في الماضي قال لي أحد أصدقائي أنه ينوي أن لا يشتري جهاز تليفزيون حين يرزقه الله بأولاد. سألته إن كان سيمنع الكمبيوتر من البيت أيضاً فقال لا. تسائلت عن الجدوي. السبب التقليدي لمنع الأطفال من مشاهدة التليفزيون هو تجنيبهم المشاهد و الأفكار الخارجة لكن الكمبيوتر يسمح بأكثر مما يسمح به التليفزيون بكثير. لم يكن صديقي يهدف لتجنيب أبناؤه المشاهد الخارجة بل تجنيبهم أن يكونوا مجرد متلقيين. التليفزيون تفتحه و تشاهد ما يلقي إليك لكن علي الكمبيوتر أنت تبحث بنفسك عن شيء ما لتقرأوه أو تشاهده.
عموماً هذه التحليل تحليل قديم للغاية، لكنه قيل في الفارق بين التليفزيون و الكتاب. أنت تبحث بنفسك عن كتاب معين، تنزل للمكتبات، تتصفح الأغلفة و تختار، أو تتناقش مع أصدقاؤك فيخبرونك عن هذا الكتاب أو ذاك، الخ. أنت شخص فاعل في عملية القراءة، بينما في التليفزيون أنت متلقي تأخذ ما يلقي إليك.
ربما كان هذا في الماضي، لكن في الحاضر الأمر إختلف كثيراً.
لم يعد التليفزيون وسيلة تأخذ فيها ما يلقي إليك. ربما كان هذا في الماضي في عهد القنوات المحدودة، لكن اليوم في الغرب و الشرق تتعدد القنوات لدرجة مذهلة. إنت شاهدت شيء ما فأنت تشاهده بإرادة و إختيار. دعك من تقنيات مشاهدة شيء بعينه حتي بعد بثه بأسابيع، إبني يشاهد كارتونه المفضل وقتما شاء، تبث الحلقة في أي وقت لكن تقنيات البث الحديثة تسمح له بأن يشاهد الحلقة حتي بعدها بأسابيع. الأشياء شديدة الأهمية بالنسبة لك يمكنك أن تطلب من جهاز الاستقبال أن يسجلها لك علي هارد ديسك ملحق به وقت عرضها و تشاهدها أي وقت حتي بعدها بسنين.
إن إقتنعت بهذه الفكرة فأنت ستتفهم فكرة مقال كتبه كاتب أمريكي في الرد علي من يقول بأن (أبي شخص طيب و محترم لكنه يعتنق الأفكار اليمينية المتطرفة و يحب ترامب لأنه يشاهد فوكس، فوكس غسلت مخه)، و هي فكرة إنتشرت كثيراً في أمريكا مع صعود ترامب. المقال يقول كلا، أبوك رجل سيء. هو ليس معدوم الإرادة و لديه مئات القنوات التي تضحد ما تقوله فوكس. هو إختار فوكس بكامل إرداته الحرة و آمن بالهراء الذي تبثه لأنه أحمق أو سيء النية أثار فيه هذا الهراء مشاعر ما، سواء قومية أو تفوق عرقي أو أي شيء آخر، أو كلاهما معاً. فكرة أن الإعلام يغسل مخ الناس كانت مقبولة في عصر القنوات المحدودة، اليوم هذه الفكرة لا تصمد كثيراً للمناقشة. دعك بالطبع من أن هناك مصادر أخري لأفكار تنتقد ترامب عبر الإنترنت و الجرائد و ما إلي ذلك.
