هولندا من أكثر دول الاتحاد الأوروبي تأخراً فيما يتعلق بخطط الحد من انبعاث ثاني أكسيد الكربون. الدولة تعتمد علي الغاز الطبيعي في التدفئة و علي وقود كربوني لتوليد الكهرباء. المفاعلات النووية قليلة للغاية و هناك مناقشات لإغلاق الموجود بالفعل. موضوع المفاعلات هذا تقليد لألمانيا التي تعتمد بالمثل علي الكربون لتوليد الكهرباء، بالتالي منطقي أن ثمانية من أكثر عشر منشآت أوروبية إنتاجاً لثاني أكسيد الكربون هي محطات توليد كهرباء ألمانية. عموماً هولندا تعتبر امتداد لألمانيا حيث يقلدونها في أشياء كثيرة و الطاقة من ضمنها.
لا يمكن الاعتماد بالكامل علي الطاقة المتجددة لانها لا يمكن تخزينها. لا يمكنك تخزين الكهرباء التي تولدت بالشمس للمساء ولا يمكنك تخزين الكهرباء التي تولدت بالرياح لوقت تقل فيه الرياح أو تنعدم. هناك مشكلة أكثر صعوبة: الدولة مدت أنابيب غاز طبيعي للبيوت لاستخدامها في التدفئة علي مر السنين، بالتالي البنية التحتية لشبكة الكهرباء غير مصممة لأن يتحول استهلاك البيوت من الطاقة بأكمله للكهرباء. أسعار الطاقة في هولندا خيالية مقارنة بباقي أوروبا كما لك أن تتوقع.
بالطبع الدول الملتزمة بجداول تقليل انبعاث ثاني أكسيد الكربون لديها مفاعلات نووية و الطاقة عموماً فيها أرخص. الكثير من الخبراء يتكلمون عن خطط إغلاق المفاعلات النووية القليلة في هولندا بأسلوب (إبقي قابلني) و يرون أنه لا سبيل إلا بالتوسع في انشاء المفاعلات النووية و ليس إغلاقها.
بالطبع السبب في رفض إنشاء المفاعلات النووية في هولندا و ألمانيا هو خطورة الإنفجارات و التسربات النووية. تشيرنوبل حاضر في أي حوار عن المفاعلات النووية بالقطع. الحوار عادة ما يكون عن أن تشيرنوبل يمكن أن يتكرر بينما يقول الآخرون أن الاحتباس الحراري حدث بالفعل بينما يمكن تجنب حدوث انفجار في مفاعل نووي بسهولة. إيطاليا فعلت شيء مشابه بأن أغلقت مفاعلاتها النووية لكنها تشتري كهرباء بتكلفة أعلي بكثير من دول مجاورة تم توليدها بمفاعلات نووية حتي أنها صارت أكبر مستورد للكهرباء في أوروبا و هو ما عبر عنه البعض بأنه شيء إيجابي للبشرية لأن الإيطاليين لا يمكن الثقة بهم في تشغيل مفاعل نووي - في إشارة للفساد و عدم الإلتزام و ما شابه. جدير بالذكر أن أكبر مصدر للكهرباء في أوروبا هي فرنسا، و هي من أكثر دول اوروبا استخداماً للمفاعلات النووية لتوليد الكهرباء.
في هذا المقال أحاول أن أنظر لما حدث في تشيرنوبل من اطار علمي بعض الشيء و أحاول أن أشرح كيف يمكن أن يضمن المرء أن لا يحدث تشيرنوبل آخر. الأخطاء لابد أن تحدث، بسبب إهمال أو خطأ بشري، بالتالي كيف يمكن أن يتكلم أحدهم بثقة عن أن لا يحدث إنفجار في مفاعل نووي؟
كلما كانت الأمور سيئة كلما زادت فرصة أن يزداد الموقف سوءاً
هناك صفة عامة في بعض التصميمات الهندسية و الآلات، في مختلف فروع الهندسة، يسميها كل فرع من فروع الهندسة باسم مختلف إلا أنها كلها يمكن وصفها بأنها ( كلما كانت الأمور سيئة كلما زادت احتمالية أن تزداد سوءاً).
