التفكير في لماذا خلقنا الله علي هذه الصورة أو تلك تفكير مألوف، مثل لماذا خلق الله الناس يمشون ولا يطيرون، لماذا خلق فيهم القدرة علي التدمير من الأساس، لماذا خلقهم بإحتياجات نفسية مثل الإحتياج للقبول و الإحتياج لتحقيق إنجازات و الرغبة التنافسية، الخ.
التفكير في هذه الأمور لا يؤدي لإجابة محددة شافية، لكن في نفس الوقت التفكير في هذه الأسئلة مهم لنا كبشر، بشكل ما هي تحدد جزء من بشريتنا و نضجنا النفسي. من لا يفكر في هذه الأشياء من فترة لأخري هو شخص منتقص الإنسانية بشكل ما.
كثير من الناس تساؤلوا عن لماذا خلق الإنسان بفترة الطفولة الطويلة هذه. مقارنة بالحيوانات الأخري فالإنسان يظل بحاجة للكبار لمرحلة عمرية كبيرة للغاية قبل أن يكون قادراً علي الإستقلال و خوض الحياة لوحده، و إحتياجه للكبار هو إحتياج نفسي و تربوي، و إحتياج لتعلم مهارات حياتية معقدة، و ليس فقط لعجزه الجسدي عن إطعام نفسه طوال هذه الفترة الطويلة. الكثير فكروا في هذا السؤال و حاولوا الإجابة عليه من زاوية الفائدة التي تعود علي الطفل، قليل هم من فكروا من منطلق الفائدة التي تعود علي الأبوين.
كما قلت، التفكير في هذه الأمور عموماً لا يؤدي لإجابة محددة مفيدة و أنا لست إستثناءاً لهذا فما سأكتبه هنا هو مجرد تفريغ لخواطر تدور في ذهني أكثر منها كتابة لرأي محدد قاطع أو حتي لفكرة أرغب في مناقشتها، أو حتي لأفكار مترابطة، هي مجرد أفكار متناثرة. قليلون من يدركوا أن الكتابة مهمة للكاتب لأسباب أكثر بكثير من أخذ شهرة أو الرغبة في مناقشة أفكاره مع آخرين أو الترويج لها و نشرها. الكتابة تساعدك علي تفريغ أفكارك الملحة و الأهم تنظيم هذه الأفكار. نيوتن كان يلقي محاضرات رياضيات في جامعة كامبريدج و كان يلقيها حتي إن دخل غرفة الدرس و لم يجد أي طلاب. إلقاء المحاضرة حتي للفراغ مهم لتنظيم الأفكار بغض النظر عن إستفادة الطلبة. بالتالي ما أكتبه هنا هو محاضرتي الخاصة التي لا تهدف لإفادة الطلبة في المقام الأول.
هناك الكثير من النصائح الشهيرة في التعامل مع الناس، نصائح من طراز قبول بشريتهم و ضعفهم قبول غير مشروط، أن تقبل الآخرين بدون أن تضع شروطاً من تصرفاتهم تجاهك أو نجاحاتهم الشخصية، أن تحب كل الناس عموماً بغض النظر عن سلوكياتهم و شكلهم، أن تفصل بين سلوكهم السيء و كرهك لما تراه خطأ و بين كرهك لهم كأشخاص، أن لا تتحيز في تعاملك معهم فتصنفهم في مكانة أدني أو يلقوا منك قبولاً أقل إن كان فيهم طبع أو سمت معين، الخ.