في المقابل لم يعد الإنترنت هو البيئة المحايدة تماماً التي كانت في الماضي. مشكلة وسائل تواصل مثل فيسبوك و تويتر أنها تهدف لمزيد من التفاعل. كلما تفاعلت كمستخدم كلما كان هذا في مصلحة وسيلة التواصل لأنها تضمن إعلانات أكثر تتم مشاهدتها و أنك ستجذب المزيد من المستخدمين. زيادة التواصل يتم بتقنيات كثيرة مثل اللايك و التعليقات و إختيار بوستات تشبه تلك التي تفاعلت أنت معها من قبل لتظهر لك قبل غيرها، الخ. هذا يضع ضغط نفسي علي الناس و يساعد بسهولة علي زيادة الإنقسامات و التهليل و الشجار الإلكتروني و الإستقطاب علي أي قضية و أي موضوع. هناك أشخاص قاموا بعمل برامج تعرض محتوي تويتر لكنها تمسح أشياء معينة مثل علامات التفاعل و تتجنب ترتيب تويتر و تعرض الأمور في ترتيب زمني فقط مثلاً. النتيجة كانت بيئة أكثر هدوءاً بكثير نفسياً للمستخدم و تفاعل مع المحتوي أكثر عقلانية و إنضباطاً.
بالتالي نحن عدنا للمربع صفر. عندما ظننا أننا وجدنا وسيلة تدفع الناس لأن يكونوا عقلانيين نقديين بدلاً من مجرد متلقيين نجد أننا عدنا لنقطة البداية، لا توجد وسيلة أخري ولا توجد طرق مختصرة. في الماضي كنا نشكو من التليفزيون، أكثر الوسائل إعلامية شعبية، هو وسيلة تجعل المرء متلقي أحمق، اليوم لدينا وسائل التواصل الإجتماعي و هي أكثر وسائل الإعلام شعبية و هي أيضاً تجعل المرء متلقي و متفاعل أحمق أيضاً لكنه أحمق متحمس متعصب.
إن أردت الدقة نحن رجعنا خطوة للوراء.
في الماضي كان من المنطقي أو المقبول أن تفترض في تربيتك لأبنك أنك ستحميه من التعرض لأفكار كذا و مشاهد كذا. هناك طابع عام من الرقابة علي وسائل الإعلام و يمكنك بدرجة ما أن تضمن أن الوسط الإجتماعي لك و الناس المحيطة بك يشبهونك و أبناؤهم الذين يصادقهم أبنك يشبهونه. لا توجد ضمانات تامة لكن هناك قدر من الضمان. الفكر الإسلامي في مجتمعنا عموماً كان محمل بأطنان من التحذيرات من التعرض للشبهات الإلحادية والإيمانية و ما إلي ذلك حتي يتمكن المرء من دينه. بالطبع لم توجد علامات محددة لقياس تمكن المرء من دينه و قد ناقشت ناس درسوا عمرهم كله في الأزهر ثم تخرجوا من كليات علوم إنسانية أزهرية و صنفوا أنفسهم علي أنهم مؤهلين للتعرض للفكر المخالف للإسلام بعد! لكن في مجتمع لا يقرأ أهله كثيراً لا تصير هذه مشكلة كبيرة، الناس لا تقرأ سواء فكر مخالف أو حتي فكر متوافق.
لكن اليوم بسبب وسائل التواصل القائمة علي الإنترنت صارت الأفكار كلها أكثر قرباً. تذكر أن أحد النقاط الأساسية في تحليل سيطرة وسائل الإعلام علي المجتمعات كان فكرة أن وسيلة الإعلام لا تعرض وجهة نظر مغايرة، بالتالي أنت تؤمن بكذا لكنك تجد أن كل وسائل الإعلام تعرض عكس ما تقوله أنت بالتالي تذوي وجهة نظرك و تذبل تدريجياً. الموضوع كان يقال في سياق السياسة الأمريكية عادة بنقد سلبي، لكن في المقابل كان يمكنك في مجتمعك أن تضمن أن أي أفكار مغايرة لن تصل بسهولة لإبنك. لكن اليوم صارت الأفكار أكثر سهولة و إكتشف عدد ضخم من الناس أن أفكارهم التي يبدو أن المجتمع كله لا يشاركهم فيها، ظهر أنها أكثر شيوعاً مما يظنون و هناك أناس آخرين يشاركونهم في نفس أفكارهم. الرقابة القديمة علي الأفكار التي أحياناً ما كانت تتم بشكل ضمني ذهبت إلي غير رجعة.
