منذ عدة سنوات نظمت الشركة لنا تدريباً علي إجراء مقابلات العمل (إنترفيو). المدرب كان شخص من شركة متخصصة في هذا الموضوع. كان مدير للتوظيف في أمازون في أوائل أيامها ثم إستقال و كون شركته الخاصة و صار يقدم تدريب و إستشارات في الموضوع للشركات العملاقة مثل ياهو و مايكروسوفت.
من ضمن عوامل الشخصية التي شرح كيف نقيمها في شخص متقدم للعمل كانت مرونة تفكيره. ليست المشكلة في أن تكون فكرة خاطئة لكن إن قدمت لك أدلة كثيرة علي خطأ هذه الفكرة فإن عليك أن تغيرها. وقتها كانت ذروة الإنتخابات الرئاسية الأمريكية و التقدم الغير متوقع لترامب. وقتها قال إن مشكلة أنصار ترامب ليست في أنهم يتبعون الشخص الخطأ لكن في أنهم مصرين علي أن يتبعوه مع كل موقف و كل تصريح، هؤلاء أشخاص لا يستطيعون تغيير رأيهم. الموضوع كان غريب لأن الأمر به تحيز سياسي واضح. في تدريب يتعلم فيه المرء ألا يسأل المتقدم للعمل حتي عن كليته خوفاً من أن تكون ذات طابع ديني و بالتالي حين يتم رفضه يتم مقاضاة الشركة بتهمة التفرقة بناء علي الدين و تتعلم فيه أن لا تسأل المتقدم حتي علي سبيل كسر الجليد في بداية الكلام عن أي شيء له علاقة بحياته الأسرية من نوعية (كيف حال الأسرة) خوفاً من أن يتهمك فيما بعد بالتفرقة ضده لأنه متزوج و أنت لست متزوجاً أو لأنه غير متزوج و أنت متزوج، في تدريب كهذا كان من الغريب أن ينتقد الرجل إتجاه سياسي أمريكي يمثل ما يقرب من نصف الشعب في تدريب يجلس فيه بالفعل عدد محترم من الأمريكيين. لا أعرف إن كان واثق أن أحباب ترامب لا يصلون عادة لمناصب محترمة علمياً أم ماذا، لكن هذا هو ما حدث.
كانت هذه أول مرة في حياتي أتعرف علي فكرة (القدرة علي تغيير الرأي) كصفة بشرية يملكها بعض الناس و لا يملكها البعض الآخر. حتي اليوم مازلت أتذكر أشخاص قمت بإجراء مقابلة العمل لهم و كيف قيمت هذه النقطة تحديداً في شخصيتهم و ماذا كتبت في تقريري عنهم، و مازلت أتذكر هذا لكما قابلت واحد منهم بعد أن صاروا زملاء عمل بعد سنوات من إجراءي مقابلة العمل لهم. هذا غريب لأني عموماً مسطول و عادة ما أقابل ناس في الشركة فيسلموا علي بحرارة و أنا أعتذر لأني لا أتذكرهم بينما هم يتذكرون أني أجريت مقابلة العمل لهم، و بالمثل يسلم علي ناس في الشارع فأسأل محرجاً إن كانوا زملاء في الكلية (لم أكن أذهب للكلية إلا في المناسبات و لا أعرف أكثر من نصف دفعتي) فيخبروني أني أجريت مقابلة عمل لهم و رفضتهم. لكن نقطة القدرة علي تغيير التفكير تجعلني أتذكر من قيمتها في شخصيته بالذات.
في رواية 11/22/63 لستيفن كينج نري شخص استطاع أن يجد ثغرة زمنية تسمح له بالذهاب للماضي. يقرر إستغلال هذه الثغرة لإنقاذ جون كيندي من الإغتيال - إسم القصة هو تاريخ إغتيال كيندي بالأسلوب الأمريكي المستفز في كتابة التاريخ بداية بالشهر و ليس اليوم مثل باقي خلق الله. أحد الأسباب التي قدمها لهذا هو أن كيندي كان يستطيع إيقاف حرب فيتنام بكل تبعاتها علي المجتمع و السياسة الأمريكية حتي اليوم. صحيح أن حرب فيتنام بدأت شرارتها بالفعل في عهد كينيدي إلا أنها نمت و تضخمت و إشتعلت في عهد من تلوه. و الفارق هنا أن كيندي كان قادر علي تغيير رأيه عندما يري ما تسير إليه الأمور لكن جونسون و نيكسون كانوا غير قادرين علي تغيير رأيهم و إتجاههم. اللفظ الذي إستخدمه كان incapable، و قد تكلم بطل القصة عن هذا بعبارة مقتضبة كما تتكلم أنت عن أني لا أستطيع أن أعبر المانش: لا لوم ولا تقريع، هي مجرد قدرة بشرية أكبر من قدراتهم.