كل هذا عظيم لكن تحقيقه صعب للغاية. إن قابلت أحدهم للمرة الأولي في حياتك فأنت لا إرادياً تصنفه في تصنيف ما، بناء علي شكله، ثيابه، طريقة كلامه، الخ. في أثناء تدريب علي إجراء مقابلات العمل (إنترفيو) في أمازون، بدأ المحاضر (و هو مدير مديرتي) بسؤال عن (من هنا متحيز). قليل من الناس و أنا منهم رفعوا أيديهم. الباقون يرون أنفسهم منصفين يتعاملون بدون أي تحيزات مع الآخرين. كنت أعلم أن هذه هي الإجابة الخاطئة طبعاً و كنت أعرف الرد الذي سيقوله المحاضر. قال المحاضر ما كنت أعرفه بالفعل: أنك إن لم تكن متحيزاً فأنت معاق ذهنياً. التحيزات هي نوع من الإختصارات العقلية Mental shortcuts. لو لم تفعلها و بنيت تعاملاتك كلها علي أرضية محايدة تماماً فلن يمكنك أن تعيش و لن يمكن لذهنك أن يفكر في كل الأشياء التي عليه أن يفكر فيها. التحيزات هي وسيلة عقلية لتقليل العبء علي الذهن، وسيلة يتجنب بها التفكير المفتوح في كل شخص و كل موقف يمر بالمرء لأن في هذا عبء لا يمكن للعقل تحمله. يمكنك أن تحاول أن لا تكون متحيزاً في موقف بعينه (مثل الإنترفيو) و تقيم من أمامك تقييم محايد و لهذا أساليبه التي تعتمد علي تأكيد كل نقطة في تقييمك للشخص ببيانات واضحة لا خلاف عليها، بيانات قائمة علي مواقف مر بها و كيف تصرف بيها، أمثلة من الكود الذي يكتبه، الخ. لكن لا يمكنك فعل هذا مع كل شخص تقابله في الحياة بالطبع.
الطفل هو الشخص الذي يمكن معه أن تحقق قبولاً غير مشروط، تحبه برغم عيوبه فعلاً و كلما كان أصغر سناً كلما كان القبول له أكثر، و يقل القبول الغير مشروط له تدريجياً كلما كبر في السن. مقارنة الأطفال غير منطقية أصلاً، أن تنظر لطفل علي أنه (أفضل) من طفل آخر هي فكرة شديدة الغباء و السخافة (ما لم يكن أحد الطفلين قريب منك شخصياً). و المقابل أيضاً سليم، الطفل يمكنه أن يحبك بالرغم من كل عيوبك التي يعرفها و يراها الكبار، فقط الطفل يمكن أن يحبك لأسباب شديدة البساطة و يتجاوز عن عيوبك الكثيرة. ذكرياتك مع طفل هي أكثر ما ينطبق عليه عبارة أحمد خالد توفيق: بضاعة لا قيمة لها إلا عند صاحبها. كل الأطفال يقفزون علي الأسرة و الأرائك لكن حكايتك عن طفلك و هو يقفز مختلفة بكل تأكيد. هنا تصير لكل إنسان قيمة مستقلة و لسخافاته معني يختلف عن ما سواه من سخافات.
جورج أورويل في مزرعة الحيوان كان يسخر من الشعارات السياسية التي يتم التحايل عليها، فقال علي لسان الخنزير الحاكم أن كل الحيوانات متساوية لكن بعض الحيوانات متساوية أكثر من غيرها. بالمثل فإن كل الأشخاص متساويين لكن الأطفال أكثر مساواة من غيرهم. كل الحقوق التي يشعر المرء أنها من حق كل الناس تصير أكثر تضخماً و قيمة عندما نفكر فيها للأطفال. هنا تصير الصحة و التغذية و السعادة أكثر إستحقاقاً إن كان شيء كهذا ممكناً.