بالتالي الإفتراض اليوم هو أن أي فكرة مهما بدت سيئة و مرفوضة و بعيدة من السهل جداً أن تصل لإبنك أو بنتك و تصل بشكل قوي، بدون مراعاة لسنهم و خلفيتهم الثقافية و لا حتي ما إن كانوا وصلوا لدرجة (التمكن) من الفكر السليم. لاحظ أيضاً أن الموضوع ليس في أطار حماية القناعات الإسلامية و تربية الطفل علي أفكار أسلامية، العكس صحيح أيضاً و هناك أجانب شقر الشعر خضر العيون إنضموا لداعش. من أين وصلتهم أفكار داعش بالقدر الذي سمح لهم بإعتناقها ثم ترك مجتمعاتهم بل و الموت أحياناً في سبيلها؟ من الإنترنت بالطبع.
الموضوع سلاح ذو حدين بالطبع، و هناك الكثير من الأشياء المفيدة و الهامة التي ما كنت لأصل لها لولا الإنترنت، و هناك مناقشات و جدالات أفادتني بقدر لا يمكن وصفه، هذا مفروغ منه بالطبع ولا يحتاج لأن يذكر.
اليوم لا يوجد أي بديل عن تنمية تفكير الصغار و قدرتهم النقدية، هذا هو الأسلوب الوحيد الذي قد ينتج عنه نتيجة إيجابية من كل وسائل التواصل الإجتماعي هذه. لا توجد بدائل ولا طرق مختصرة. في رأيي ما زالت القراءة أحد أهم الوسائل في بناء تفكير للشخص يحمل أقل قدر ممكن من الضغوط النفسية و أكبر مجال للتفكير و الإختيار و التعرض للأفكار العميقة.
هذا أحد عوامل رفضي لإدخال إبني مدرسة إسلامية في هولندا، رغم أني كنت مقتنع بهذه الفكرة في البداية. المدرسة الإسلامية تستمر في مرحلة الدراسة الأولي فقط (ما يوازي عندنا من حضانة و حتي السنة الثانية الإعدادية) ثم ينتقل الطالب للمرحلة التالية و هذه لا توجد فيها مدارس إسلامية. بالتالي في السنين الأولي لا يري الطفل أي شيء مخالف، الناس تصلي و تصوم و تحتفل بالأعياد الإسلامية، الخ، و كل شيء علي أتم ما يرام، ثم تأتي بعدها الصدمة: يصير الطفل مراهق و في نفس اللحظة يخرج لمدرسة عادية لا تشترك مع عالمه القديم في أي شيء و يكون هنا عليك أن تبدأ من الصفر في تنمية فكرة (انا مختلف) في ذهنه و نفسه بشكل مفاجيء و صادم بدلاً من أن تبنيها بالتدريج علي مدي سنوات منذ طفولته المبكرة. ربما يخبرونه في المدرسة الإسلامية أننا مختلفون في كذا و كذا لكنها تكون معرفة نظرية بدلاً من أن تكون تجربة عملية و تساؤل منه عن لماذا ترتدي أمي الحجاب و أم باقي الأطفال لا ترتديه و لماذا لا نأكل كذا و كذا مثل أصدقائي إلي أخر هذه التساؤلات و ما يتبعها من تحديات نفسية بسيطة تنمو مع نموه العقلي و النفسي. هذا ليس العامل الوحيد لكنه عامل أساسي.