تخيل الموقف التالي: جوجل لديها سيرفرات يستخدمها الناس في البحث. كلما فتحت موقع جوجل لتبحث عن شيء ما يتم تحويلك لسيرفر من هذه السيرفرات. افترض أن كل سيرفر يمكنه أن يقوم ب100 عملية بحث في الثانية و جوجل تتلقي 1000 عملية بحث في الثانية. بالتالي تحتاج جوجل لعشر سيرفرات - هذه ارقام فقط لضرب مثال، الأرقام الحقيقة أكبر بمراحل من هذا.
تخيل أن واحد من هذه السيرفرات العشرة تعطل و توقف عن العمل. عندها تتحمل السيرفرات التسعة كل طلبات البحث الألف بحيث يقوم كل سيرفر بإجراء مائة و أحدي عشر بحثاً في الثانية تقريباً. المشكلة أننا قلنا أن كل سيرفر يستطيع فقط تحمل مائة بحث في الثانية. بالتالي تتراكم طلبات البحث في ذاكرة السيرفرات بالتدريج دون أن يستطيع السيرفر القيام بها كلها. مع الوقت ينهار سيرفر آخر. الآن علي كل سيرفر من السيرفرات الثمانية المتبقية أن تقوم ب مائة و خمسة و عشرين عملية بحث في الثانية. تنهار السيرفرات واحداً وراء الآخر بحيث لا يتبقي أي سيرفر و تصبح خدمة البحث الخاصة بجوجل متوقفة تماماً.
في عالم الكمبيوتر يسمي هذا النوع من المشاكل الفشل المتتالي cascading failure . أول حل قد يخطر ببالك هو أن يتم تصميم النظام بحيث أن كل سيرفر يستطيع تحمل عدد أكبر من طلبات البحث مما يصل إليه في المعتاد، بالتالي إن كان كل سيرفر يستطيع أن يقوم بمائة عملية بحث في الثانية و جوجل تتلقي ألف طلب بحث في الثانية إذاً نستخدم إثني عشر سيرفر بدلاً من 10. هذا يسمح بأن يتوقف سيرفرين بدون مشاكل. لكن ماذا يحدث إن توقفت ثلاثة سيرفرات؟ الحل الأكثر ضماناً هو عمل ما يسمي التخلص من الحمل load shedding. إن كان كل سيرفر يستطيع أن يقوم بمائة عملية بحث في الثانية فأي طلبات لعمليات بحث تزيد عن هذا الرقم يتجاهلها تماماً. لا يضعها السيرفر في الذاكرة، لا يحاول أن يقوم بها بل يتظاهر بأنها لم تأت أصلاً. هذا يضمن أنه في أسوأ الأحوال سيتم إهمال طلبات البحث من عدد من المستخدمين بدلاً من أن تتوقف خدمة البحث تماماً لكل المستخدمين.
الفشل المتتالي و التخلص من الأحمال أشياء يعرفها مهندسو شبكات الكهرباء بنفس الاسم و المشاكل و الأفكار مشابهة فقط هي علي محطات التوليد و المحولات و خلافه بدلاً من السيرفرات. في الهندسة المدنية هناك مشكلة مشابهة حين ينهار عمود كوبري، إذ تنتقل الأحمال للعمودين المجاورين مباشرة. إن لم يكن هذين العمودين قادرين علي تحمل العبء الزائد ينهاروا بدورهم ثم تنهار الأعمدة المجاورة لهما اثنان تلو اثنان حتي ينهار الكوبري كله. في الهندسة المدنية يسمي هذا تأثير السوستة zipper effect لأنها يشبه السوستة التي تنفتح أسنانها واحدة وراء الأخري.
