مريضاً أم لا. ميزة هذه الطريقة في نظر المؤيدين لها أنها لا تترك مجالاً للآراء و الإنطباعات الشخصية للطبيب النفسي بل الأمر يقوم به برنامج كمبيوتر عقلاني و محايد.
تجربة روزنهام ليست أزمة كبيرة لأنه لا توجد قواعد ثابتة في علم النفس. هناك علوم تسمي علوم دليلية Heurestic Sciences و هي العلوم التي لا تخضع لقواعد محددة. التصميم بمختلف أنواعه هو مثال جيد للعلوم الدليلية، سواء كان تصميم مباني أو تصميم آلات أو تصميم برامج الكمبيوتر. هناك قاعدة في تصميم برامج الكمبيوتر تقول “عليك أن تثق بحدسك لتحكم ما إذا كان التصميم جيداً أم لا”. و لهذا أيضاً من المعتاد أن تري خلافاً بين إثنان من العمالقة، كلاهما لا يمكنك أن تصفه بالغباء أو الجهل، يري أحدهم رأياً و يخالفه الآخر تماماً. لهذا إن قلنا أن علم النفس ليست فيه وسيلة ثابتة للقياس فهذه ليست أزمة كبيرة، إلا أن الجمعية الأمريكية للطب النفسي لم تتقبل فكرة أنه لا يمكن القياس بدقة في علم النفس.
مشكلة أسلوب التشخيص القائم علي أسئلة محددة أنه لا يأخذ الظروف التي تحيط بالشخص في الإعتبار. إن قلنا أن شخص يتعرض لضائقة مادية، وفاة أحد الأعزاء عليه، أو حتي نمط الحياة الغربي بما فيه من وحدة و عدم ترابط، كل هذا لابد أن يؤدي إلي أعراض من الحزن و التوتر و فقدان التركيز و المزاج العصبي، الخ، و قد يكون المرء غير طبيعي إن لم يشعر بهذه الأعراض في الظروف الصعبة.
لهذا حين خرجت هذه الإختبارات إلي الناس جاءت النتائج بأن أكثر من 50% من الأمريكيين مرضي نفسيين !
هنا كانت الفترة السحرية التي ظهرت فيها طائفة من الأدوية تعرف إختصاراً بال SSRI و هي أدوية تتلاعب بكيمياء المخ لعلاج الأكتئاب و عدد من الأمراض العقلية. ربما كان أشهر هذه الأدوية هو البروزاك Prozac. الطبيعي أن غير الأطباء لا يعرفون الأدوية، و حين تأتي شركة بدواء جديد فإنها تستهدف الأطباء بنشرات و مؤتمرات لإقناعهم بهذا الدواء و بالتالي يصفوه لمرضاهم، إلا أن البروزاك كان أحد الأدوية التي تم تسويقها إلي المستهلك مباشرة من خلال أعلانات مثل إعلانات معجون الأسنان، و بعبارات من نوعية “هذا هو الدواء الذي سينهي كل مشاكلك”. تزامن إنتاج ال SSRI مع الإختبارات العقلية التي إكتسحت المجتمع الأمريكي و التي خرجت بنتيجة أن أكثر من 50% من الشعب مرضي نفسيين لتعطي البروزاك و أمثاله مبيعات كاسحة (كان البروزاك يمثل 10% من إجمالي مبيعات شركة الأدوية التي أنتجته و إرتفعت النسبة لتصل إلي 25% اليوم بمبيعات تصل إلي 2,2 مليار دولار). بالطبع التلاعب بكيمياء المخ لا يمر بسهولة و وصف عدد من الناس أهلم بأنهم صاروا أقل حزناً أو عصبية حين تعاطوا البروزاك إلا أنهم “لم يعودوا كما كانوا في الماضي”.
بول ماكهيو رئيس قسم الطب النفسي بمستشفي جون هوبكنز قال إن الناس تأتي إليه تطلب منه أن يجعلهم (طبيعيين). هناك نموذج محدد للإنسان الطبيعي تحدده الإختبارات التي خرجت بها الجمعية الأمريكية للطب النفسي و التي إكتسحت أمريكا. هذا النموذج محدد مثله مثل نماذج سلوك الحيوانات أو حتي سلوك الآلات، و كل مريض يطلب منه أن يجعله (مثل النموذج) بإستخدام الأدوية مثل البروزاك. النموذج يجعلهم يتخيلون أنهم سيعيشون في عالم ليس به أدني قدر من الحزن أو القلق أو التردد.