القدرة علي التفكير النقدي ليست قدرة عقلية فقط بل قدرة نفسية في المقام الأول. أن تكون عندك القدرة علي أن تقول عكس ما يقوله أقرانك أو المجتمع دون خوف من السخرية أو النبذ و ما إلي ذلك ليست شيئاً بسيطاً يملكه كل الناس. في مرة من المرات كنت واحد ممن أجروا مقابلة عمل (إنترفيو) لمبرمج لينضم للشركة. كان رأيي أنه لا يصلح لكن باقي الناس ( أربع أشخاص آخرين) كان رأيهم أنه يصلح. دافعت عن رأيي في المناقشة كثيراً لكن في النهاية لم يقتنعوا و تم الآخذ برأي الأغلبية و تعيينه. عندما خرجت من الإجتماع وجدت واحد من الحاضرين يناديني. كان مبرمج أمريكي عجوز أشيب الشعر، سيرته الذاتية مرعبة، عمل في مشاريع عملاقة و له إنجازات لا بأس بها إطلاقاً و بالطبع يفوقني في المنصب بعدة درجات. توقعت أنه سيعتذر لي أو (يجبر بخاطري) لكنه في المقابل شكرني لأني أستطعت أن أدافع عن وجهة نظري و قال إنه كثيراً ما يحدث أن ينجرف الناس في التيار عندما يجدوا الآخرين يخالفونهم في الرأي لكني لم أنجرف معهم و دافعت بمنطقية عن ما أراه سليماً. هو لم يقل أنني أيضاً لم أتأثر بمنصبه و هيبته و تاريخه و أنا وقتها كنت مجرد مبرمج صغير لأنها كانت ستعني فخر خفي بنفسه و تأكيد علي مكانته لكني شعرت بأنه ربما كان يقصدها بشكل ما.
بالتالي في إطار بيزنس، ليس في أطار تربية أو تنظير إجتماعي الرجل شعر بالتقدير لأني أستطيع أن أصمد أمام إغراء الإنضمام للآخرين لأن هذا ليس سهلاً، فما بالك في الحياة و خيارات دينية و سياسية و إنسانية.
في الماضي عندما كنت في مصر كنت أكره منتجات أديداس و أحب منتجات ريبوك، رغم أن أديداس تمتلك ريبوك. كانت أديداس تنفق الكثير من المال علي الدعاية و صور النجوم و ما إلي ذلك و هو شيء منفر بالنسبة لي و كانت أسعار منتجاتها أكثر من ضعف أسعار منتجات ريبوك ولا يوجد فارق في الجودة. بشكل ما كنت أشعر أني إن أشتريت شيء من أديداس - بغض النظر عن أني لا أملك ثمنه - فأنا أتعرض لخداع علي أكثر من جهة، في السعر الذي يذهب جانب ضخم منه لنجوم مثل ميسي و في الجو العام من الدفع لشراء منتجاتهم، الخ.
مؤخراً شاهدت حوار لكريستي هيفنر، إبنة هيو هيفنر مؤسس (بلاي بوي)، و التي صارت مديرة للشركة خلفاً لأبيها. كانت كريستي تشرح توسع نشاط الشركة ليشمل نوادي ليلية و ملابس و إكسسورات و قنوات تلفيزيونية رغم أنها في الأصل مجلة. قالت كريستي أن (بلاي بوي) براند. براند يعني أسلوب حياة، بالتالي يمكنك أن تضيف أي نوع من المنتجات إلي نفس البراند لأنك تضم هذا المنتج بشكل معين إلي الأشياء التي تمثل أسلوب الحياة الذي يمثله البراند. كمثال لشرح وجهة نظرها قالت إن ريبوك شركة أحذية رياضية بينما نايكي براند.
ما شرحته هذه ال(حاجة) كان يعبر عن وجهة نظري في المقارنة بين أديداس و ريبوك، كنت أركز علي أديداس لأنها كانت الشركة المالكة لريبوك لكن نفس المبدأ بالطبع ينطبق علي نايكي. لم تكن لدي القدرة علي صياغة الموضوع بشكل تنظيري مثلها. ربما أنا كرهت أديداس لأنها تحاول أن تكون أسلوب حياة و أنا أنفر من هذه الأشياء عادة. أنا أريد أن أشتري حذاء أو تيشيرت فقط، لا أريد أن أكون جزء من أسلوب حياة يرسمه شخص ما.