في الطيران هناك مشكلة شبيهة تسمي عدم الاتزان الديناميكي dynamic instability، و هو نوعية أخري من مشكلات (كلما كانت الأمور سيئة كلما زادت احتمالية أن تزداد سوءاً). طائرة بوينج 737 ماكس الشهيرة كانت فيها هذه الصفة اللطيفة. هناك احتمال أن أي زيادة في الدفع من محرك الطائرة - أي طائرة - أو رياح في الإتجاه المعاكس لطيران الطائرة أن ترفع أنف الطائرة قليلاً، لكن الطائرة تعود للإتزان من نفسها، هذا شيء معروف و يتم تدريب الطيارين عليه. لأسباب تجارية و قانونية يطول شرحها فإن بوينج في طائرتها المنكوبة خرجت بتصميم فيه إن ارتفع أنف الطائرة تزيد احتمالية أن يتسبب الدفع الزائد من المحرك في زيادة رفع أنف الطائرة أكثر و أكثر. بالتالي تخيل مثلاً أن الطائرة تطير في وضع متزن، تواجهها موجة رياح ترفع أنف الطائرة قليلاً، عندها يتسبب المحرك في زيادة رفع أنف الطائرة بمقدار بسيط، و في هذا الوضع يتسبب نفس المحرك، بدون أي زيادة في السرعة في زيادة رفع أنف الطائرة بمقدار أكبر من السابق، و في الوضع الجديد مع زاوية الميل الأكبر يتسبب المحرك في زيادة رفع أنف الطائرة بمقدار أكبر من الذي سبقه، و هكذا حتي تصل الطائرة بسرعة لزاوية تقترب من الزاوية القائمة و عندها تسقط الطائرة من حالق. هذا نموذج من أسوأ نماذج عدم الإتزان الديناميكي - هناك أنواع عديدة لعدم الإتزان الديناميكي.
بسبب أن المشكلة عنيفة و عدوانية لجأت بوينج لحل عدواني. وضعت بوينج مجساً ليقيس زاوية ارتفاع انف الطائرة و برمجت كمبيوتر الطائرة علي تعديل وضع الطائرة بالقوة إن ارتفع أنف الطائرة.
المشكلة هنا أن مجسات الطائرات لا يمكن الاعتماد عليها بثقة. مازلت أتذكر مشهد في رواية مطار 77 التي قرأتها و أنا في المرحلة الإعدادية و التي ترجمها أحمد خالد توفيق رحمه الله و التي وجد فيها الطيار يقود طائرة بوينج 747 (جامبو) قراءة علي أحد العدادات لا تبدو منطقية فطلب من مساعده فحص العداد و المجسات فوجد فيها مشكلة. ما أثار انتباهي أنهم كانوا يقومون بهذا ببرود و هدوء و روتينية. كنت أتوقع أن الطيار حين يجد أمامه عداد يقدم قراءة مريبة أن يتوتر، هذا طائرة قبل كل شيء و ليست دراجة. فيما بعد علمت أن الطائرات بها العديد من العدادات و السينسورز و من المعتاد أن يقدم أحدها قراءة خاطئة مؤقتاً بسبب اختلالات الضغط أو عطل أو أي شيء مشابه و يعتمد الطيار علي الصورة الكلية لكل القراءات أمامه و ما يراه بعينيه من النافذة. فيما يتعلق بزاوية ميل الطائرة فالمألوف أن يكون في كل طائرة سينسور علي كل جانب لإعطاء الطيار فرصة لتقييم الموقف إن قدم واحد منهما قراءة خاطئة و هو ما يحدث كثيرا. حتي في وضع الطيار الآلي، عندما تتعارض قراءة أكثر من سينسور فإن كمبيوتر الطائرة يخبر الطيار و يترك له تحديد ما يجب فعله.
لكن بوينج هنا وضعت سينسور واحد فقط لقياس زاوية ارتفاع انف الطائرة و لم تعتمد عليه كمصدر للقراءات تقدمه للطيار بل إعتمدت عليه كمصدر لقرار تعديل زاوية الطائرة بشكل عدواني بدون حتي انتظار رأي الطيار. كما قلنا المشكلة أصلاً عنيفة بالتالي لجأت بوينج لحل عنيف و للأسف كان قائم علي معلومات من سينسور واحد فقط. بالتالي حين قدم السينسور قراءة خاطئة للكمبيوتر قائلاً إن انف الطائرة ارتفع قام الكمبيوتر بتوجيه أنف الطائرة لأسفل فهوت الطائرة من حالق و الطيار يحاول أن يعدلها بدون فائدة.
لماذا قامت بوينج أصلاً بتصميم طائرة فيها (كلما كانت الأمور سيئة كلما زادت الفرصة لأن تزداد سوءاً) و تفاصيل أخري كثيرة تجارية و قانونية عن الموضوع ليست مجال مناقشتنا هنا، هذه قصة أخري كما كان رفعت إسماعيل يقول. إن كنت مهتماً يمكنك أن تعرف هذه التفاصيل في هذا المقال شديد الروعة.