روبرت سبيتزر عضو جمعية الطب النفسي الأمريكي و صاحب فكرة الإختبارات المبنية علي أسئلة تجاب بنعم أو لا، إعترف أنهم بنوا تشخيصهم علي الأعراض بينما هذه الأعراض قد تكون طبيعية بناء علي ظروف المريض، و إعترف سبيتز أن هذا قد يكون تسبب في محاولة وصول نسبة الناس للصورة السليمة بالأدوية. سبيتزر قال أنه لا يعرف بالظبط حجم المشكلة و ما إن كان مثلاً 20 أو 30 بالمائة ممن يتعاطون هذه الأدوية هم أشخاص طبيعيين، إلا انه قال أنه إن كان 20 بالمائة ممن يتعاطون هذه الأدوية من الأصحاء فهذه مشكلة كبيرة. الطريف في الأمر أن الجمعية الأمريكية للطب النفسي مستمرة في في إصدار نسخ أخري من نفس الإختبارات بعد إجراء التعديلات عليها حتي اليوم، و قد أصدرت النسخة الخامسة من هذه الإختبارات عام 2000. مازالوا يرفضون قبول فكرة أن هناك أشياء لا يمكن قياسها !
4- وضع نظريات بناء علي إفتراضات غير سليمة:
غالباً ما تكون هذه الإفتراضات متعلقة بالإنسان، إفتراضات متعلقة بسلوكياته أو نفسيته، إفتراضات لم تثبت صحتها أو أثبت أحدهم خطأها بالفعل و علي الرغم من هذا إستخدمت لبناء نظريات في الإقتصاد أو علم النفس أو السياسة.
المستهلك العقلاني:
أحد أسس السوق المفتوح و حرية التجارة فكرة أن المستهلك عقلاني، يعرف مصلحته و يعرف فعلاً ما ينفعه و ما لا ينفعه، و علي الحكومات أن نترك المنتجين ينتجون ما يشاءون من سلع و يقدموا ما يريدون من خدمات بدون قيود و المستهلك سيختار ما يناسبه. الكلام رائع و لكن من الذي قال إن المستهلكين عقلانيين؟ لنري أن المستهلك غير عقلاني سنتحدث قليلاً عن إدوارد بيرنز.
كان بيرنز يمت لفرويد بقرابة مزدوجة، إذ كان فرويد خاله و زوج عمته في نفس الوقت. هاجرت أسرة بيرنيز إلي أمريكا و هو صغير إلا أنه ظل علي إتصال بخاله و علي علم بأحدث كتبه و نظرياته بإستمرار. في بدايات القرن العشرين أنشأ بيرنيز مؤسسة لتقديم الإستشارات التسويقية للشركات. عند تأسيسها حاول بيرنيز أن يبتعد عن كلمة دعاية لأنها كانت كلمة مستخدمة كثيراً في الحرب العالمية الأولي، لذا إخترع كلمة (علاقات عامة). سمي بيرنيز المؤسسة (مجلس العلاقات العامة).
من أهم ما جاء به فرويد فكرة العقل الباطن، فكرة أن هناك دوافع خفية تتحكم في سلوك الإنسان في معظم الأحيان، دوافع قد تكون جنسية أو الرغبة في الشعور بالتميز عن الآخرين أو الرغبة في الشعور بالإستقلال، الخ. إقتنع بيرنيز بآراء خاله و إستخدمها في الدعاية لأول مرة.
قبل ذلك الوقت كان التسويق قائم علي وظيفة السلعة و حاجة الإنسان لها. كان من المعتاد أن توصف السلعة بأنها قوية التحمل أو طويلة العمر أو ناعمة الملمس، الخ. هنا خرج بيرنيز بفكرة أن يلعب التسويق علي النزعات الخفية لدي البشر لمحاولة إشباعها. لا تصف السلعة من منطلق الوظيفة التي تؤديها، ليس من الضروري أن يكون المرء محتاجاً للسلعة لكي يشتريها، علينا أن ندفعه دفعاً للشراء عن طريق إشعاره أن شراؤه هذه السلعة سيتسبب في أن (يشعر بأنه أفضل)، و بالتالي نتحكم في الجماهير و ندفعها للإستهلاك دفعاً. تأمل الإعلان المنتشر حالياً و الذي يظهر فتيات يلقين بأنفسهن أمام الفتي لأنه إستخدم كريم شعر معين، الإعلان لم يتحدث عن مميزات هذا الكريم، فقط هو ربط بين سلعة معينة و الرغبات الجنسية لدي الناس. هذه هي فكرة بيرنيز التي خرج بها منذ ما يقرب من تسعين عاماً.