فيما بعد عرفت أن ترامب نفسه وقف وسط مؤيديه ليقول أنه إن قتل شخصاً في Fifth Avenue ( شارع ضخم شديد الشهرة في نيويورك ) فإن عدد مؤيديه لن يقل واحداً. هذه إهانة عنيفة لمؤيديه و قد قالها وسطهم و سط تهليلهم و سعادتهم. هذا يشبه عادل إمام في مسرحية الزعيم حين شتم وزراؤه قائلاً (إنتوا بهايم) فإنحنوا له في إجلال، كرر الشتيمة مرة أخري فإنحنوا في إجلال أكبر. ترامب نفسه عرف هذه الحقيقة عن مؤيديه و عن النفس البشرية عموماً بينما أنا مازلت حتي اليوم أعاني لأتقبل هذه الفكرة التي تلقي بالكثير من اليأس علي المشهد و علي نظرتك للبشر و توقعاتك منهم عموماً.
في إطار النقاشات السياسية و الأخلاقية الثائرة في السنوات الأخيرة ذكر يحيي أحمد محمود في بوست له علي فيسبوك الآية الكريمة “وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ” و كيف أنها مرعبة و تلقي باليأس علي إحتمالية تغيير بعض الناس. عادة ما ترن في ذهني آيتين مماثلتين تقريباً في المعني: " وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ " و آية “وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ “. مع بعض الناس الأمر ليس له علاقة بأي أدلة من أي نوع، مادية كانت أو معنوية أو حسية، لقد أخذوا إتجاهاً و سيسيروا فيه بلا نهاية.
إنهيار الأيديولوجيات
بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي ظهرت فكرة إنهيار الأيديولوجيات و نهاية التاريخ و ما يشبهها و التي تقول أنه لم يعد هناك داعي لأي أيديولوجيات من أي نوع و الصراعات التاريخية بين الأيديولوجيات و خلافه، كل هذا إنتهي و صارت الأيديولوجية الصحيحة (الرأسمالية) هي الأيديولوجية السائدة. تذكر أن جيجك حين يكتب أفكاره اليسارية الماركسية يكتبها في كتاب يسميه (دفاعاً عن قضايا خاسرة In defense of lost causes) في إشارة للإجماع العالمي علي أنه لم يعد هناك من أيديولوجيا إلا الرأسمالية و كل ما عداها سقط و خسر. لكن المثير بالنسبة لي أن الأيديولوجيا التي سادت هي الأيديولوجية الأسهل و الأبسط و ربما الأتفه. كل أيديولوجيا عموماً لها جانب سهل و بسيط بالتالي يسهل إنتشارها بين الناس و لها جانب معقد صعب يتجمهر حوله المنظرون و يرطنوا فيه، ينطبق هذا علي الإسلام، الرأسمالية، الشيوعية، الماركسية، الخ. لكن الرأسمالية هي الأيديولوجية التي إنتشر جانبها السهل بدرجة ضخمة، الأيديولوجية القائمة علي فكرة (دعه يعمل، دعه يمر)، لا تتدخل كثيراً و الأمور ستسير في الإتجاه السليم من تلقاء ذاتها، لا توجد أهداف عليا ولا سامية ولا حتمية تاريخية ولا أشخاص مسئولين عن تثقيف غيرهم (إنتلجنتسيا) ولا أي من هذا الهراء، الناس تحب المال و تحب أن تستهلك، لا داعي للكثير من السفسطة.
بالتالي من المفهوم أن أحمد رجب حين أراد أن يكتب قصة عن صراعات المثقفين المعقدة الخالية من القيمة الحقيقية إختار لها إسم (فوزية البرجوازية). البرجوازية كلمة شديدة الصلة بالفكر اليساري طبعاً و عموماً في الرواية و الفيلم كان من السهل أن تعطي انطباع السفسطة و التعقيد بإستخدام الفاظ يسارية، من الصعب أن تجد في الفكر الرأسمالي كم مماثل من الألفاظ (يوجد بالطبع تعقيد في الرأسمالية لمن يريد أن يتعمق لكن ليس هذا هو الجانب المنتشر منها). الكلمة الشهيرة عندما يرطن أحدهم بكلام غير مفهوم هو (إنت شيوعي يلا). لا أحد يتهم من يرطنون بأنهم رأسماليين.