ما يهمنا هنا هو الصورة العامة لمشاكل التصميم الهندسي التي يمكن وصفها ب (كلما كانت الأمور سيئة كلما زادت احتمالية أن تزاد سوءاً). هذه مشكلة عامة في مختلف فروع الهندسة و ليست حكراً علي المفاعل السوفيتي كما سنري.
كلما كانت الأمور سيئة كلما زادت فرصة أن تزداد سوءاً - النسخة السوفيتية
في التفاعل النووي يضرب نيوترون ذرة فتنشطر و تخرج نيوترونات أخري تضرب ذرات أخري فتنشطر و هكذا، هذا هو التفاعل المتسلسل الذي يعرفه الكل.
إن كان النيوترون بطيئاً عجز عن شطر الذرة. إن كان سريعاً اخترقها و تركها كما هي. لابد أن تكون سرعته مناسبة. ظبط سرعة النيوترون يسمي تنظيم moderation.
في مفاعل تشيرنوبل يسيل الماء بين قضبان اليورانيوم. يسخن الماء و يتحول إلي بخار يدير التوربينات التي تولد الكهرباء. بدون الماء النيوترون سرعته مثالية تماماً لعمل انشطار رهيب شديد السرعة - يوصف هذا المفاعل بأنه منظم بشدة over moderated بالتالي صارت كل النيوترونات فيه صالحة لشطر الذرة. الماء يقوم بدور الفرامل هنا، يقلل من سرعة النيوترونات قليلاً فيجعل نسبة محترمة منها أقل من السرعة الكافية لعمل انشطار نووي بالتالي يحافظ علي سرعة الانشطار النووي في المعدل المطلوب. هناك أشياء أخري تقلل من سرعة النيوترونات أو تمتصها تماماً مثل الجرافيت المحيط باليورانيوم و قضبان التحكم في المفاعل لكن ما يهمنا هنا هو الماء.
ماذا يحدث عندما تزيد سرعة الانشطار بسبب رفع قضبان التحكم كما حدث في التجربة التي تم إجراؤها في المفاعل؟ يتحول الماء إلى بخار بكمية كبيرة. البخار يوصف بأنه فراغ void، بدلاً من أن يكون هناك ماء يقلل من سرعة النيوترونات صار عندنا فراغ يسمح للنتيوترونات أن تتجه بسرعة ملائمة لأن تشطر الذرة. المزيد من الإنشطار تعني المزيد من الحرارة مما يتسبب في المزيد من الغليان الذي بدوره ينتج المزيد من الفراغ و هكذا دواليك حتي يخرج المفاعل عن السيطرة. يسمي هذا positive void coefficient بمعني أن في هذا التصيم تكون للفراغات وسط الماء أثر إيجابي علي زيادة الإنشطار.
كما فعلت بوينج بدلاً من تجنب تصميم فيه هذه المشكلة من الأساس اختار السوفيت (ترقيعها). الترقيع كان في صورة كتيب تعليمات لمن يدير المفاعلات بأن لا يرفع قضبان التحكم عن حد أقصي معين. هم يعتمدون علي أن تكون قضبان التحكم التي تمتص النيوترونات فعالة بشكل أساسي في منع كارثة كهذه. هي ليست مجرد قضبان للتحكم في كمية الحرارة و بالتالي كمية الكهرباء التي ينتجها المفاعل، هي أيضاً مانع لكارثة. بالتالي رفعها تماماً في التجربة كان واحد من العوامل التي أدت لهذه الكارثة.
مثل بوينج المشكلة لها أبعاد كثيرة متشابكة، لا يمكن أن تصل لكارثة بهذا الحجم بسبب واحد فقط مهما كان هذا السبب لكننا هنا نركز علي نوعية واحدة من المشاكل الهندسية الأساسية في هذه النوعية من الكوارث.
الفشل الآمن
تعمل فرامل القطار بضغط الهواء. عندما يرغب سائق القطار في إيقاف القطار يفتح محبس يندفع من خلاله الهواء المضغوط ليضغط المكابح و يوقف العجلات. لكن ماذا يحدث إن انقطع خرطوم الهواء المضغوط؟ هل يصبح القطار بدون فرامل؟
في الواقع تعمل فرامل القطار بشكل عكسي لما قلته. هناك زنبرك(سوستة) تضغط فرامل القطار علي العجلات بشكل دائم. عندما يدور محرك القطار و يدير مضخة ضغط الهواء يدفع الهواء المضغوط الزنبرك بعيداً و يسمح للعجلات بالحركة. بالتالي عندما يرغب السائق في إيقاف القطار فإنه يقطع الهواء عن الفرامل بدلاً من أن يدفع الهواء للفرامل. الهواء هو الشيء الذي يمنع الزنبرك من ضغط الفرامل علي العجلات و إيقاف القطار، بالتالي قطعه هو ما يوقف القطار. بالتالي إن حدث أي فشل في منظومة الهواء المضغوط مثل إنقطاع الخرطوم يتوقف القطار بدلاً من أن يصبح عندنا قطار مندفع بسرعة بدون فرامل.