ذات يوم جاء جورج هيل مدير مؤسسة التبغ الأمريكية لبيرنيز ليخبره أن هناك مشكلة. لم يكن تدخين المرأة مقبول إجتماعياً في أمريكا في ذلك الوقت مما يعني أن مصنعي السجائر يفقدون نصف زبائنهم (أو من يمكن أن يكونوا زبائنهم). هنا خرج بيرنيز بفكرة شيطانية. في أثناء دورة الألعاب الأوليمبية المقامة في أمريكا في ذلك الوقت، أقنع بيرنيز عدد من سيدات المجتمع الأمريكي أن يخرجن في مسيرة جماعية و هن يدخنن. حين ظهرت الصور في الجرائد ظهرت بتعليق يقول أن عدد من نساء المجتمع تمردن علي سلطة المجتمع و ظهرن أثناء دورة الألعاب و هم يحملن (مشاعل الحرية). هنا لا يصير التدخين تدخيناً بل هو تعبير عن حرية المرأة و خروج من ربقة المجتمع، و ترتبط المرأة المدخنة في الأذهان بتمثال الحرية الذي هو إمرأة تحمل (مشعل الحرية). تدريجياً إنتشر التدخين بين النساء و بالطبع إزدادت أرباح مصنعي السجائر.
بيرنيز أيضاً كان أول من إستخدم الممثلين و الممثلات في التسويق للسلع، لاعباً علي الرغبة الدفينة لدي الناس أن يكونوا مثل هؤلاء المشاهير. إن إرتديتي سيدتي هذه القبعة فإنك تكونين مثل الممثلة فلانة. إن إستخدمتي هذه العطر ، إن إرتديتي هذا الحذاء، الخ، فإنك تصبحين مثل نجمة السينما فلانة. لا تتحدث عن متانة الملابس أو جودة الأقمشة أو جمال التصميم، فقط أذكر أن فلان يرتدي هذه الثياب و سيشتريها الناس بغض النظر عن حاجاتهم الفعلية لملابس جديدة و بغض النظر عن إتفاق هذه الملابس مع أذواقهم.
في عام 1924 إستدعي الرئيس الأمريكي كالفن كوليدج برنيز ليساعده لأن شعبيته وسط الجمهور في إنحدار و الصحافة تسخر منه طوال الوقت. هنا أقنع بيرنيز 34 نجم و نجمة من ممثلي السينما بأن يزوروا الرئيس في البيت الأبيض، و قد ركزت الصحف علي هذه الزيارة و بالطبع رفعت من شعبية الرئيس. هذا الأسلوب ما زال متبعاً حتي اليوم، حيث يظهر المرشحين لإنتخابات الرئاسة بجوار الممثلين في حملاتهم الإنتخابية. تذكر أن مايكل مور في فيلمه 911 فهرنهايت كان مغتاظاً من تغطية وسائل الإعلام لتصريح بريتني سبير بأنها تثق بالرئيس بوش و سياسته. بريتني ليست خبيرة سياسية أو إقتصادية أو عسكرية حتي يكون رأيها السياسي له هذه الأهمية في وسائل الإعلام. بيرنيز هو من إبتكر هذا الأسلوب الذي ما زال يثبت نجاحه حتي اليوم.
كان بيرنيز و سياساته التسويقية حلاً لمشكلة تؤرق رجال الأعمال الأمريكيين هي زيادة الإنتاج أكثر من حاجة الناس بسبب إنتشار الآلات في الصناعة. بول مايزر، أحد المديرين في بنك ليمان براذرز و الذي إستعان بخدمات بيرنيز، قال “علينا أن ننقل أمريكا من ثقافة الإحتياجات إلي ثقافة الرغبات. يجب أن يعتاد الناس أن يشبعوا رغباتهم، أن يشتروا أشياء جديدة قبل أن يستهلكوا القديم. يجب أن نشكل عقلية جديدة في أمريكا، رغبات الإنسان يجب أن تحجب إحتياجاته الفعلية”.
فيما بعد صار إستخدام علماء النفس إتجاهاً في التسويق. ظهر علماء مثل إرنست ديتشر الذي أنشأ معهد الدراسات التحريضية Institute of motivational research ، و هو مركز أقيم ليبحث الدوافع الخفية لدي المستهلكين. ديتشر هو الذي إبتكر فكرة مجموعات التركيز Focus groups، و هي لقاءات كان يعقدها لأشخاص عاديين، و يطلب منهم فيها أن يستخدموا منتجاً ما (كأن يدعوهم للغذاء و يري كيف يستخدم الناس نوع جديد من الكاتشب). كان ديتشر يتحدث معهم و يراقبهم (أحياناً من خلال كاميرات مراقبة) و يطبق أساليب التحليل النفسي عليهم و يقدم النتائج للشركات و المؤسسات.
