التلاعب بالصورة و الكلمة
يمكن للإعلام أن يغير تفكير و تصور المتلقي عن طريق التلاعب بالألفاظ و الكلمات و الصور. في هذا الجزء سنتعرض سريعاً لبعض أشكال التلاعب بالألفاظ و الكلمات في الإعلام الحديث . لن أقوم بتغطية أساليب التلاعب بالصورة و الكلمة بالتفصيل لأن الأمر يحتاج إلي دراسة منفصلة و سنكتفي فقط بما ينقل الفكرة العامة.
التحيز في إختيار الألفاظ و الصور
حين يقوم فلسطيني بتفجير نفسه في نقطة للجيش الإسرائيلي فإن هناك أكثر من كلمة لوصف هذا الحدث. علي سبيل المثال، البعض يصفه بأنه تفجير إرهابي، البعض يصفه بأنه تفجير إستشهادي، و البعض يصفه بأنه تفجير إنتحاري. كل لفظ من هذه الألفاظ قد يحمل تحيزاً، سواء تحيزاً تجاه الفلسطينيين أو تحيزاً تجاه الأسرائيليين، و يسهم في تغيير رأي المشاهد تجاه الخبر.
الأسوأ من التحيز في الألفاظ هو التحيز في الصورة.هناك سمة عامة في الإعلام الأمريكي عند نقل أخبار قتل الجنود الإسرائيليين يقوم علي وصف الحدث بشكل إنساني مثير للتعاطف بصورة ضخمة. صور الجنود في أثناء حفلات تخرجهم يتم بثها مع صور أهلهم و هم يبكون عليهم أو أثناء دفنهم مما يدفع المرء للتعاطف مع الصورة، و بالطبع نفس الشيء لا يحدث حين يموت الأطفال الفلسطينيين، بل يتم بث الصور التي يمكنها أن تثير أقل قدر ممكن من التعاطف مع الفلسطينيين، مثل تجنب بث صور تظهر الأجساد الممزقة المليئة بالشظايا للأطفال الفلسطينيين و الإكتفاء بصورة وجوههم في صورة تظهرهم و كأنهم نائمين.
لا تقربوا الصلاة
ذكر محللوا الإعلام الأمريكي أن 4% فقط من القنوات الإعلامية الأمريكية تذكر حقيقة أن فلسطين محتلة! بالتالي حين يتم بث خبر عن إنتفاضة في فلسطين أو عملية عسكرية يقوم بها الفلسطينيون فإن الأمريكيين لا يرون سوي أن الفلسطينيين يقومون بأعمال شغب و عنف ضد الإسرائيليين. و لكن لماذا؟ لا يوجد مبرر منطقي من وجهة نظر متلقي الرسالة الإعلامية في أمريكا بسبب المعلومات المبتورة التي يتلقاها و بالتالي فإن خبر مثل هذا لن يؤثر فيه كثيراً أو قد يجعله يميل إلي الجانب الإسرائيلي.
المعاني الخفية للعبارات
قال سيث أكرمان، عضو هيئة الصدق و الدقة في التقارير الإخبارية Fairness and accuracy in reporting-FAIR و هي مؤسسة مستقلة لا تهدف للربح تقدم تقارير حول التحيز في الإعلام، قال أن هناك خطاً عاماً في مختلف قنوات الإعلام الكبري في أمريكا يقوم علي مطالبة الولايات المتحدة بأن تلعب دوراً في القضية الفلسطينية. بالتالي يقوم الإسرائيليين بواحدة من مجازرهم فتخرج CNN أو MSNBC مثلاً لتذيع الخبر و يعقب المذيع في آخره قائلاً إن علي الولايات المتحدة أن تقوم بدور حيال ما يحدث في فلسطين. العبارة لها تأثيرين، التأثير الأول هو الشعور بالحرية التي يتمتع بها الإعلام الأمريكي فهو يلوم الرئيس أو السياسيين علي حيادهم تجاه القضية الفلسطينية بدون خوف، و التأثير التاني و هو الأفدح هو الإيحاء بأن أمريكا لا تتدخل في القضية الفلسطينية و تقف علي جانب الحياد، بينما الفلسطينيين يموتون بسلاح أمريكي، و بينما تقوم أمريكا بكافة أشكال الدعم المادي و العسكري و السياسي لأسرائيل.