هذه النوعية من التصميمات تسمي تصميمات الفشل الآمن fail safe design بمعني أنه في حالة فشل الجهاز أو الآلة أو النظام فإنه يصير إلي وضع آمن ليس فيه مخاطر. إن فشلت منظومة فرامل القطار بسبب إنقطاع خرطوم أو تلف مضخات ضغط الهواء يتوقف القطار. قطار متعطل ليس شيء لطيف لكنه آمن، لن يفقد أحد من الركاب حياته، لكن قطار مندفع بدون فرامل كارثة محققة.
في المفاعلات النووية هناك تصميمات تفشل فشلاً آمناً. بدلاً من أن يكون النيوترون سرعته مثالية للانشطار النووي و نحتاج الماء لإبطائها قليلاً، فإن تصميم المفاعل يجعل سرعة النيوترون سريعة للغاية و نحتاج للماء لجعلها ملائمة للانشطار النووي. هذه مفاعلات منظمة بقدر ضئيل under moderated بالتالي نسبة بسيطة من النيوترونات فيها تستطيع أن تسبب إنشطار. الماء هو ما يسمح بتقليل سرعة هذه النيوترونات للدرجة المطلوبة لحدوث إنشطار.بالتالي إن حدثت مشكلة و بدأ المفاعل في الخروج عن السيطرة و تحول الماء إلي بخار بمعدل كبير، بسبب أن قضبان التحكم تم رفعها بالخطأ أو لأي سبب آخر، فإن الفراغ الذي يكونه البخار يعني أن الكثير من النيوترونات ستصير شديدة السرعة بقدر لا يسمح لها بشطر الذرة، بالتالي يهدأ التفاعل النووي من نفسه، حتي عندما تفشل منظومة التحكم بأكملها، حتي إن اختفت قضبان التحكم بالكامل فجأة. هذا هو المفاعل الذي يكون للفراغ فيه أثر سلبي علي الإنشطار و ليس أثر إيجابي negative void coefficient. هذا هو الفشل الآمن في المفاعلات النووية.
المفاعلات النووية الأمريكية كانت فيها هذه الخاصية. الأمر ليس سراً و السبب الذي دفع السوفيت لتصميمهم هو أنه رخيص، رخيص في تكلفة إنشاؤه و تكلفة تشغيله، فقط لا أكثر ولا أقل.
بالتالي يعتمد من ينادون بأمان المفاعلات النووية علي تصميم لا يسمح أصلاً بإنفجار المفاعل، تصميم يعتمد علي قواعد الفيزياء نفسها و ليس علي الثقة في البشر أو المصادفات. الناس تنادي بتصميم يفشل فشلاً آمناً يصبح فيه فشل المفاعل النووي يعني إنقطاع الكهرباء و توقف المفاعل و ليس إنفجاره.
هل يجب أن نثق في ادعاءات الأمان؟
في أواخر السبعينات حدث إنصهار لقلب مفاعل نووي مفاعل أمريكي. كانت حادثة صغيرة مقارنة بتشيرنوبل طبعاً لكنها كانت عملاقة وقتها، تشيرنوبل لم قد إنفجر وقتها بالتالي تصور الناس عن الكوارث النووية كان محدوداً. من المتوقع أن يستغل السوفيت الفرصة للتشنيع علي الأمريكيين و إهمالهم و غباؤهم، الخ. لكن الظريف أن السلطات السوفيتية فرضت تعتيم علي هذه الحادثة داخل الاتحاد السوفيتي، لا ذكر لها في كل وسائل الأخبار.