ما يهمنا هنا في هذا المقال أني عبرت عن شعوري تجاه أديداس و ريبوك هذا لصاحب الشركة التي كنت أعمل فيها فضحك قائلاً أن قرائاتي الكثيرة أفسدت علي القدرة علي الإستمتاع بالحياة، ما تفعله أديداس هو ما يمتع الناس و يسعدهم، أنا الذي فقدت هذه القدرة. أنا أتفق معه إلي حد ما، قدرتك علي أن تكون ناقداً تتناسب عكسياً مع ما هو سائد و مألوف و سهل في السلوكيات البشرية بشكل عام.
أقرأ هذه الأيام كتاب (رحلة إلي معرفة الله) لعلاء عبد الحميد. في الكتاب يقدم بتركيز كبير الإستدلالات المنطقية علي وجود الله. و المنطق هنا ليس العلم لكنه القواعد المنطقية من نوعية عدم إجتماع الضدين، لا يمكنك أن تقول عن شخص أنه طويل و قصير في نفس الوقت ما لم تكن محمد نجم. العلم شيء آخر لكن هذا موضوع يطول الكلام فيه. في الكتاب جهد ضخم في تقديم هذه الأفكار خارج كتب العقيدة التقليدية القديمة بألفاظ سهلة و رسوم توضيحية و أشياء تناسب هذا العصر، هذا شيء يحمد له.
لكن في المقابل الشعور القوي المسيطر علي هو أن هذا الأسلوب في التفكير يهمل نقطة مهمة للغاية: التسليم بعكس ما تحبه النفس.
الإيمان له أكثر من طريق، و القرآن ذكر الكثير من الإستدلالات المنطقية علي وجود الله، لكنه في نفس الوقت أشار بوضوح لفكرة التسليم. في أول المصحف، في أول سورة البقرة، نجد الآيات (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدي للمتقين الذين يؤمنون بالغيب). الآية لا تقول يؤمنون بالله و ملائكته و كتبه و رسله - رغم أن هذا بالطبع ذكر في مواضع أخري، لكنها تقول يؤمنون بالغيب فقط لأن الإيمان بالغيب في حد ذاته هو قيمة مستقلة، القدرة علي أن تؤمن بأشياء تتجاوز ما تعرفه حواسك. للأسف أساء الكثيرون لهذه الفكرة حين شرحوا الغيب بأنه ما يغيب عن حواسك مثل الأشعة فوق البنفسجية التي إن لم تكن تراها لكنك تقيسها بالسينسورز مثلاً. هذا لا يجعلها غيب، لديك وسيلة لتعرفها بها، حواسك الخمس لا تراها لكن هناك أجهزة تقوم بدور حواس إضافية لكن الله لا تدركه أجهزتك، هذا فارق ضخم. القدرة علي الإيمان بالغيب هي قدرة نفسية و أخلاقية و ليست قدرة عقلية.
بالتالي دوماً أخاف من مزج فكرة ما تقبله النفس و ما يقبله العقل. العقل يمكنه أن يعرف أشياء و يستدل علي أشياء لكن ما تقبله النفس هو عالم آخر يحتاج الكثير من التربية و الإعداد و ما يمكن تصنيفه في خانة الهدي من الله، و ما أخاف منه دوماً هو أن يظن المرء أنه بالعقل إستغني عن الإيمان، عن القدرة النفسية علي قبول ما يقوله العقل أو عدم القدرة علي الفصل بين ما يقوله العقل و ترغبه نفسه.