هناك منظمة لرعاية الأطفال في المناطق الفقيرة حول العالم، غذاء و تعليم و رعاية صحية، الخ. من ضمن أنشطتهم أنهم يعرضون برنامجاً للتبني، تتبرع فيه بشكل منتظم لطفل بعينه في منطقة فقيرة في العالم. في أول مرة جربت فيها الموضوع وجدت أن موقع المؤسسة يستعرض الأطفال حتي أختار واحداً، عارضاً لكل طفل إسمه و صورته و البلد التي جاء منها، الخ. عجزت عن الإختيار، لم أستطع أن أفضل واحد فيهم علي الآخر. كل الأطفال متساويين و فكرة أن أختار طفل دون آخر بدت لي شديدة الصعوبة، بالتالي فضلت أن أتبرع للمؤسسة ككل و أترك لهم إنفاق المال بأي أسلوب يعفيني من أن أختار طفلاً دون الآخر. كل مرة أفتح هذا الجزء من الموقع أستعرض الأطفال ثم أغلق الصفحة. بعد أكثر من عام إستطعت أن أختار أحدهم و السبب هو أن التبني به مراسلات بين الشخص و الطفل و علاقة بها شيء من الشخصية أكثر من مجرد الرعاية المادية. علي الرغم من أن المتاح مجرد مراسلات بسيطة تتم من خلال وسطاء من المؤسسة (لأن هناك إحتمال محترم أن لا تعرف أصلاً لغة الطفل الذي تتبناه) إلا أنها تمثل قيمة نفسية كبيرة للطفل، أو هذا هو ما تدعيه المنظمة علي الأقل. كان هذا هو ما أجبرني علي أن أختار طفلاً بعد أكثر من سنة من التردد.
الأمر يتجاوز فكرة القبول غير المشروط و المساواة و الحقوق ليتحول لمنطقة أخري، منطقة الشعور بالإنجاز.
قبل أن أنجب بسنوات و قبل سفري كنت أنا و إبن أختي صديقين مقربين، و أحد الأفكار التي كانت تسيطر علي دوماً حين كنت أفكر في علاقتي الجميلة به هو أن هذا هو أحد أفضل إنجازاتي إن لم يكن أفضلها علي الإطلاق. و قتها بدأت أشعر بأن هناك تعريف آخر للإنجاز عن ذلك الذي يعرفه الناس و أعرفه أنا أيضاً. هناك تعريف غير مكتوب للإنجاز أنه شيء مميز و لا يمكن للكثيرين القيام به، شيء به قدر من الندرة، مثل تحقيق ثروة، شهرة، شهادة صعبة، الخ. لكن هنا كنت أمام شيء لا يفخر به المرء، أي شخص يمكنه أن يقيم علاقة طيبة بطفل صغير يقرب له، لكن في نفس الوقت هو شيء يملأ نفسي بالكثير من الرضا. هذا إنجاز لكنه ليس إنجاز إن كنت تفهم ما أقول.
ثم قرأت كتاب بول كالانيثي When Breath becomes air الذي يحكي فيه قصته. كان بول كالانيثي جراح مخ و أعصاب في الثلاثينات ثم أصيب بسرطان رئة توفي علي أثره. بعد أن عرف بإصابته بسرطان قاتل قرر هو و زوجته أن ينجبا طفلة، عاش معها أقل من سنة قبل أن يموت. في الكتاب يوجه لها رسالة يقول فيها “عندما تأتي واحدة من اللحظات الكثيرة في الحياة التي يكون عليكي فيها أن تقدمي فيها كشف حساب بإنجازاتك، ما كنتي عليه و ما قدمتيه للعالم، فإني أدعو الله و أرجوكي أن لا تقللي من حقيقة أنك ملأتي حياة رجل محتضر بسعادة مشبعة، سعادة لم أعرفها في أعوامي السابقة، سعادة لا تطلب المزيد بل تستقر راضية. في هذه اللحظات تحديداً يمثل هذا شيئاً عظيما”. لفت إنتباهي بشدة أن بول كلانيثي تكلم هو أيضاً عن علاقته بإبنته بأسلوب الإنجاز. صحيح أنه يتكلم عنه علي أنه إنجاز لها هي و ليس إنجاز شخصي له لكنه لا يزال أول من تكلم عن علاقة بطفل في إطار الإنجاز. و أدهشني أنه إستطاع أن يصف ما عجزت عن وصفه، ما شعرت بأنه إنجاز لكنه ليس إنجاز وصفه كالانيثي بأنه سعادة لا تطلب المزيد. فيما بعد عرفت من قراءات في علم النفس أن الإنجازات المألوفة، مثل المال و الشهرة و النجاح كلها تسبب سعادة مؤقتة لكن تأثيرها الأكبر يكون في تكوين الطموح في المرء،طموح في المزيد، مزيد من المال، مزيد من الشهرة، مزيد من المشروعات الناجحة، الخ. السعادة الحقيقية عادة لا تترك في نفس المرء طلباً للمزيد و هي عادة ما تكون سعادة سببها علاقات إنسانية سليمة مثلاً أو تجارب روحية مثل إنغماس في عبادة أو مساعدة شخص،الخ.