السبب أن السوفيت كانوا يسوقون لفكرة أن الذرة صديقة لنا، الذرة في السلم و ليس في الحرب. بريبيات كانت تسمي مدينة الذرة (Atomgrad) لأنها كانت تتمحور حول المفاعل و ارتبط هذا بصورة المدينة المثالية التي حاول السوفيت صنعها فيها (حمامات السباحة و المدارس و الحدائق و الأشجار المعتني بها في الشوارع). ليست هذه مدينة سوفيتية عادية مقارنة بما عرف عن تقشف السوفيت و حياتهم الخشنة. المدينة كانت جزء من صورة كبيرة للغاية من الدعاية السوفيتية للذرة الآمنة. علي مبني من عشر طوابق مواجه للميدان الرئيسي كتب باللغة الأوكرانية العبارة التي صكتها وزارة الكهرباء و الطاقة و وزعتها في كل مكان (فلنجعل الذرة عاملاً و ليس جندياً).
“لنجعل الذرة عاملاً و ليس جندياً” علي مبني يطل علي الميدان الرئيسي في بريبيات
في أثناء محاكمة المسئولين عن الإنفجار كانت من ضمن التهم الموجهة لهم (خرق قواعد السلامة في منشأة عرضة للإنفجار). كانت هذه لعبة قانونية خطيرة لأن أحداً لم يجرؤ علي تصنيف المفاعلات النووية السوفيتية علي أنها عرضة للإنفجار أصلاً ! و بالفعل تساءل أحد المتهمين في أثناء المحاكمة عن أي ورقة رسمية تقول أن المفاعل عرضة للإنفجار من الأساس و بالطبع تم إبتلاع تساؤله. من صمموا المفاعل كانوا يعرفون مشاكله لكن لم يتم إعلام القائمين علي تشغيل المفاعل بها. القائمين أهملوا في الالتزام بالتعليمات لكن حاول أن تتخيل مثلاً أنك لم تلتزم بتعليمات إستخدام الخلاط. أسوأ ما سيحدث في توقعك هو أن يتلف الخلاط مثلاً، لكن إن إكتشفت أن الخلاط إنفجر و تسبب في إنهيار المربع السكني الذي تسكن فيه، هل يمكن أن ألومك أم ألوم من لم يخبرك بالتبعات المحتملة لعدم التزام قواعد الاستخدام؟
المفاعلات النووية السوفيتية خصوصاً و المفاعلات النووية كلها عموماً حتي الأمريكية منها كانت تسوق في الاتحاد السوفيتي علي أنها مصدر للخير بدون أي مخاطر من أي نوع.
بالتالي ما الذي يجعلنا نثق اليوم في شخص ما يعلن أن هذا التصميم أو ذاك آمن؟ يمكنه أن يتكلم كما شاء عن الفشل الآمن Fail safe لكن القائمين علي تشغيل تشيرنوبل و كلهم من المتخصصين و ذوي الخبرة الطويلة لم يعرفوا المشاكل التي كانت في تصميمه، فقط العلماء الذين صمموه كانوا يعرفوها. لا تتوقع من الناس أن تكون كلها علماء، السياسيين و الصحفيين و كل من سيدفع بإتجاه استخدام المفاعلات النووية أو عدمه لا يمكنه أن يحكم علي سلامة التصميم و سيثق في شخص ما أو مجموعة أشخاص محدودين. هل تبلغ الثقة بهؤلاء الأشخاص القدر الكافي لموضوع بهذا القدر من الخطورة؟
مشاكل أخري
بجانب خطورة الإنفجار هناك مخاطر أخري للمفاعلات النووية بالطبع. الناس كلها تفكر في الإنفجار فقط كلما ذكرت المفاعلات النووية و لحادثة تشيرنوبل دور كبير. لكن ماذا عن مجرد تسرب للمواد المشعة مثلاً للمسطحات المائية أو للهواء؟ ماذا عن إنصهار المفاعل كما حدث في أمريكا في السبعينات؟
تخبرني زميلة كانت تعيش في لكسمبورج منذ فترة قليلة أنها وجدت شخصاً يطرق الباب عليها ففتحت فوجدت موظفين حكوميين يعطونها أقراص يود و يخبرونها أن تجعله معها إحتياطياً! اليود المشع هو أحد أخطر نواتج الإنفجارات النووية لأن الجسم يمتصه و يترسب في الجسم و يظل يعرض الجسم للاشعاع من الداخل. الوقاية منه هو أن تجعل الجسم يتشبع باليود العادي حتي يأخذ ما يحتاج و زيادة بالتالي لا يتمص المزيد من اليود من الماء او الطعام الملوث بالأشعاع. لكسمبورج ليس بها مفاعلات نووية، الشعب عارض الفكرة في السبعينات لكنها مجاورة لفرنسا و بلجيكا بالتالي يمكن للحوادث النووية فيهما أن تؤثر مباشرة علي لكسمبورج. في الواقع إنشاء فرنسا لمفاعل نووي كبير قرب الحدود مع لكسمبورج في 1979 تسبب في أزمة ديبلوماسية بين البلدين.