و ربما كان هذا السبب في أن الناس إستخدمت لفظ (إنهيار الأيديولوجيات) بدلاً مثلاً من (سيادة الأيديولوجية الرأسمالية) أو أي شيء مماثل. لا يوجد أي تفكير عميق و مباديء عليا من أي نوع، هذا هو المهم في المشهد.
لكن اليوم الموضوع تطور حتي صار وصف شخص بأنه يميني أو يساري أو إسلامي لا يعني أي شيء. مازلت أتذكر أول مرة عرفت فيها إسم علاء عبد الفتاح قبل الثورة بسنين طويلة كانت في إطار حوار بيني و بين صديق إسلامي التوجه و كان يكلمني عن أن اليساريين يستبيحون الألفاظ الفاحشة بدون مشاكل، و علي سبيل المثال فتح مدونة علاء و منال و قلب فيها بشكل عشوائي و بالطبع كان فيها الفاظ خارجة. فيما بعد عرفت بشيء من العمق نقطة الخلاف الشهيرة بين اليساريين و اليميينين: اليساري يبحث عن القيم الحقيقية، العدالة الحقيقية و المساواة ولا يهتم بالألفاظ و المظهر بينما اليميني شخص نظيف الملبس و الألفاظ لكنه يمكن بسهولة أن يتسبب في مصرع ملايين بجرة قلم. لكن لم يعد هذا هو الحال اليوم.
في الماضي كان اليميني في أمريكا شخص يؤمن بالرأسمالية و القيم المحافظة المسيحية. ترامب الذي يصفه الناس بأنه يميني لا يتبع الفكر الرأسمالي المألوف (و أنظر إلي الضرائب التي يفرضها علي الواردات و أنظر عموماً للمشاكل التي يسببها للتجارة العالمية و تأثيرها حتي علي بلده و بالتالي كره الكثير من رجال الأعمال له)، ترامب تزوج أكثر من مرة و هو شيء غير مألوف في رئيس أمريكي، زوجته الحالية مهاجرة جاءت للعمل كبكيني موديل، كان علي علاقة سابقة بممثلة بورن و علاقة بموديل لمجلة بلاي بوي. بالطبع كلام الرئيس و الفاظه غنية عن التعريف و الوصف و بالتأكيد لا يمكن أن توصف بأنها محافظة. في المقابل صار اليساريين هم الأشخاص الذين يحافظون علي الصوابية السياسية political correctness، لا يستخدمون الفاظ خارجة و يتحرجون من جرح هذا أو ذاك، يخافون من الخيارات الراديكالية و يلعبون علي الحبال محافظين علي شعرة معاوية بينهم و بين كل الإتجاهات الفكرية بحيث لم يعد لهم طعم ولا لون ولا إتجاه مميز.
حاول بعض الناس بشكل غير واعي تعريف اليميني علي أنه الشخص المعادي للأغراب، بالتالي بما أن ترامب يعادي الغرباء و المهاجرين و بما أن ترامب يميني و بما أن بوريس جونسون يميني إذاً بوريس جونسون أيضاً سيطرد الأغراب، و ربما كان هذا من دواعي حماس محبي البريكزت له، رغم أن الرجل يعلن في كل موقف و مكان أنه سيفتح الباب لأجانب لملء مختلف المهن التي تعاني من نقص عمالة في إنجلترا مثل الطب. كونه يميني لا يعني أي شيء و ليس دليلاً علي أي شيء من أي نوع في هذا الزمن.
الموضوع لا يقتصر علي اليمين الأمريكي ولا اليمين عموماً. جيجك حكي عن رئيس الحزب المسيحي البولندي، الذي قال عندما فاز حزبه في الإنتخابات (الآن جاء دورنا لنمارس الجنس مع العاهرة). اللفظ له أصل عسكري حين يدخل الجنود مدينة في أجازة أو أثناء حرب و يجدوا عاهرة و يقفوا في طابور كل في إنتظار دوره ليمارس الجنس معها! بالطبع خرج بعض المبررين ليقولوا أنها زلة لسان و سأله صحفيون عنها فيما بعد فرد بعناد أنها لم تكن زلة لسان و أنه يقصد فعلاً ما قال. تذكر أن هذا إنتخبه مؤيدوه لأنه مسيحي و سينشر المباديء المسيحية و يرسخها في المجتمع البولندي.