العلاقة بالأطفال علاقة لا تترك في النفس طلباً للمزيد، و هي بشكل ما إنجاز، سواء للطفل نفسه أو للكبير.
لكن العلاقة بالطفل مسئولية ضخمة. في الماضي أخبرني أحدهم أن جمعية رسالة تقيم علاقة صداقة بين الأطفال الأيتام و بين أشخاص يسمونهم (إخوتهم)، هؤلاء الأشخاص يزورون الأطفال و يقيمون معهم علاقات شخصية و دعاني هذا الشخص لأن أشارك في هذا البرنامج، أن أكون أخاً لطفل. لم أجرؤ لأني خفت أن يرتبط بي الطفل ثم أتركه لإنشغالي مثلاً أو تقل علاقتي به فيؤذيه هذا نفسياً. هذه مسئولية ضخمة.
بعد أن أنجبت صرت أتذكر عبارة كانت في مقدمة قاموس المورد الذي كان في بيتنا و أنا طفل صغير “يطمح كل من يؤلف كتاباً للثناء إلا من يولف معجماً فإن حسبه فقط أن ينجو من اللوم”. بالطبع العبارة من الذاكرة بالتالي هي ليست بهذا النص بالظبط لكن المعني هو المهم هنا. مهما فعلت لإبنك فإن هذا من حقه لأن من حقه الكثير و الكثير، و إن مرت مرحلة التربية علي خير فهذا بتوفيق الله فقط و ليس بقدرتي ولا مجهودي لأن المطلوب أكثر بكثير من قدرتي و قدرة أي شخص. الكلام سهل لكن التطبيق صعب للغاية، و لا حدود لحق الطفل علي أبيه الذي هو في النهاية إنسان بسيط، يغضب و يخطيء و يكتشف نفسه بإستمرار.
كتب همام يحيي يقول أن بعد الإنجاب صارت إبنته هي محور الكون، يفكر في كل حدث عالمي في إطار (كيف سيؤثر هذا في إبنتي، كيف يتغير العالم الذي ستعيش فيه إبنتي بناء علي هذا). هذا يشبه ما حدث مع كيرت فونيجت. حاول فونيجت أن يكتب عن تجربة أسره في الحرب العالمية الثانية التي دخلها كجندي، الرواية التي صارت فيما بعد (المجزر رقم خمسة). ليتذكر ما حدث إتصل بصديق له، جندي كان معه في الحرب و الأسر و أخبره بما يحاول أن يتذكره. إتفقا علي أن يزور صديقه في بيته و هو ما فعله، ذهب ذات مساء مصطحباً إبنته الصغيرة لزيارة صديقه و أسرته. رحبت زوجة صديقه به و بإبنته و أخذت الفتاة للطابق العلوي لتلعب مع باقي الأطفال ثم أخذتهم لمكان أعدته لهم ليتكلموا براحتهم. كان فونيجت يتوقع أن هذا الوصف يلائم مقعد مريح بجانب المدفأة ففوجي بأنها تصحبهما للمطبخ حيث أجلستهم علي منضدة تحت مصباح متدلي شديد الإضاءة حتي أنها بدت كمنضدة جراحة. المرأة كانت متوترة، و ظلت في الخارج تحرك قطع الأثاث بعصبية. سأل فونيجت صديقه عن ما إن كان وجوده يضايق زوجته