هناك حالة جديرة بالذكر لشركة بيتي كروكر التي كانت تقدم نوعاً من الكيك سريع التحضير. كل الدراسات قالت أنه سيلاقي قبولاً رائعاً في السوق إلا أنه لم يلاقي القبول المنتظر. هنا تدخل ديتشر من خلال مجموعات التركيز، ليكتشف أن النساء كن يشعرن بالذنب إن إستخدمن هذا الكيك لأنه يشعر الزوجة أنها لم تتعب من أجل أسرتها، لم تقم بالطهي، فقط هي أضافت الماء إلي الكيك و وضعته في الفرن. إقترح ديتشر أن تعدل الشركة من تركيبة الكيك ليتطلب من الزوجة ان تضيف إليه بيضة أثناء إعداده و أن تركز علي هذا الجزء في الحملات الإعلانية و كانت النتيجة أن الكيك قد راج في الأسواق بشدة ! البيضة التي تضيفها الزوجة تشعرها أنها طهت شيئاً ما لأسرتها بدلاً من مجرد إضافة الماء و الحصول علي الكيك بدون جهد يذكر.
ديتشر أيضاً كان المسئول عن نموذج باربي الذي قام فيه بدراسة نفسية الأطفال و كيفية تلاعبهم بالدمي و بناء عليه وضع تصوره للدمية فائقة الشعبية.
ما رأيناه هنا هو سياسيات تسويقية و إقتصادية قائمة علي لا عقلانية المستهلك و التعلاعب بدوافعه الدفينة، فكيف يمكن أن تقام سياسات إقتصادية أخري بناء علي فرضية أن المستهلك عقلاني؟ و كيف يتم فتح الباب علي مصراعيه أمام الشركات تفعل ما تشاء و تنتج ما تشاء من سلع بناء علي هذه الفرضية التي ثبت بأكثر من دليل أنها خاطئة؟
5- بناء نظريات علي عينة غير معبرة:
في الإحصاء حين يدرس المرء ظاهرة تنطبق علي عدد ضخم من الناس أو الأشياء فإنه يختار عينة. مثلاً إن أردت أن أستطلع رأي الشعب الأمريكي في مرشح للرئاسة فلن أستطيع أن آخذ رأي ال200 مليون أمريكي بل علي أن أختار عينة من الناخبين لأسألهم عن رأيهم. لكي تكون العينة معبرة فعلاً عن رأي الشعب لابد أن تشمل كل فئات المجتمع و أن تشمل أشخاص من كل مدن أمريكا و أن تشمل أشخاص من مختلف الفئات العمرية…..الخ.
سنتحث هنا عن الخطأ الذي يحدث في نظريات العلوم الإنسانية حين يختار المرء عينة غير معبرة ثم يبيني عليها إستنتاجات أو نظريات.
نظرية روستو في التطور الإقتصادي:
وضع عالم الإقتصاد الأمريكي والت وايتمان روستو Rostow نظرية في التطور الإقتصادي تصف المراحل التي تمر بها الدول في تطورها الإقتصادي. المشكلة أن روستو حين وضع نظريته وضعها بناء علي دراسته لتاريخ النمو الإقتصادي في الغرب، و علي الأخص الفترة الحديثة نسبياً من التاريخ. و لكن من الذي قال أنه لا يوجد طريق آخر للنمو الإقتصادي سوي هذا الذي سلكه الغرب في فترات التاريخ الحديث؟ أخطأ روستو هنا بإختياره المجتمعات الغربية في العصور الحديثة كعينة ، و هي عينة لا يمكن أن تعبر عن كل المجتمعات البشرية في كل زمان و مكان. هناك الكثير من المجتمعات التي مرت بمراحل مختلفة عن تلك التي وصفها روستو في نظريته.
للأسف تمثل نظرية روستو و نظريات مماثلة أساساً لتوصيات و سياسات البنك الدولي. أيا ما كانت ظروف الدولة السياسة و الإجتماعية و الإقتصادية فإن هناك طريق واحد للنمو الإقتصادي و هناك مجموعة ثابتة من التوصيات التي تقدم لكل الدول علي حد سواء.
حكي جلال أمين أن أحد وزراء إقتصاد مصر في عهد السادات زاره خبير من البنك الدولي ليقدم له توصيات للسياسة الإقتصادية في مصر. كان هذا الخبير هندياً فقابله الوزير بشيء من الجفاء و الصلف و عندما إنصرف تساءل في حنق كيف يمكن لهندي أن يقدم توصيات إقتصادية لمجتمع و دولة هو لا يعرف عنها أي شيء.
