أنا أكره الأدب النسائي.
حين سئُل نجيب محفوظ لماذا لا يكتب مقالات رد قائلاً “شاء الله أن يجعلني من ذوي المشاعر لا من ذوي الافكار”. هذا رد ذكي و هو السبب (أو واحد من الأسباب) الذي يفسر العكس بالنسبة لي: أنا لا أكتب روايات ذات قيمة لأني من ذوي الافكار لا من ذوي المشاعر. هذه نقطة فصل لطيفة بين الكتاب و الرواية.
لكن علي الرغم من هذا أشعر أن الأدب النسائي يفتقر للأفكار. هناك الكثير من المشاعر التي تتركني تائهاً أبحث عن خيط من المنطق، إطار أو هيكل من الأفكار الذي يسمح لي بالتعامل مع كل هذه الكلام الذي يملاً الصفحات، ولا أجد. حتي لو كان الفارق بالتعريف أعلاه أن الرواية هي شيء يمتليء بالمشاعر و ليس به أفكار لكن هناك حد أدني من الأفكار التي أحتاج لوجودها لأستطيع التعامل مع العمل الأدبي، و هو حد أدني لا أجده في الأدب النسائي عادة. بالتالي هناك الكثير من الأسماء العربية و الأجنبية الشهيرة في الأدب النسائي التي فشلت في أن أكمل قراءة كتاب لها حتي نهايته، مثل رضوي عاشور و إزابيل الليندي. مهما حاولت فالمحاولة فاشلة عادة.
بالتالي كنت بشكل ما متخوف من قراءة كتاب (زمن مستعمل: آخر السوفييت Secondhand Time: The Last of the Soviets) لسفيتلانا اليكسيفتيش، السوفيتية سابقاً البيلاروسية حالياً الحائزة علي جائزة نوبل في الأدب، لكني بدأت من منطلق أن لا أكون متحيز لتجاربي السابقة.
أحد الأشياء التي أفتقر لها حين أقرأ التاريخ هو وصف كيف عاش الناس العاديين، ماذا كانوا يأكلون، كيف كانت بيوتهم من الداخل. التاريخ هو تاريخ الحروب و القادة و الملوك، لكن ماذا عن الرجل العادي الغير مشهور؟ كيف كانت حياته اليومية العادية؟
بالتالي من أكثر الأشياء التي أحببتها في زيارتي لروما كانت زيارة أوستيا، و هي ميناء قديم بجانب روما. المدينة مازالت محتفظة بشوارعها و بيوتها، بيوت عمال الميناء العاديين. بجانب رؤية اللوحات الجميلة و الكنائس الفخيمة و الكولوسيوم و التماثيل و كل هذه الأشياء التي كانت تهدف لتسلية و إسعاد الملوك و بابوات الفاتيكان فهذه مدينة أدخل فيها لبيوت العمال و أري شوارعهم و كيف كانوا يعيشون يومهم العادي.
كتاب سفيتلانا اليكسيفيتش قائم علي نفس الفكرة بالظبط، فهي تقدم تاريخ إنهيار الإتحاد السوفيتي الذي يعرفه الكل في صفحة واحدة، كل حدث مهم في سطر مستقل، ثم تجمع كلام الناس الذين عاشوا هذه الفترة و مشاهداتهم. هذا كلام الناس و ليس كلام المحللين السياسيين و الفلاسفة. بالتالي هذا كتاب لا يمكنك أن تحرقه للآخرين، لا يوجد شيء جديد و في نفس الوقت كل شيء جديد و له وزن نفسي نابع من كونه يحمل مشاهدة و مشاعر من عاشوا هذه الفترة و تحليلاتهم لها.
في البداية هناك ذلك الافتقار المألوف لهيكل فكري يضم الكتاب، نفس الشعور العام المتربط بالأدب النسائي، في أثناء كلامها هي شخصياً عن الإتحاد السوفيتي السابق، ثم يتراجع هذا التوهان حين تتوقف هي عن الكلام و تترك الناس تتكلم. كلام شيوعين سابقين مازالوا علي ولائهم للشيوعية و فخرهم بمناصبهم العالية السابقة في الحزب الشيوعي الذي تسابق الكل علي التخلص من كارنيه عضويته، كارهين للشيوعية، محبين للرأسمالية، ناس كانت في هذا الجانب ثم إنتقلوا للآخر، ناس لا تعرف ما تؤمن به، الخ.