فرد بديبلوماسية أنه لا مشكلة هناك. المرأة لم تسكت فدخلت لتأتي لنفسها بكوب من الكولا، و أخذت تخرج الثلج من علبة مكعبات الثلج بضربها في الحوض بعصبية شديدة، ثم إلتفتت لفونيجت بغضب قائلة (لكنكم كنتم أطفالاً). لم يفهم فونيجت ما الذي تقصده، المرأة غالباً كانت تقول عبارة من وسط حوار يدور في عقلها الغاضب من فترة. حاول أن يستفهم منها فإنفجرت قائلة إنهم كانوا مراهقين حمقي أثناء الحرب، أطفال لا يعرفون شيئاً و الآن فونيجت سيكتب رواية تجعلهم يبدون كالأبطال، رواية تصير مشهورة ثم تتحول لفيلم يمثل فيه فرانك سيناترا أو أي من هؤلاء العجائز المتصابيين المرفهين، و تصير الحروب شيئاً لطيفاً محبوباً و تحدث المزيد من الحروب التي سيحارب فيها هؤلاء الأطفال الذين يلعبون بأعلي الآن.
كانت تخاف من تأثير رواية بسيطة علي شكل العالم الذي سيكبر فيه أبناؤها. لم تكن هذه المرأة تحمل دكتوراه في الطب النفسي و تؤلف شعر مثل همام يحيي ولا أستاذة علوم سياسية مثلاً بل مجرد ممرضة. لكن هي أشياء لا تأتي بالتعليم، هذه حكمة، فقط لا أكثر ولا أقل.
بالطبع الرواية أبعد ما يكون عن ما كانت تظنه و أقرب ما يكون لما فكرت هي فيه، و لو أرادت هي فعلاً أن تكتب رواية تكره الناس في الحرب لما أستطاعت أن تأتي بنصف ما جاء في رواية فونيجت، التي كانت بالفعل تصور المحاربين جميعاً، حتي المخضرمين منهم و الكبار في السن علي أنهم مجموعة من المراهقين المعاتيه المثيرين للشفقة كلهم، أيا ما كان فريقهم و أيا ما كان سنهم، لكن هذا ليس ما يهمنا هنا.
في نفس الإطار، أتذكر بوستاً كتبه أحدهم علي الفيسبوك أيام الإنتخابات الرئاسية في مصر، كتب فيه أن أبوه كان مؤيد لأحد الوجوه القديمة بينما إبنه يؤيد شخص من المحسوبين بشكل ما علي الثورة. هناك الكثير من المناقشات و المناوشات بينهم و في يوم الإنتخاب يتصل بيه أبوه ليسأله عن الشخص الذي يؤيده لأنه سينتخبه، لأن هذا مستقبل إبنه و له حرية الإختيار. هذا يصب في نفس النقطة، الحياة الأكبر، العالم المحيط بالأب أو الأم تحكمه فكرة (تغير العالم هو تغير في مستقبل أبنائي ). في لحظة الجد توارت الجدالات السياسية التي هي في قلبها صراعات رعاع علي الإنتماء لفريق يتحيزون له كما يتصارع الناس علي الأهلي و الزمالك إلا لدي قلة قليلة و تظهر الحقيقة الكبيرة: أنا أختار مستقبل إبني.