هذا هو الخط العام للبنك الدولي، يمكن للمصري أن يقدم إستشارات إقتصادية للبرازيل و يمكن لهندي أن يقدم إستشارات إقتصادية لمصر لأن التطور الإقتصادي في نظرهم يمر بمراحل ثابتة محددة، مراحل لا تأخذ في الإعتبار العوامل الخاصة بكل بلد من مناخ و موارد و مجتمع و وضع سياسي.
**6-**إستخدام النماذج الرياضية لتغيير تصرفات الإنسان بدلاً من فهمها:
لنفهم معني النماذج الرياضية أو الفيزيائية سنتحدث عن تجربة شهيرة في الفيزياء. وضع العلماء بعض من غاز الهيدروجين في أنبوب زجاجي ثم إستثاروا هذا الهيدروجين عن طريق الكهرباء فنتج عن هذا الانبوب ألوان عرفت بإسم طيف الهيدروجين. و لكن ما تفسير هذا الطيف؟
هناك شيء ما يحدث لذرات الهيدروجين و لكن لا يمكن رؤية الذرة لذا لا يمكننا بالتحديد أن نعرف ما الذي يحدث داخل الذرة. هنا جاء نيلس بور الفيزيائي الشهير و قال فلنفترض أن الإلكترونات تدور في مدارات ثابتة حول نواة مكونة من بروتونات و نيوترونات. عندما تكتسب الذرة طاقة (عن طريق إستثارة الهيدروجين بالكهرباء) تتحرك الإلكترونات إلي مدار أعلي ثم تعود إلي المدار الأصلي لها مطلقة هذه الطاقة في هيئة الوان طيف. وضع بور المعادلات التي تصف ما يحدث ثم قارن بين النتائج القادمة من المعادلة و النتائج التي وجدها العلماء في المعمل فوجدها متماثلة. لهذا يسمي هذا الوصف “نموذج بور للذرة” و يوصف بور بأنه صاحب نظرية بناء الذرة. النظرية هي شيء لم تثبت صحته أو خطؤه بعكس القوانين الرياضية التي لا خلاف عليها. هذا النموذج هو معادلات تحاول أن تصف شيء ليست لدينا وسائل لرؤيته أو دراسته.
و لكن نموذج بور للذرة هذا لا يصلح لوصف كل الظواهر الفيزيائية المتعلقة بالذرة. علي سبيل المثال الكهرباء عبارة عن سيل من الإلكترونات يسير في سلك. كيف تكون للإلكترونات مدارات ثابتة حول الذرة ثم تتحرك من بداية السلك إلي آخره؟ هنا يفشل نموذج بور في وصف هذه الظاهرة، فيستخدم العلماء نماذج اخري مثل نموذج بحر الإلكترونات، و هو نموذج يفترض أن المادة تتكون من أنوية (جمع نواة ) حولها بحر من الإلكترونات التي تتحرك بحرية.
أعتقد أن مفهوم النموذج الرياضي أو الفيزيائي صار مفهوماً الآن. هو نموذج يحاول أن يصف شيء ما (الذرة، الضوء، الخ)، و هو شيء لا يمكننا دراسته بالوسائل العادية لأي سبب (لأنه صغير جداً مثلاً). إن أنتج النموذج علي الورق نتائج مماثلة لما يخرج في المعمل تم قبوله إلي أن نكتشف موقفاً أو ظاهرة يفشل النموذج في وصفها فنبحث عن نموذج آخر، و الذي بدوره سيفسر بعض الظواهر و يفشل في تفسير البعض الآخر و هكذا دواليك.
المشكلة تحدث في العلوم الإنسانية حين يضع أحدهم نموذجاً للإنسان أو المجتمع لا يهدف منه إلي فهم الإنسان بل هو نموذج يفترض إنساناً بصفات تخيلية. لو وجد هذا الإنسان فإن النتائج التي تأتي بها المعادلات تصف مجتمعاً رائعاً فيه صفة أو أكثر من الصفات الجيدة. لذا علينا أن نغير من الطبيعة الإنسانية، ان نغير في النفس البشرية لنصل للنتائج التي علي الورق. هنا النماذج الرياضية لا تستخدم لفهم الطبيعة كما في الفيزياء، بل يحاول العلماء أن يغيروا الطبيعة لتصبح مثل النموذج الرياضي، بغض النظر عن مدي صحة النموذج الرياضي و بغض النظر عن النتائج الغير متوقعة التي قد تحدث بسبب تغيير سلوكيات الإنسان و النفس البشرية.