مشكلة هذه الطريقة أنك لا تستطيع أن تلوم المذيع أو القناة علي ما يقولون. هم يطالبون الرئيس بالتدخل فقط، لا أكثر ولا أقل، و علي أسوأ الأحوال لا يمكنك إلا أن تتهمهم بالغباء أو الجهل السياسي لأنهم لا يدركون أن أمريكا بالفعل تتدخل في القضية الفلسطينية لصالح إسرائيل، و لكن حين تري أن هذا خط إعلامي منتظم تحافظ عليه القنوات الإعلامية الكبري في أمريكا علي إختلافها فإن الأمر لا يغدو مجرد غباء فردي بل هو إستراتيجية إعلامية مدروسة و موجهة.
الإعلام في الأدب
حظي الإعلام بإهتمام كتاب الروايات، و علي الأخص كتاب روايات الخيال العلمي . قدم عدد من هؤلاء رؤيتهم فيما يخص الإعلام في العصر الحديث، بعض هذه الرؤي كتبت منذ عشرات السنين و ظهر لنا الآن مدي بعد النظر لدي من كتبوها. نظراً لأهمية هذه الروايات سنتحدث عنها هنا و لكن بالكثير من الإيجاز، و سنركز في حديثنا عن هذه الروايات علي الجانب الإعلامي فيها. ليس معني هذا أن هذه الروايات لم تناقش سوي الإعلام، بل فقط الإعلام هو ما يهمنا في هذا المقال.
1984
الرواية الأهم و الأشهر عند الحديث عن الروايات التي تتعرض للإعلام و بالتالي الرواية التي سنتحدث عنها بأكبر قدر من التفصيل. كاتب هذه الرواية هو جورج أورويل، الصحفي و الأديب إنجليزي. الرواية كتبت عام 1948 و تدور أحداثها في عام 1984، و هو ما كان يمثل المستقبل وقت كتابة الرواية. كان أورويل صحفياً عمل في عدد من المستعمرات الإنجليزية و قد إعترض كثيراً علي الطريقة التي تتم بها صياغة الأخبار و المقالات بشكل يخدم مصالح إنجلترا. يمكننا أن ننظر لما في الرواية من بعد نظر علي أنه مبني علي ما رآه أورويل في الخط الإعلامي وقتها و الإتجاه الذي يسير فيه هذا الخط الإعلامي.
بطل الرواية هو وينستون سميث، الموظف في وزارة الإعلام، التي تم تغيير إسمها في المستقبل إلي وزارة الحقيقة. الرواية تدور في مناخ سياسي قمعي، يحكم البلاد فيه حزب ليس له إسم، و يكتفي بالإشارة إليه علي أنه “الحزب” و يرأس الحزب و الدولة شخص يسمي الأخ الأكبر. في كل مكان و أينما سار المرء يري صور للأخ الأكبر، و هي صور لشخص جامد الملامح له شارب كث، تحتها العبارة التي خلدت في الأدب العالمي (الأخ الأكبر يراقبك Big Borther Is Watching You). لم ير أحد الأخ الأكبر أبداً و علي الرغم من هذا صوره في كل مكان مع التذكير بأنه يراقبك. بعد هذا أثناء الرواية نكتشف أن الأخ الأكبر شخصية وهمية. الحزب هو من يحكم البلاد بالفعل و لكن البشر يتأثرون بالصورة أكثر من تأثرهم بكيان مثل الحزب، لهذا إبتكر الحزب هذه الصورة الوهمية و ملأ بها عقول الناس ووجدانهم، و صار الولاء الرئيسي في البلاد هو ولاء لوهم. لاحظ أنه وقت كتابة الرواية لم يكن التليفزيون قد ظهر بعد و لم يكن التصوير بنفس قدراته و إنتشاره اليوم، إلا أن أورويل إستطاع أن يفهم أن الصورة أكثر تأثيراً بكثير من أي شيء آخر في نفوس البشر.
في هذه القصة نري مصطلح (جريمة تفكير Thoughtcrime) و هي جريمة أن يفكر المرء، مجرد تفكير، في أي شيء ينافي المباديء العامة التي يدعو إليها الحزب، و من ضمن الأهداف الهامة للحزب أن يمنع كل ما يمكن أن يؤدي إلي جريمة تفكير.
وظيفة بطل الرواية هي التعديلة التاريخية Historical Revisionism، و هو مصطلح يعني مراجعة تفسير الأحداث التاريخية المختلفة، و هو نشاط مألوف يقوم به المؤرخين، إلا أن وزارة الحقيقة حين تعدل التاريخ فإنها تحذف كل ما يسيء إلي الحزب أو كل ما فيه إشارة للحركات المضادة للحزب من أي كتاب أو جريدة تم نشرها في الماضي. قد يري البعض أن هذا لا يتم في الإعلام الحديث، إلا أنه يتم بشكل مخلتف. كما قلنا عند الحديث عن التليفزيون، فإن المشاهد الذي يري الأخبار و المعلومات المتفرقة الغير مترابطة لا يمكنه أن يكون رأي مبني علي المعلومات التاريخية التي يعرفها.أورويل كان محقاً في الإشارة لأحد الأهداف التي يسعي الإعلام في النظم السياسية الفاسدة لتحقيقها، إلا أنه لم يكن مصيباً في تصور الوسيلة التي يتم بها تحقيق هذا الهدف.