بالطبع تمثل هذه النماذج إستثناءات. لا أحد يكتب مقالات عن الأب الذي يفضل إبنه علي نفسه بالقطعة الأخيرة من الشيكولاته، هذا سهل، لكن الصعب فعلاً أن يصير أبناؤك هم معيار تفكيرك في كل صغيرة و كبيرة، أن تتجاوز عن الغرائز البدائية المسيطرة مثل غريزة التحيز لفريق ما، الإحتياج الشديد أن تثبت أنك كنت علي حق و التعامي عن كل أخطاء فريقك و يطفو علي السطح فقط أبناؤك. هذا نادر.
مؤخراً قتل أستاذ جامعي إبنه من التعذيب و ظهرت الآراء التي تقول أن الوالد لا يقتل بولده، علي أساس ديني. المناقشة العلمية تقول أن الأحاديث التي إنبني عليها هذا الكلام علي صحتها خلاف كبير بالتالي لا تصلح للتشريع. المناقشة العلمية تقول أن علم النفس يمكنه أن يعطيك مجلدات عن مواقف تتجاوز فيها مصلحة إبنك رغبات كثيرة و إحتياجات و إنحرافات إدراك مبنية في العقل البشري، و أن أحداً لم يقدم إحصائية بالإحتمالات، ما هي إحتمالية أن تتجاوز مصحلة إبنك رغباتك في الحفاظ علي مظهرك الإجتماعي (و إبنك جزء منه) أو نوبة غضبك؟ التجارب النفسية كثيرة و الأرقام كثيرة، و ربما كان مقبولاً من فقيه قديم أن لا يلجأ للأرقام و التجارب و يطلق العبارات المطلقة عن حب الآباء للأبناء، لكن اليوم هل يصير هذا الأسلوب في الإستدلال أصلاً مقبول؟ المناقشة العلمية تقول أن هذا هو المشهد الأخير في رواية طويلة و أن هناك آخرين كان بإمكانهم إيقاف ما يحدث، هناك مدرسين يتعاملون مع الأطفال، أم، أطباء يتعاملون مع هؤلاء الأطفال. المشاهد المماثلة في الغرب يتم فيها محاكمة طبيب الطفل أو مدرسينه عادة لأنهم لم يبلغوا عن العلامات الكثيرة، نفسية و جسدية، التي تكون في الأطفال الذين يعيشون مع أباء كهولاء. في رواية غضب Rage لكينج التي تتكلم عن مراهق كان يعيش مع أب كهذا كان جزء مهم من المشهد إنتقام المراهق من الأخصائي النفسي في المدرسة، الذي و إن كان يكتب تقاريراً عن حالة المراهق إلا أنه كان يؤديها بروتينية موظف و ليس بتعاطف إنسان. في الغرب لا يمكنك أن تنقل هذا المشهد بمعزل عن المجتمع و لا يمكن أن يقتصر العقاب علي الأب بل لابد أن يمتد للمجتمع المحيط بالطفل.
لكن أصلاً المناقشة العلمية لفكرة أن (الأباء يضعون مصلحة أبناؤهم فوق كل إعتبار) أو أي عبارة مشابهة تبدو شديدة السخافة في مجتمع كمصر. عبارات كهذه لا تستدعي مناقشة علمية بل تستدعي شتائم قبيحة لمن يقولها. مناقشة هذه العبارات بأسلوب علمي يحتاج الكثير من سعة الصدر أحسد من لازال يملكها. نحن في مجتمع يبلغ فيه الأباء عن أبناءهم المعارضين للحكومة، في مجتمع نزل فيه كم محترم من الأباء يصوتون لناس قتلت أبناؤهم ونزل آخرين يوافقون علي دستور يبيح صراحة محاكمة أبناؤهم عسكرياً لأن من قدمه لهم يقول (قال الله و قال الرسول)، في مجتمع فيه قائمة أطول من ذراعي من الإعتبارات الإجتماعية و المادية التي تصبغ بصغبة دينية التي يضعها الأباء قبل مصلحة أبناؤهم. في مصر يحافظ الآباء علي أبناؤهم كما يحافظ الطفل علي لعبته أو يحافظ المرء علي سيارته، شيء يملكه يراعيه و يصونه و ينظفه و يذهب به للصيانة عندما يعطل، لكن نتكلم عن المصلحة المطلقة و الحب المطلق للأبناء فوق كل شيء؟ كقاعدة عامة و ليس كإستثناء؟ هذه سخافة مقطرة، سخافة خام.