بالتالي حتي و إن سلمنا بأن المفاعلات النووية ذات التصميم الجيد لا تنفجر إلا أن هذا لا يجعل الحياة وردية تماماً و خالية من المخاطر.
بجانب هذا هناك أشياء صعبة مثل التخلص من النفايات النووية و تفكيك المفاعل بعد أن ينتهي عمره الأفتراضي.
هل تفضل الموت حرقاً أم غرقاً
مؤيدي المفاعلات النووية ينادون بأن الاحتباس الحراري واقع بالفعل. نحن لا نقارن بين المفاعلات النووية و حل خالي من المشاكل. أصلاً عدد من يموتون بأمراض ناتجة عن التلوث الناتج عن حرق الوقود في محطات توليد الكهرباء بالفحم و الغاز الطبيعي أكثر بكثير من عدد ضحايا كل المشاكل النووية بما فيها تشيرنوبل. هي فقط وفيات غير ظاهرة، ليست جاذبة للإنتباه ولن تقوم HBO بعمل مسلسلات عنها، لكنها تحدث و تحدث بأرقام ضخمة.
دعك من أنه إن لم يمكن اجبار الكل علي إغلاق المفاعلات النووية فلا جدوي من الموضوع. يمكن لألمانيا و هولندا أن لا تنشيء مفاعلات نووية كما شاءت لكن هذا يعطي فقط شعور زائف بالأمان. فرنسا علي الحدود و عندها مفاعلات نووية كثيرة، و لنتذكر أن ما كسر التعتيم الإعلامي السوفيتي علي حادثة تشيرنوبل هو اكتشاف السويديين ارتفاع معدل الأشعاع عندهم. افتح الخريطة و أنظر للمسافة بين أوكرانيا و السويد. التلوث النووي لا يتقيد بحدود الدولة التي يحدث فيها كارثة نووية.
الناس عموماً لا تتعامل مع المشاكل بتعقل عندما يأتي الموضوع للذرة. في دراسة لمسئولين أمنيين أمريكيين تم تصنيف القنابل القذرة علي أنها واحد من أخطر الأسلحة التي يمكن للارهابيين استخدامها ضد أمريكا. فكرة القنبلة القذرة هي تفجير مادة مشعة بمفجر بسيط مثل الديناميت. المواد المشعة موجودة في أجهزة العلاج الاشعاعي لمرضي الأورام، في اجهزة الفحص صناعية التي تبحث عن الشروخ الداخلية في السبائك، بل حتي أنا أمتلك في بيتي أجهزة كشف عن الدخان تعتمد علي مادة مشعة بكمية ضئيلة للغاية. فكرة القنبلة القذرة هي في نشر المادة المشعة في نطاق انفجارها- مربع سكني مثلاً. المشكلة الحقيقية أن الناس طبقاً لتحليل مسئولي الأمن الأمريكيين لن يصدقوا أن التأثير محدود لهذا المربع السكني أو ذاك. إن حدث انفجار لقنبلة قذرة في نيويورك فإن أهل نيويورك كلها سيملئوا كل الطرق الخارجة من المدينة و يجعلوها مدينة أشباح. لن يصدق أي شخص أنه آمن ما دام الموضوع يضم كلمة اشعاع.
حادث تشيرنوبل تأثيراته السلبية لم تتوقف عند الإنفجار و أثاره بل إمتدت للمساهمة في جعل أحد أنجح الوسائل التي كانت يمكن أن تقي البشرية من الاحتباس الحراري و انبعاثات ثاني أكسيد الكاربون حلاً مرفوضاً من قبل الكثيرين. و اليوم نجد دولاً مثل هولندا التي ترفض الطاقة النووية بقوة في معضلة عدم تحقيق الأهداف الأوروبية المتفق عليها لتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ولا تملك حتي خطة لكيفية تحقيقها.