هنا لا يوجد كلام منطقي أو مترابط في كثير من الأحيان، أنت تري الأشياء بمنظور الناس و هذه الناس ليست سلافوي جيجك ولا زيجنيو بريجينسكي، بل عمال و مهندسين و مدرسين و تجار و جنود سابقين في أفغانستان، بالتالي هناك الكثير من الأخطاء الفكرية، التاريخية، النظرة الأحادية، المنظور الضيق و الغبي أحياناً للحياة ككل، الخ، لكنها تظل تحمل وزنا كبيراً. أنا عموماً أتأثر بشدة بالقصص الحقيقة و منذ سنين طويلة لم أعد أستطع أن أقرأ لعبد الوهاب مطاوع، لكني بسهولة يمكنني أن أقرأ أصعب الرويات لأني أشعر في قرارة نفسي أنها من تأليف أحدهم بينما القصص الحقيقية هي معاناة إنسان حقيقي. بالتالي يمكنك أن تفهم الوزن الذي يمثله كتاب (زمن مستعمل) بالنسبة لي.
في هذا الكتاب تفهم بوضوح الكثير من الأفكار المرتبطة بإنهيار الشيوعية. أحد الأشياء التي كان علي تجاوزها في بداية معرفتي بسلافوي جيجك هو فكرة الماركسي الذي يحمل كلامه الكثير من الإعجاب أو التحسر علي الماضي الشيوعي و في نفس الوقت لا يكف في كل مناسبة عن السخرية من ستالين و لينين. الفكرة الأولية هي أن الإتحاد السوفيتي ليس له علاقة بالشيوعية الرسمية التي في الكتب، هي كيان مشوه ليس له علاقة بالأصل، هذا أول ما تتعلمه حين تقرأ لماركسيين، لكن مع جيجك الموضوع يتجاوز هذا، هو لا ينتقد الإتحاد السوفيتي و يمشي كما يفعل عدد من الماركسين أو الشيوعيين المعاصرين، هو مازال يفتقد شيء ما كان في الإتحاد السوفيتي نفسه. بعدها تكتشف أن ما يفتقده هو فكرة الهدف الأسمي الأكبر.
إنهيار الإتحاد السوفيتي جاء معه بفكرة نهاية التاريخ، نهاية الأفكار الكبري كلها و ليس الشيوعية فقط، لم يعد هناك أفكار كبري من الأصل ولا صراع بينها، سواء كانت شيوعية أو غير شيوعية، الفكرة العامة هي أن تعيش حياتك تستهلك و تسافر و تتنزه، فقط لا غير، بهذه البساطة. كل الهراء المعقد الذي يقوله المثقفون الحنجوريون أيا ما كان توجهه لا معني له ولا داعي و لا يوجد من يستمع له من الأصل. جيجك يري أن المرء لا يمكن أن يعيش بدون قضية كبري، و الإتحاد السوفيتي و التجربة الشيوعية علي كل مساؤها كان فيها الحياة و العمل من أجل هدف سامي جماعي.
اللغة الروسية لغة بها الكثير من الكلمات ذات المعني القوي الصريح و التي يتم التعبير عنها في اللغات الأخري بكلمات أقل قوة تحتمل أكثر من معني مختلفي الشدة. في العربية يمكنك أن تقول عن شخص مثقف و هذا يعني أنه واسع الإطلاع و الفكر الخ، لكن في نفس الوقت يمكن أن يكون له دور فعال إيجابي في المجتمع أكثر من غيره. لكن في الروسية لا يوجد إحتمال أو (ممكن)، هناك المثقف و هناك الإنتليجنتسيا، الكلمة التي إنتقلت لكل اللغات تقريباً بسبب الشيوعية و التي تعني المثقف صاحب المسئولية و الهدف و الدور الذي يلعبه في تثقيف الآخرين و إعادة هيكلة المجتمع ككل. الأمثلة كثيرة و بعضها مرعب، مثل كلمة إستينا التي تعني الحقيقة بمعناها الحرفي (أنا أعمل مبرمج، هذه حقيقة مجردة بسيطة)، في مقابل وجود كلمة منفصلة تعبر عن الحقيقة المجازية الفلسفية العليا، مثل (الله هو الحقيقة المطلقة). في اللغة الروسية الكلمة التي تصف الحقيقة المطلقة الفلسفية هي برافدا. لو لم يثر الإسم شيء في ذاكرتك فهذا هو إسم الجريدة الشيوعية الرسمية ! نعم الجريدة الرسمية تمثل الحقيقة المطلقة الفلسفية التي ترقي للدين أو ربما تتجاوزه.