التربية أيضاً تأتي بالتساؤل القديم عن الطبيعة أم التنشئة nature vs nurture ، أي ما الصفات التي تكونت في المرء بالتنشئة في مقابل الصفات التي ولد بها. حمقي التنمية البشرية يقولون أن بإمكان أي شخص أن يفعل أي شيء، من يحترمون أنفسهم و يحترمون العلم يعرفون أن هناك أشياء ولد بها المرء مبنية في جسده و جهازه العصبي، يمكن تغييرها نسبياً بشيء من الجهد لكن لا يمكن التخلص منها تماماً. كما قالت إحداهن في كتاب عن الشخصية الإنطوائية (أن بيل كلينتون مهما حاول لن يكون بيل جيتس، و بيل جيتس مهما حاول فلن يكون بيل كلينتون) في إشارة للمهارات الإجتماعية لواحد في مقابل المهارات الفكرية للآخر.
التسؤال عن الطبيعة في مقابل التنشئة يكون واضحاً بشدة عندما تربي طفلاً.
عندي فيديو للمرة الأولي الذي مشي فيه يحيي. كان يذرف الصالة ذهاباً و إياباً دون أن يسقط سوي مرة واحدة فقط. السبب أنه كان بالفعل يمشي منذ شهور لكنه يتشبث دوماً بشيء ما، منضدة أو كرسي مثلاً. عندما ينسي بسبب إنشغاله مثلاً بلعبة يرفع كلتا يديه و يظل واقفا أو ماشياً لكن ما أن ينتبه حتي يمد يده لأقرب شيء. إلي أن جاء اليوم الذي قرر فيه أن يمشي دون أن يمسك بشيء لسبب لا يعلمه إلا الله و بالطبع لم يكن يسقط لأنه يجيد المشي بالفعل من شهور.
بالمثل كان يحيي متأخراً في الكلام. في إيفنت عن (كيف تنشيء طفلاً مزدوج اللغة) سألت زوجتي المحاضرين عن يحيي، عن كونه تأخر في الكلام و أخبرتهم عن قصة مشيه. كان الرد أنه غالباً (إنطوائي مثالي introvert idealistic)، و أمثال هؤلاء لا يفعلون شيئاً إلا عندما يتأكدون من إتقانه. سيتأخر في الكلام حتي يأتي يوم يتكلم فيه فجأة.
كانت هذه مفاجأة لي. أنا في وسط من ال hipsters الذين يدمنون أفكار (لا تصنف الناس، كل شخص يمكنه أن يفعل أي شيء، لا تتحيز، الخ) بالتالي تصنيف طفل عمره سنة واحدة بهذه السهولة كان مفاجيء لي. أنا أتفق مع هذا الأسلوب، أنا شخص يدمن تصنيف الناس و الأشياء والأفكار و علي حد وصف أحد أصدقائي فأنا أعجز عن التعامل قبل التصنيف، تصنيف الشخص أو الموقف و عادة ما كان الناس يرفضون هذا، و عموماً هذه أحد الأفكار التي أحبها في سلافوي جيجك، أنه لا يمانع من التصنيف والتحيز ضد أفكار بعينها و رفض الأفكار السطحية من نوعية (هما يحبوا بعض) علي حد تعبير عادل إمام، إلي آخر هذه الأشياء التي تعتبر جريمة اليوم لدي ال hipsters المنتشرين بكثرة.