جون ناش و نظرية الالعاب:
جون ناش هو عالم الرياضيات المريض عقلياً و الحائز علي جائزة نوبل و الذي دار حوله فيلم عقل جميلA Beautiful Mind. كان جون ناش عالم رياضيات في مؤسسة راند (و هي أحد دبابات التفكير الأمريكية). هناك فرع من فروع الرياضيات يسمي نظرية الألعاب Game Theory، و هو فرع يحاول أن يصف تعامل البشر بينهم البعض في مواقف معينة بناء علي معادلات رياضية. جون ناش كان أحد أهم المساهمين في هذا الفرع من الرياضيات.
لنأخذ فكرة عن نظرية الألعاب و نظريات جون ناش سنأخذ موقفاً تخيلياً كمثال. فلنفترض أني لص سرق جوهرة ثمينة. بما أن هذه الجوهرة مسروقة فلا يمكنني بيعها بطريقة شرعية، لهذا قمت بالإتصال بعصابة و إتفقت معهم علي أن أسلمهم الجوهرة علي أن يدفعوا لي مبلغاً من المال مقابلها. المشكلة أني إن ذهبت لأقابل العصابة و معي الجوهرة قد يقتلوني و يأخذوها، لذا أخبرتهم أني سأضع الجوهرة في حقل مهجور علي أن يتركوا هم لي المال في حقل مهجور آخر في بلدة بعيدة. هنا تظهر مشكلة أخري، إن ذهبت إلي الحقل و لم أجد المال أكون قد منحت العصابة الجوهرة مجاناً. الحل هو أن أخون العصابة، لا أضع الجوهرة في المكان المتفق عليه و أذهب لأخذ المال. إن ذهبت و لم أجد المال فمازالت الجوهرة بحوزتي، و إن وجدت المال أكون قد حققت مكسباً مزدوجاً. إن فعلت العصابة نفس الشيء يتحقق ما يعرف بتوازن ناش، حيث تحتفظ العصابة بالمال و أحتفظ أنا بالجوهرة.
الموقف الذي ذكرناه هو لعبة من الألعاب التي تنطبق عليها نظرية ناش و ذلك الفرع من الرياضيات المسمي نظرية الألعاب. جون ناش هو الشخص الذي وصف هذه اللعبة و ألعاب أخري مشابهة بالمعادلات الرياضية، حيث وصف ناش الألعاب التي يحاول كل طرف فيها تحقيق ربح علي حساب الآخرين بالمعادلات، و أثبت ناش بالمعادلات أنه إن تعامل الكل بأنانية فإن الأمر يصير متوازناً بين جميع اللاعبين و هو ما عرف في الرياضيات بإسم توازن ناش Nash Equilibrium. نظرية ناش تضع تصوراً للإنسان علي أنه يجب أن يكون أناني و متشكك في نوايا كل من حوله. أي تعاون بين اللاعبين نتائجه خطيرة و غير متوقعة (طبقاً لما تقوله المعادلات).
حين حاولت مؤسسة راند تطبيق نظريات ناش في الألعاب أخذت مجموعة من العاملات في المؤسسة و راقبتهن و هن يلعبن هذه الألعاب التي ينطبق عليها توازن ناش فجاءت النتائج غير متوقعة. العاملات وثقن في بعضهن البعض، لم تحاول إحداهن أن تغش الأخري في أي لعبة من الألعاب. هذا يخالف نظرية ناش التي تري أن الإنسان عليه أن يكون أناني لكي يحقق هذا التوازن. المعادلات التي كانت تقول أن النتائج خطيرة أو غير متوقعة إن تم تعاون بين اللاعبين ثبت خطاؤها هنا، فلم تحدث أي نتائج غريبة في الألعاب المختلفة التي لعبتها العاملات.
ما جاء به ناش ليس مشكلة كبيرة إن ظل محصوراً في الألعاب، إلا أنه تم إستخدامه كأساس رياضي لكثير من النظريات السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية.
في أثناء الحرب الباردة و إذا ما تم توقيع معاهدات للحد من التسلح بين أمريكا و الإتحاد السوفيتي، يجب علي الأمريكيين أن يخونوا المعاهدات لكي لا يكتشفوا أنهم حدوا من تسليحهم ثم خالف السوفييت المعاهدات فتكون النتيجة أن يجد الأمريكيين أنفسهم في وضع ضعيف عسكريا، و بالطبع نفس التفكير سليم عند الجانب السوفيتي. ناش قدم الأساس العلمي الذي أثبت أن خيانة مثل هذه المعاهدات من قبل الطرفين يحقق التوازن فيما بينهم.