هذا مثال يصلح للكلام عن علاقة اللغة بالتفكير، و عن ما إن كانت اللغة الروسية عامل من العوامل التي سهلت قيام الثورة الشيوعية في روسيا و في تكون الصورة الشيوعية التي عرفتها البشرية لعشرات السنين، فرضية سابير وورفSapir-Whorf Hypothesis الخلافية الشهيرة، لكن هذا ليس موضوعنا هنا.
بالتالي يمكن أن تتفهم من أين يأتي البحث عن هدف السامي المتجاوز للمصلحة الشخصية الضيفة للمرء حين نتكلم عن الشيوعية، و يمكن أن تتفهم كيف شعر أولئك الذين عاشوا في هذه البيئة ثم استيقظوا ليجدوا فجأة أن الهدف الأسمي للحياة تحول لجمع المال و إنفاقه.
في كتاب زمن مستعمل تتحول هذه الأفكار لحقائق و مشاعر مرتبطة بهذه الأفكار، لا مجرد تنظيرات (بهوات) في الكتب و المحاضرات. أنت تري أناس ربما لم يسمعوا بهذه الأفكار في حياتهم و لم يقرؤا كتاباً واحداً من كتب نهاية التاريخ الأمريكية أو كتب الدفاع عن القضايا الخاسرة التي يكتبها جيجك، لكن بسهولة تري في كلامهم الفكرتين المتناقضتين، الحياة التي كان بها هدف ضخم سامي التي تحولت فجأة للا قيمة ولا هدف سوي الإستهلاك الرهيب، الذي ربما تري أنه مماثل لما نحياه اليوم إلا أنه وقتها كان يمثل نقلة أكبر من أن يتحملها الناس الذي عاشوا عشرات السنين لا يجدوا معاطف الشتاء إلا بالواسطة.
أحكي لصديقي عن الكتاب مع أمثلة من تعامل الناس مع القمع الستاليني و إنهيار الحلم الشيوعي و الرأسمالية التي جاءت بدون أي خطة، مجرد حلم عام أحمق، و كيفيقة تفاعل الناس مع كل هذا، من أيدوا السياسات التي آذتهم شخصياً عشرات السنين و من عجزوا عن التفكير في خيار أبعد من المقترحات الحمقاء المتاحة علي الساحة و من لم يروا إلا خيار واحد من إثنين كلاهما سيء، من دفعتهم معاناتهم مع الشيوعية للقفز للرأسمالية الصارخة بأسلوب (هل تفضل أن تموت محروقاً أم متجمداً) فيقول في إستنكار أن عندنا في مصر كثير مثل هؤلاء فلماذا أتعب نفسي في قراءة كتاب كهذا. يقول صديقي ما شعرت به من أول لحظة في قراءة الكتاب: لو مسحت التفاصيل السطحية فهذا الموقف و هذه الفكرة و هذا الشخص يشبه ما حدث عندنا قبل و أثناء و بعد الثورة. صديقي كان منغمس في الثورة و أحداثها، أصيب في محمد محمود، الخ. الآن هو ينزل مصر زيارات متباعدة عندما يكون مضطراً بشدة بعد أن يلح عليه أهله في أن يروه، أغلق حسابه علي الفيسبوك، لا يتابع أخبار مصر حتي من بعيد و الأحداث الكبيرة من نوعية وفاة محمد مرسي تصله عن طريقي بعد حدوثها بشهور. لا يريد أن يعرف أو يري أي شيء له علاقة بمصر قدر الإمكان.