سلافوي جيجك المفكر الماركسي الشهير ملحد، لكنه إعتاد أن يسخر من الذين يلحدون علي أساس (علمي) فيبحثون عن مبرر عقلي لإلحادهم. يقول عنهم جيجك أنهم عاجزون عن الإيمان، و الإيمان بالنسبة له هو الإيمان بأنه لا يوجد إله. السبب في عدم وجود إله في رأي جيجك هو نظرية الشر، لماذا يوجد شر في الكون إن كان هناك إله، لماذا لا يمنعه، هو ما ذكر في القرآن من تساؤل الملائكة عن خلق الله لكائن يفسد في الأرض و يسفك الدماء و كان الرد (إني أعلم ما لا تعلمون)، و هو ما يحتاج لجهد و قدرة و هدي من الله لقبوله. بالطبع جيجك يشرح إلحاده في صور مركبة معقدة مثل القول بأن المسيحية هي أكثر الأديان التي تدفع للإلحاد و تحمل بذرة الإلحاد فيها و كون أوروبا مسيحية بشدة في الماضي هو ما يجلعها ملحدة بشدة اليوم، و السبب هو أن الله سمح بأن يصلب إبنه، و هو ما يعبر عنه في رواية صلب المسيح في الإنجيل بصرخة المسيح علي الصليب (أبتاه لماذا تخليت عني)، و ما عبر عنه أيضاً بروايته لنكتة قديمة عن إثنان من اليهود ماتا في معتقلات النازي ثم تقابلا في الآخرة في الجنة فجلسا يتذكران المواقف الدموية و يضحكان، يقول أحدهما للآخر (هل تذكر كيف جرك ذلك النازي علي الأسفلت فأرتطمت رأسك بصخرة فتحطمت رأسك و مت) فيضحك الآخر من الموقف و بؤسه و عبثية حياتهم، بينما الله (سبحانه و تعالي) يسمع للحديث و يسألهما (ما المضحك في هذا الموضوع) فينظرا إليه ثم يقولا (لن تفهم فأنت لم تكن هناك). الإشارة هنا لأن الله لم يكن حاضراً و إلا لمنع هذه المآسي. جيجك يري أن هذا هو أساس الإلحاد و ليس الإستدلال بالعلم علي عدم وجود خالق.
ربما لهذا أحب جيجك علي إختلافاتي معه، لأنه (بيجيب من الآخر). هو أدرك أنه في النهاية مربط الإيمان والإلحاد نفسي أو أيماني، و كل هؤلاء المنظرين للإلحاد علي أساس (علمي أو عقلي) يعجزون عن التصريح بما يفتقدونه بشكل نفسي أو أيماني، بينما هو يصرح به و بالنسبة له ما يحتاجه بشكل نفسي أو إيماني هو تفسير وجود الشر.
ملحوظة جانبية: كثيراً ما أعتبر أن أفكار جيجك، علي الرغم من أنها تروق لي في كثير من الأحيان، إلا أنها كان يمكن إختصارها و تبسيطها، و أحياناً ما أشعر أن هذا أحد عوامل تكون ما يشبه التراس من المعجبين بجيجك وسط المثقفين في الغرب، هناك نادي من المثقفين الذين يفهمون هذه الألفاظ و الإستدلالات و الإشارات، لا ينضم له العامة. هذا مثال علي هذه الأفكار التي يشرحها بدرجات من التعقيد الذي كان يمكن إختصاره، لكن هذا موضوع آخر.
بالتالي يمكنك أن تفهم لماذا يحتاج المرء للتركيز علي بناء أساسه و أساس أبناؤه النفسي و العقائدي من اللحظة الأولي، و لماذا أتحسس من كل من يركزون علي ركائز الإيمان العقلية و المنطقية و يهملون الجانب النفسي الكبير القائم علي التسليم بما لا تقبله نفوسنا. في النهاية لا أحد يحب عالماً فيه ظلم ولا أحد يحب عالماً فيه مآسي و لا نملك تجاه هذه الأشياء و سواها سوي ما قاله الله تعالي (إني أعلم لما لا تعلمون) و ( لا يسأل عن ما يفعل). إن لم تتقبل هذه المباديء النفسية فالمنطق لن ينفعك كثيراً و محاولة بناء الإيمان أو الإلحاد علي أساس علمي لن ينفعوا أيضاً.