توازن ناش أيضاً كان أحد الدعائم الرئيسية لحرية التجارة و السوق المفتوح، حيث يجب علي الكل يتنافس بأنانية و في النهاية سنصل إلي توازن إقتصادي بين كل الأشخاص في المجتمع. نظريات السوق المفتوح جاء بها آدم سميث في القرن الثامن عشر و في بداية القرن العشرين نادي بها عدد من المفكرين في الغرب (مثل فريدريك فون هايك)، و كان ناش هو الدعم النظري لفكرة السوق المفتوح. ناش هو الشخص الذي أثبت بالمعادلات أن السوق المفتوح و أنانية الإنسان تنتج في النهاية توازن إقتصادي في المجتمع.
هنا نري الفارق بين ما فعله ناش و ما فعله بور. بور حاول أن يفهم الطبيعة، حاول أن يفهم الذرة فوضع تصوره لها في معادلات و نموذج رياضي، و هو علي إستعداد أن يعدل هذا النموذج بإستمرار ليكون أقرب ما يكون إلي الطبيعة. ناش لم يفعل ذلك، بل وضع نموذج رياضي و إتخذه كقدوة لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان. علينا أن نغير الإنسان لنجعله أنانياً متشككاً لأن المعادلات تقول أن هذا سيحقق التوازن في المجتمع.
الأمر لم يقتصر علي الإقتصاد و السياسة بل إمتد إلي الأسرة كذلك، حيث قدم أحد اشهر علماء النفس، رونالد ديفيد لاينج R.D. Laing، نظرياته عن الأسرة التي تري العلاقات الأسرية في ضوء نظرية الألعاب، حيث كل طرف يحاول أن يحقق أهدافه الشخصية علي حساب الآخرين، و في خلال ذلك يستخدم الحب و المشاعر كوسيلة لتحقيق السيطرة داخل الأسرة. لا يوجد شيء إسمه المشاعر التي ليست وراءها مصالح و لا توجد مودة أو شعور بالمسئولية أو الرغبة في إسعاد الآخرين بدون أي هدف آخر.
هناك فارق بين الألعاب التي لها هدف واحد واضح و بين الحياة التي فيها الكثير من الأهداف و المواقف و الأفكار المتشابكة. حين يصير المرء أنانياً متشككاً أثناء ممارسة لعبة ما يختلف عن أن يصير الإنسان فردياً انانياً متشككاً في الحياة ككل. المعادلات الرياضية تأخذ في الإعتبار نقطة واحدة (هي اللعبة التي تدور حولها المعادلة) و لكنها لا تأخذ في الإعتبار أي من العوامل الإنسانية التي يجب أن تأخذها النظريات الإقتصادية و السياسية في الإعتبار.
من الغباء أن أقول أن جون ناش هو السبب الوحيد وراء نزعات الفردية و الأنانية في المجتمع الغربي، فالأمر له العديد من الأسباب المتشابكة، و لكنه كان أحد الدعائم التي أيدت هذا الإتجاه، و اليوم يعاني الغرب من هذه النزعات علي أكثر من صعيد. علي سبيل المثال، الإنهيار الديموجرافي الذي يمر به الغرب، حيث يتناقص عدد المواليد بإستمرار بكل ما يتبع ذلك من تأثيرات إجتماعية و إقتصادية، أحد العوامل المسببه له هي نزعات الفردية و الأنانية في العالم الغربي حيث يرفض المرء أن يبذل الجهد و الوقت و المال في تربية طفل أو رعاية أسرة و يفضل أن ينفق المال و الوقت لإشباع رغباته الشخصية. هذا شيء لا تأخذه نظرية ناش في الإعتبار حين تنظر إلي النظام الإقتصادي علي أنه مجرد لعبة علينا أن ندفع اللاعبين فيها (و هم كل الأشخاص في المجتمع) لأن يكونوا أنانيين متشككين لنحقق توازن بينهم جميعاً.
7- تطبيق النظريات بشكل جزئي:
أحيانا ما يحدث أن يأخذ الناس جزءاً من نظرية أو فكرة و يتركوا الجزء الآخر بطريقة (لا تقربوا الصلاة) الشهيرة.