من ضمن النقاط العبقرية التي أشار لها أورويل فكرة أن هناك في وزارة الحقيقة بعض العاملين الذين كانوا ينشئون لغة تسمي الكلام الجديد New Speak. ، و هو كلام يهدف إلي تقليل جرائم التفكير عن طريق تغيير مصطلحات اللغة و إنشاء قاموس جديد للغة الجديدة. بعد الإنتهاء من إنشاء قاموس اللغة الجديدة سيتم تحويل كل الأعمال الأدبية و الفكرية مثل مسرحيات شكسبير و قصائد ميلتون إلي اللغة الجديدة. هناك عدة مباديء تقوم عليها اللغة الجديدة مثل:
1-تقليل قواعد اللغة الإنجليزية و تبسيطها. الأمر يجعل تفكير الناس بسيطاً و سطحياً و يحد من قدرتهم علي التفكير في أفكار معقدة.
2- إزالة كل الكلمات التي تحمل معاني مزدوجة أو قد تؤدي لأفكار لا يرغب الحزب في تكونها لدي الناس. الكثير من الكلمات المتعلقة بالرفض يتم إلغاؤها تماماً من اللغة أو إستبدالها بكلمات تحمل درجة أقل من الرفض.
ربما تبدو فكرة حذف الكلمات من اللغة فكرة مبالغ فيها، و لكن في عام 2001، قامت شبكة CNN بتوزيع مذكرة علي مراسليها في إسرائيل تأمرهم فيها بعدم إستخدام كلمة مستوطنة Settlement عند الحديث عن المستوطنات الإسرائيلية و إستخدام كلمة مجاورة neighborhood بدلاً منها، و هي كلمة تحمل إيحاءاً واضحاً بالسلام و الجيرة. بالتالي حين يتم بث خبر تفجير في مستوطنة إسرائيلية فإن الأمر تبثه علي أنه تفجير في مجاورة إسرائيلية. التأثير الذي يصل للمشاهد هو أن الفلسطينيين الأشرار يقومون بالتفجيرات في مكان يعمه السلام و المودة ليحيلوه حطاماً و أشلاءاً. بالتالي يمكننا أن ننظر للأمر علي أن كلمة مستوطنة هي كلمة تم حذفها من قاموس CNN .
3-وضع إختصارات للكثير من الكلمات مما يفقدها تأثيرها و معناها في نفوس الناس بالتدريج، مثلاً كلمة الإشتراكيين الإنجليز English Socialists يتم إختصارها إلي IngSoc .
ربما يري البعض أن الفكرة تحمل بعض المبالغة، إلا أن الجيش الأمريكي حالياً يستخدم الإختصارات للتعبير عن الخسائر البشرية في العمليات العسكرية. كلمة مفقود أثناء العملياتMissing In Action يتم إختصارها إلي MIA، مقتول أثناء العمليات Killed In Action يتم إختصارها إلي KIA، متغيب بدون إذن Absent Without Leave(و هي عبارة تستخدم للتعبير عن من يهربون من الحرب أو العمليات العسكرية) يتم إختصارها إليAWOL . بالتالي في التقارير الإخبارية بدلاً من أن يتحدث المذيع عن أن لدينا في العراق كذا قتيل يقول لدينا كذا KIA، و تدريجياً يقل تأثير العبارة في نفوس المستمعين لأن كلمة قتيل تم التجاوز عنها.
من ضمن النقاط الأساسية في القصة أن البطل حين بدأ يرفض ما يحدث حوله، يرفض الأخ الأكبر و يرفض السيطرة المطلقة للحزب و تزوير الحقائق، فإنه يجد نفسه وحيداً لأن أحداً ممن حوله لا يشاركه نفس الأفكار، و هو الوحيد الخارج عن هذا القطيع. هذا أيضاً تأثير أساسي من تأثيرات الإعلام حديثاً، فكرة أنك إن خرجت علي الخط العام للتفكير الذي يبثه الإعلام فإنك ستشعر بأنك وحيد لأن الجانب الآخر لا ينقله الإعلام، أنت لا تري في الإعلام إلا كل من يخالفك الرأي بالتالي تتردد كثيراً في التعبير عن رأيك و الدفاع عنه و العمل من أجله.