بعد عدة جلسات لدي أطباء تخاطب كان التشخيص أنه ذكي،يفهم الكلام، لا عوائق في السمع، فقط هو لا يرغب في الكلام! أتركوه و سيتكلم يوماً ما. عندما تكلم يحيي بالعربية كان شبه إنفجار في الكلمات و التعبيرات، فجأة كلمات كثيرة تخرج في أيام بسيطة متتالية. هو يخزن الكلام و حين قرر أنه أتقن الكلام بالقدر الذي يرضيه قرر أن يتكلم (بالطبع كلامه لا يزال كلام أطفال، هو ليس الزمخشري). بالمثل حدث نفس الشيء في تعلمه الهولندي، المدرسة في الحضانة التي يذهب لها لبضعة ساعات أسبوعياً ليلعب مع الأطفال أخبرت زوجتي بعد شهور من ذهابه هناك أنه فجأة في يوم واحد تكلم معها بعدة كلمات هولندية في يوم واحد، من الصفر لعدة كلمات و جمل من كلمتين في يوم واحد، لا تدريج. بالطبع هم دارسون للتربية و قد فهموا ما حدث و التقرير النهائي الذي أرسلته لمدرسته التي سينتقل لها بعد إنتهاء فترة الحضانة كان يضم نفس الكلام الذي صار مكرراً: هو يحتاج لأن يشعر بالأمان و التمكن من الشيء الذي يقوم به قبل أن يقوم به.
هنا لا أملك نفسي من أن أتأمل نفسي و أفكر في ما إن كان طبع المثالية فيّ شبيه بمثاليته. ما إن كان هذا شيء ورثه مني من ضمن الأشياء التي ورثها، و هنا أنا أمام تجربة أفهم فيها نفسي.
التقرير الربع سنوي الأخير الذي جاء عني في العمل، و هو مجمع من كثير من زملائي و مديريني، من ضمن نقاط كثيرة فإن فيه نقطتين متناقضتين لافتين للنظر: أن اسلوبي في الكلام تأكيدي واثق assertive، مما يعيق الآخرين عن مناقشتي. في معظم الأحيان أكون علي صواب لكن علي أن أغير أسلوب صياغتي للكلمات الذي لا يساعد علي النقاش. في نفس الوقت أنا أشكو من أني أقوم بأعمال أنا لا أملك المهارات المناسبة لها لعدم وجود من يقوم بها. الرد علي هذا هو أنك تقوم بالفعل بعمل جيد ولا داعي للشك في نفسك !. بالتالي هو تقرير يبدو أنه يعيب علي شيئين: الثقة المبالغ فيها في النفس و في نفس الوقت عدم الثقة في النفس. الإطار الذي يمكن فيه فهم هذا هو أني شخص مثالي، لا أتحرك إلا حين أثق أني أملك زمام الموضوع بدرجة كبيرة مما يجعل تحركاتي بطيئة و الأمور التي أقبل أصلاً القيام بها محدود و في نفس الوقت حين أتحرك أبدو ملماً بالأمر واثقاً بقدر يمنع الكثيرين من المناقشة، لقد إتخذت هذه القرارات بناء علي صورة واضحة في ذهني أبنيها من فترة طويلة. عليك أن تبذل الكثير من الوقت و الجهد لتصل لمستوي يسمح لك بمناقشتي. بالطبع هذا ما أظنه و ليس ما عليه الأمر فعلاً، أنا أتحرك حين أظن أني أعرف ما أفعله، لكن بالطبع (أظن) هذه كلمة مطاطة ليس من الضروري أن تكون معبرة عن الواقع. هي مجرد تعبير عن الشعور النفسي و ليس عن الواقع.
بالطبع ما كان لي أن أفهم ما يحدث في هذا الإطار إلا من خلال تجربتي مع يحيي. هناك منطقة شائكة في التربية هي أن تحاول أن تحقق في إبنك ما فاتك، أن تكره في إبنك صفات تكرهها في نفسك، لكن ماذا عن أن أفهم نفسي من خلال إبني؟ من خلال تجربتي معه؟