نظرية المشاعر الأخلاقية:
عندما تذكر فكرة السوق المفتوح و حرية التجارة عادة ما يذكر آدم سميث، الإقتصادي الأسكتنلدي، الذي وضع الفكرة و يعتبر عموماً أبو الإقتصاد الحديث، و يذكر كتابه الشهير (ثروة الأمم)، الكتاب الذي شرح فيه نظرياته الإقتصادية. ما يهمله معظم الإقتصاديين أن سميث لم يطرح الفكرة لأول مرة في كتاب ثروة الأمم بل في كتاب آخر إسمه (نظرية المشاعر الأخلاقية The Theory of Moral Sentiments). نظرية المشاعر الأخلاقية هو أهم كتب سميث في نظره، كتبه قبل ثروة الأمم و ظل يصدر له تنقيحات بعد كتابه ثروة الأمم، و يضم هذا الكتاب الأساس الأخلاقي و النفسي و الفلسفي لنظرياته التالية.
كان هذا هو أول كتاب تحدث فيه سميث عن حرية التجارة و السوق المفتوح، إلا أن الكتاب في الأساس يدور حول المشاعر الطيبة، شعور الناس ببعضهم البعض، شعور الاغنياء نحو الفقراء و شعور الأقوياء بالضعفاء، و البحث عن الدوافع النفسية التي تدفع المرء للتعاطف مع الأخرين و فعل الخير عموماً.
حين تحدث سميث عن حرية التجارة و أنانية الإنسان و رغبته في إشباع رغباته، تحدث أيضاً عن وجود جانب أخلاقي في نفسه، جانب يحب الخير و يسعي لفعله، و أن هذا الجانب كفيل بتحقيق توزيع متساوي لأساسيات الحياة بين الأغنياء و الفقراء، حيث يتسبب شعور الأغنياء بمشاعر الفقراء في أن يعطوهم جزءاً من أموالهم مما يحقق في النهاية الرخاء للمجتمع ككل.
اليوم حين يُذكر سميث يُذكر كتابه (ثروة الأمم) و لا يذكر أحدهم كتابه الآخر عن الأخلاق. يذكر الإقتصاديون حرية التجارة و لا يذكرون الأخلاق التي لابد أن تحكم هذه الحرية، بل إن الأمر قد يذهب بهم إلي قبول فكرة عكسية تماماً مثل أنانية الإنسان و فرديته التي جاء بها جون ناش.
خاتمة:
حين يتحدث أحدهم عن المرجعية الدينية فإن الحديث يدور عادة حول المرجعية الدينية في السياسة (و علي الأخص الشوري) أو المرجعية الدينية في تطبيق الحدود في القانون. مع أهمية كلا النقطتين فإن المرجعية الدينية مفهوم أشمل و أكثر عمقاً، حيث المرجعية الدينية هي مرجعية في فهم الإنسان، في فهم العوامل المؤثرة في نفسيته و ما ينبغي أن يكون عليه .
ذكرنا في هذا المقال سبعة عوامل تؤدي إلي الأخطاء في العلوم الإنسانية، و هي أخطاء كانت واقعة في نظريات شهيرة و هامة في الفكر الحديث. العلماء في المجالات الإنسانية ليسوا معصومين من الخطأ، و أخطاؤهم عادة ما تكون مكلفة للغاية، مكلفة مادياً و إجتماعياً و نفسياً لمجتمعات بأكملها.
في المقابل فإن الدين يمثل إطاراً يفكر المرء داخله حين يدرس كل ما يتعلق بالإنسان. الدين ذكر عوامل الخير و الشر في الإنسان، فذكر مثلاً حب الإنسان للمال و لكنه في نفس الوقت أثني علي الذين (يؤثرون علي أنفسهم و لو كان بهم خصاصة). الدين تحدث عن حب المال، حب السلطة، شهوة الجنس، المودة و الرحمة، الخ، فلم يذكر عامل واحد علي أنه المؤثر الوحيد في سلوكيات الإنسان.
الأهم من هذا أن الدين يخبرنا بما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، يثني الدين علي الكرم فلم يدعو الإنسان لأن يكون أنانياً. ربما يبدو الأمر بديهياً بالنسبة لمن نشأ في مجتمعات لها أساس ديني، فمن ذا الذي يرغب في ان يكون أنانياً أو يربي إبنه علي الأنانية، إلا أن هناك بالفعل دعوات لإطلاق نزعات الأنانية و الفردية لدي الإنسان في مجتمعات أخري إكتفت بالعقل البشري هادياً. يذكر الدين المودة و الرحمة كدعامة أساسية للأسرة، و هي فكرة علي الرغم من بديهيتها إلا أنهم لم تكن بديهية لآخرين نظروا للأسرة علي انها مجموعة من الأشخاص يتلاعب كل منهم بالآخر لتحقيق أعلي قدر من السيطرة.
الحمد لله علي نعمة الإسلام.