ناعوم تشومسكي، أستاذ اللغويات في معهد ماساشوستس للتقنية و الناشط السياسي و الإعلامي، قال إنه قبل الحرب علي العراق بثت القنوات الإعلامية الأمريكية عدد كبير من اللقاءات مع سياسيين و إعلاميين و عسكريين يناقشون فكرة الحرب علي العراق. فقط إثنان من هذه اللقاءات كان مع شخصيات ترفض الحرب و ما يزيد عن ثلاثمائة لقاء كان مع شخصيات تؤيد الحرب، علي الرغم من كثرة الخبراء و السياسيين و الإعلاميين الذين كانوا يرفضون الحرب، إلا أن شكل من أشكال الفلترة تم لتخرج الصورة للمواطن الأمريكي أن كل الناس تؤيد الحرب، بالتالي يتردد من يرفضون الحرب في التعبير عن رأيهم أو يغيروا رأيهم كلية.
سنتوقف عن الحديث عن 1984 هنا، و أكرر مرة أخري، هذه الرواية كان بها الكثير من العبقرية في نقاط أخري لا تتعلق بالإعلام، نقاط تتعلق بالخط السياسي للنظم القمعية، نقاط تتعلق بوصف المشاعر الإنسانية لشخص يعيش في مثل هذا المجتمع و يحاول وحيداً أن يرفض ما يري و يسمع، الخ. ما تحدثت عنه هنا هو ما يتعلق بالإعلام في هذه الرواية و ليس كل ما في هذه الرواية من أشياء مهمة.
451 فهرنهايت
451 فهرنهايت هي رواية لراي برادبوري أديب الخيال العلمي الأمريكي و التي كتبها عام 1951. تدور الرواية في المستقبل في سنة غير محددة. بطل القصة يعمل كرجل حريق، و هو شخص وظيفته أن يحرق الكتب. في هذا المجتمع يصير إمتلاك الكتب جريمة يعاقب صاحبها بالإيداع في مستشفي للأمراض العقلية علي أفضل الفروض، و من هنا يأتي إسم الرواية، ف 451 فهرنهايت هي درجة حرارة إحتراق الكتب. نلاحظ هنا أن الكتب هي وسيلة الإعلام الوحيدة الممنوعة لأنها، بحسب الرؤية السياسية السائدة في هذا المجتمع، تنشر الأفكار مما يتسبب في الكثير من الخلافات الفكرية و العقائدية بين الناس. كل وسائل الإعلام الأخري مثل التليفزيون مباحة، في إشارة واضحة لأن التليفزيون لا يكون أفكاراً من أي نوع لدي الناس.
المثير هنا هو شكل المجتمع الذي يتماشي مع فكرة إنعدام الكتب. هو مجتمع فوضوي لا تحكمه أي قوانين تقريباً، حيث يمكن مثلاً للمراهقين أن يصدموا الناس بسياراتهم المسرعة دون مسائلة. هو مجتمع فارغ نفسياً و هش، إنتشر فيه الإنتحار لدرجة أنه صار هناك فنيين متخصصين فقط في إسعاف المنتحرين، لم يعد الأمر يحتاج لنقل المنتحر إلي المستشفي بل صار الأمر روتينياً كتركيب هوائي التليفزيون. حين ينتحر شخص تعرفه تتصل بالإسعاف و هم سيرسلون فنياً معه الأجهزة الضرورية لإنقاذ هذا المنتحر، و هي عملية يقوم بها الفني بملل و هدوء لكثرة ما يراه من محاولات إنتحار.
من ضمن النقط الهامة هنا هو أن زوجة بطل القصة شخصية تقضي وقتها كله أمام التليفزيون تتابع برامج المسابقات التافهة و مختلف البرامج الترفيهية. هنا نري التغير الذي طرأ علي شخصيتها فصارت إنسانة تافهة و عديمة الذاكرة، لا تستطيع أن تتذكر أي شيء من فرط الأشياء الغير مترابطة التي إعتادت أن تراها علي التليفزيون، حتي أنها حين تحاول الإنتحار و يتم إنقاذها تستيقظ في اليوم التالي و قد نست أنها حاولت الإنتحار و تكمل حياتها اليومية و كأن شيئاً لم يحدث. هذه من الأشارات الهامة في ما يتعلق بتأثير الإعلام و فكرة أن التليفزيون يقضي علي التاريخ، يقضي علي قدرة الناس علي التذكر لأنه لا يعودهم علي تكوين صورة كاملة مترابطة للأحداث التاريخية. بالطبع الأمر يضم قدراً من المبالغة من جانب الكاتب و لكن المهم هنا هو الإشارة لهذه الحقيقة. لاحظ أن القصة كتبت عام 1951، حيث كان التليفزيون جديد نسبياً و لم يكن خطه الإعلامي القائم علي التركيز علي الصورة، الترفيه و المعلومات القصيرة الغير مترابطة قد ظهر بالدرجة التي هو عليها اليوم، و علي الرغم من هذا كان برادبوري من الذين رأوا ما لم ينتبه له الآخرون.