أعرف أن كلام صديقي سليم، هذا يشبه تماماً ما يحدث عندنا في مصر، أرد عليه بالجملة التي أتوقع رده عليها بالظبط. أقول أن (المقاس) أكبر بكثير، حجم المآسي و القمع و الآمال و الأفكار و في المقابل تعامل الناس معها أكبر مما لدينا حتي و إن كان يشبهه فيرد بالرد الذي توقعته تماماً: الغباء لا حدود له و من عندنا سيفعلوا بالضبط نفس الشيء إن كان المقاس أكبر. أنا و صديقي متشابهين في كثير من الأفكار و كثير من نقاشاتنا الفكرية و السياسية بل و حتي التقنية (هو مبرمج أيضاً) لا يشوبها الكثير من الخلاف. أصلاً كتاب سفيتلانا إسمه (زمن مستعمل) سببه أنها تري اليوم بعد أن عاني الناس من الرأسمالية المتوحشة المرتبطة بالكثير من الفساد في روسيا عادت المظاهرات الشبابية التي تحمل صور ستالين و لينين لتطالب بنفس ما كان الشيوعيين يرددوه من عشرات السنين، كلهم لا يعرفون أو يتناسون أو لا يشعرون بما كانت تمثله الشيوعية. بالرغم من أن هذا يفترض به أن يكون زمن جديد إلا أن التاريخ يعيد نفسه و هذا زمن مستعمل، إستعمله السوفيت قديماً و أبلوه بالفعل. مرة أخري هذا يذكرك بما قاله أحد المفكرين عندنا عن أن الحكم في منطقتنا سيظل ينتقل من عسكري لديني لعسكري لديني إلي ما لانهاية. لا يعرف الناس سوي هذين الخيارين و عندما يفشل أحدهما ينادوا بالآخر، لا يوجد حل ثالث أو رابع أو خامس.
أحد الدعاة الدينيين بدأ في إعطاء كورس عن التفكير المنطقي. أنا بالطبع غير مقتنع بكورس عن التفكير المنطقي لكني كنت هناك في هذه المنطقة الفكرية و تجاوزتها منذ زمن. أنا درست كورس في التفكير الرياضي يتم تدريسه في ستانفورد فقط في محاولة للوصول للعوامل التي تجعل الإثبات الرياضي سليماً بشكل قاطع و كانت الصدمة عندما قال المحاضر بصراحة أن شيء كذا غير موجود. لكن إن كان هناك نصيحة واحدة يتعلم بها المرء التفكير فهي بأن يمارسه بعيداً عن المشاعر. كل الناس تفكر فقط في قضايا لها علاقة مباشرة بها لكن عادة لا يحسن المرء التفكير إلا عندما يمارس التفكير بإنتظام في شيء بعيد عنه تماماً و ليس له علاقة مباشرة به. لا يمكنك أن تتعصب ليولوس قيصر أمام بروتس أو العكس، لا يمثل أي منهم أي صفة إجتماعية أو دينية أو عرقية مهمة بالنسبة لك بالتالي غالباً إن قرأت عن ما تم بينهم فأنت ستفكر في الأمر بحياد نسبي، و أحد الصفات العامة في المتدينين المعاصرين الذين يحاولوا أن يمارسوا العادات الفكرية الحديثة أنهم لا يخرجوا فكرياً خارج مشاكلهم المباشرة بالتالي يشوب قرائاتهم و تفكيرهم الكثير من المشاعر التي تقتل التفكير المنطقي في بداياته.
ربما كان كتاب سفيتلانا مفيد من هذه الناحية. في النهاية هم بشر و نحن بشر، و ربما كان مفيداً أن تنفصل عن الواقع اليومي و تبتعد لتقرأ كيف يتحرك البشر عموماً، تترك حكمك و مشاعرك الضيقين المباشرين بعيدين قدر الإمكان و تفكر و تتفاعل مع البشر بصفتهم بشر. ربما تحبهم أو تشفق عليهم أو تكرههم أو مزيج من كل هذا لكن في إطار أكثر حيادية و لو بقدر ضئيل عن ما نمارسه يومياً.