حين تمت الموافقة علي رفع إجراءات عزل ترامب لمجلس الشيوخ و حلل البعض الأمر أن هذا تحرك من الديمقراطيين في هذه اللحظة تحديداً لتقليل شعبيته قبل الإنتخابات - لأن مجلس الشيوخ أغلبيته من حزب ترامب و لن يوافق علي عزله - فكرت في أن الموضوع لا يسير بهذه الطريقة. لا يوجد شيء أيا ما كان يمكنه أن يغير من رأي مؤيدي ترامب بعد كل ما حدث و ما ظهر منه. إثنان من الأعراب جلسا شاهدوا شيئاً أسود من بعيد، قال أحدهم هذا غراب و قال الثاني بل عنزة. إشتد النزاع بينهم فقام الأول بإلقاء حجر تجاه الجسم الأسود فطار، فرد الثاني بعناد (عنزة و لو طارت). هذه مرحلة (عنزة ولو طارت) للبشرية كلها، تغيير الرأي نفسه - أيا ما كان - صار تاريخاً. في أثناء الإنتخابات الرئاسية ظهرت قصص تحرش جنسي لترامب فقامت واحدة من مؤيديه بإرتداء تيشتيرت مكتوب علي صدره (الرئيس يمكنه أن يمسك ما يشاء) في إشارة لإمساك ما يشاء من جسد النساء! مرة أخري هذا مرشح يميني أيده المحافظين المتدينيين المنغلقيين، الخ. بالتالي لم أندهش حين ظهرت استطلاعات الرأي لتقول أن ترامب شعبيته زادت وسط مؤيديه بعد موافقة مجلس النواب علي عزله. هذا منطقي تماماً، هذه حركة في مكانها المنطقي و المتوقع.
في مصر كان رأيي و مازال أن كل الأطراف متشابهة، لا يمكنك القول أن (الفعل الفلاني لا يصدر عن …..) و ضع مكان النقاط أي شيء: إسلامي، ليبرالي، يساري، الخ. هناك تعبير لطيف لوصف المشاهير الذين يصنعهم الإعلام بدون داعي (يشتهر بأنه شهير Famous of being famous). مثلاً حين كانت بريتني سبيرز مادة خصبة لوسائل الإعلام بينما مبيعات أغانيها في إنحدار مستمر وصفها كينج بهذا الوصف، من المنطقي أن تغطي أخبارها كمطربة شهيرة لكن إن لم تعد مطربة فلماذا تظل مادة ساخنة لوسائل الإعلام.
بالمثل في مصر الإسلامي يميزه أنه إسلامي! هو يتعصب لكل من هو ليس في فريقه لكن لا يوجد فعل أو نظرية سياسية أو إقتصادية يرفضها أو يقبلها بما أنه إسلامي. بالمثل اليساري، اليميني، الليبرالي. كلهم لا يميزهم إلا إسمهم و من الممكن تماماً أن تنزع عنهم هذه الصفات و تكتفي بإلباس كل فريق تيشيرت بلون محدد و تتكلم عنهم بأسلوب (ذوي التيشيرتات الصفراء، ذوي القمصان الزرقاء، الخ) دون أن يغير هذا من المشهد شيئاً. في مصر هناك قوميين يحملون بحماس علم دولة أخري و يعطوها أرضاً بلا مقابل، هناك ليبراليين علي إستعداد أن يدعموا إنقلاب عسكري قبل أن (يكتشفوا) أنه علي إستعداد أن ينكل بهم أيضاً من ضمن من ينكل بهم، هناك إسلاميين لم يتركوا كارثة بأي معيار ديني أو أخلاقي لم يرتكبوها، الخ.
لا يجب أن ننسي أن مصر عموماً بلد فيها إحتقار عام للعلم أيا ما كان، سواء كان علم نظري أو تطبيقي، من المتعلمين قبل الجهلة، من عبد العاطي كفتة إلي الإسلاميين الذين كانوا يحتقرون (المنظرين) الذين لا يعملون علي الأرض. لا يمكنك أن تأخذ فكرة إنهيار الأيديولوجيات بدون فكرة إحتقار التنظير عموماً كنقطة بداية.