يتغير مسار القصة تتدرجياً و يتحول بطل القصة لشخص يدرك أهمية الكتاب و يحاول أن يحافظ علي الكتب فيصبح مطارداً من الشرطة، و تنتهي القصة بإنهيار هذا المجتمع و تشير إلي بداية نشوء مجتمع جديد علي أكتاف أولئك الذين كانوا يحتفظون بالكتب ولو بحفظها في أذهانهم.
خاتمة
قد يري البعض أن مشاكل التضليل الإعلامي و تأثير الإعلام في الناس حلها أن لا يصدق الناس وسائل الإعلام بشكل مطلق، أن يعمل المرء عقله فيما يري و يسمع و يكون ذو عقلية ناقدة تفكر قبل أن تصدق. المشكلة أن المرء لا يستطيع أن يكون متشككاً علي الدوام، إن قضي المرء وقته كله يفكر في صحة ما يري و يسمع فلن يتبقي له وقت ليفعل أي شيء بناء علي ما سمع و رأي بالفعل. برتراند راسل الفيلسوف و عالم الرياضيات الإنجليزي يقول “إن عقلاً متشككاً علي الدوام هو عقل فارغ علي الدوام”. لاحظ أن هذه عبارة من شخص ملحد، بمعني أنه تشكك حتي في وجود الله، أو بعبارة أخري هو لا يقبل الكثير من الأشياء المسلم بها لدي الكثيرين و يحاول أن يعمل عقله، و لكن لابد للإنسان من مصدر يثق فيه يستقي منه المعلومات و الأخبار و الأفكار، ولا يضيع وقته في التفكير في صحة ما يأتي به هذا المصدر من معلومات و أخبار.
ربما كان الحل هو في تكوين هيئات رقابية من الناس تراقب وسائل الإعلام و تنشر تقاريرها عن المغالطات و التحيزات في وسائل الإعلام مثل هيئة الصدق و الدقة في التقارير الإخبارية في أمريكا. لدينا في مصر عدد من الحركات الشعبية الرقابية التي تحاول أن تفضح الفساد السياسي و المالي مثل حركة 6 أبريل و حركة كفاية، و هي هيئات لا تهدف للربح و قائمة علي نشطاء يتبرعون بوقتهم و مجهودهم. نفس الشيء يمكن عمله بالنسبة للإعلام، حيث يمكن تكوين حركات شعبية تراقب وسائل الإعلام المخلتفة و تحاول أن تبين للناس عدم المصداقية أو التلاعب في التقارير و الحقائق و الصور.
حل آخر قد يكون تكوين وسائل إعلام مستقلة لا تهدف للربح، قنوات تليفزيونية أو جرائد تهدف فقط إلي تغطية نفقاتها و أجور العاملين بها. الفكرة ليست جديدة تماما، فالكثير من الجامعات الشهيرة في العالم تتبع هذا الأسلوب.
تطبيق هذه الفكرة في الإعلام يمكن أن يسمح بالكثير من التحرر الإعلامي. مشكلة الإعلام هي التمويل، البحث عن الربح. يمكن للحكومات أن تمول قنوات تليفزيونية إلا أنها ستهدف إلي تحقيق الأهداف السياسية لهذه الحكومات (مثل قناة الجزيرة) و لن تتمتع بالحياد التام.هناك وسائل إعلام تهدف للربح لهذا ستقدم للجمهور ما يحظي بقبول لديهم بغض النظر عن مدي فائدته أو مدي ملائمته للقيم و الأخلاق (مثل الأفلام التافهة أو مشاهد العري في الأفلام). وجود صحف و قنوات لا تهدف للربح و مستقلة يعطي الكثير من الحرية للقائمين عليها في تقديم ما يرونه مفيداً و هاماً للمشاهد أو القاريء من معلومات أو أخبار، بدون البحث عن نسبة مشاهدة عالية (و بالتالي المزيد من الإعلانات) أو محاولة إرضاء الممولين.