الكتاب
الرسالة التي يستطيع الكتاب أن يحملها
كما قلنا فإن كل وسيلة إعلام تستطيع أن تنقل رسالة معينة و تحدث تأثيراً معيناً لدي القاريء فما هي الرسالة الفكرية أو الشعورية التي يستطيع الكتاب أن ينقلها؟
أي جملة لا يمكن إلا ان تكون نقلاً لحقيقة أو إثارة لسؤال أو شرح لفكرة معينة، بخلاف وسائل إعلام أخري مثل الصورة التي قد لا تعبر عن أي من هذه الأشياء. لهذا تتميز الكتب بأنها وسيلة إعلام تنمي عادات لها علاقة بالتفكير و التحليل المنطقي للأمور، و تصلح لنقل الأفكار العميقة الصعبة و مناقشتها.
لكي يقرأ المرء كتاباً فإن هذا يسلتزم أن يكون بمفرده (نادراً ما يقرأ الناس كتاباً في مجموعات)، ينظم معلوماته بحيث يستدعي من ذاكرته ما له علاقة بما يقرأ و يهمل ما لا علاقة له بموضوع الكتاب، و يستخدم ما لديه من معلومات سابقة في قبول أو رفض ما يقدمه الكاتب من أفكار، و هو ما يسمه والتر أونج - الفيلسوف و أستاذ الأدب الإنجليزي- الإدارة التحليلية للمعلومات.
حين يبدأ المرء في قراءة موضوع في كتاب فإنه لا يستطيع أن يقاطع الكاتب أو يناقشه فيما يقول مما ينمي عادة الإستماع لكل ما لدي الآخر و تأجيل تكوين الآراء حتي النهاية، إذ أنه أثناء قراءة الكتاب و حين تثور في ذهن القاريء أسئلة معينة فإنه يحتفظ بها في ذهنه حتي تأتي فقرة أو عبارة تجيب علي أسئلته . الكتاب يسمح بمناقشة أفكار معقدة بمقدمات و نتائج و دلائل تدفع المرء للتفكير فيما يسوقه الكاتب من مبررات تبرر فكرته و ما يدعو إليه، و تنمي لدي القاريء القدرة علي التفكير في الأفكار و المعاني المجردة الغير مادية (مثل الحقيقة و الخير و الظلم) و مناقشتها بدون أن ترتبط هذه المعاني بأشياء أو صور مادية.
للكتاب أيضاً بعض التأثيرات التي يراها البعض سلبية، علي سبيل المثال الكتب أحد الأشياء التي تدفع للعزلة لأن المرء عادة ما يقرأ وحيداً في مكان هاديء مما يؤدي إلي تقليل الشعور بروح الجماعة التي كانت سائدة في الماضي قبل إختراع الطباعة و إنتشار الكتب بين الناس، حيث كان الناس يتناقلون المعلومات و يناقشون أفكارهم في لقاءات مع بعضهم البعض في مختلف الأماكن (في الحانات في أوروبا في العصور الوسطي أو في الكنائس أو في المساجد أو في أي مكان يتجمع فيه أهل المدينة أو القرية).
من ضمن التأثيرات التي قد يراها البعض سلبية أن الكتاب ينمي لدي المرء عادة التفكير فيما يقدمه الكاتب من أفكار بغض النظر عن مدي بلاغة الكاتب و حسن تنسيقه للألفاظ و هو ما يسميه برتراند راسل (مناعة ضد البلاغة). قد يري البعض أن هذه نقطة إيجابية إلا أن إنتشار الكتب بعد إختراع الطباعة إرتبط بإنخفاض أهمية الشعر في حياة الناس. الشعر في المقام الأول قائم علي البلاغة و يستخدم لتحريك المشاعر أكثر من نقل الأفكار و يلتصق بالأذهان بسهولة أكثر من الكلام العادي مما جعله وسيلة مناسبة للتأريخ قبل أن يعتمد الناس علي تسجيل التاريخ و الأحداث في الكتب. الشعر كانت له مكانة هامة لدي اليونانيين، الرومان، العرب و الأوربيين حتي العصور الوسطي. عندما ظهرت الطباعة و إنتشرت الكتب إنخفضت أهمية الشعر و بعد أن كان الشعر يتداوله عامة الناس صار شيئاً يهتم به الصفوة من محبي الأدب. كارل ماركس فيلسوف الشيوعية الشهير عبر عن هذه الفكرة قائلا:”هل يمكن أن ننتج ملحمة مثل الإلياذة في عصر الطباعة؟ أليس من المحتوم أن يختفي إنشاد الشعر و حكي القصص و التأمل الشاعري مع ظهور الطباعة، بمعني أن الأشياء الضرورية لإنتشار الشعر الملحمي تختفي؟"
تأثير الكتب علي مجتمع بأكمله
لندرس تأثير الكتب علي مجتمع بأكمله فلابد من أن نبحث عن مجتمع كان الكتاب هو وسيلة الإعلام الأساسية في تكوين أفكاره و معتقداته. تعتبر أمريكا في القرن السابع عشر و الثامن عشر نموذجاً لمثل هذا المجتمع، فقد كانت نسبة مجيدي القراءة بين الرجال في السنوات من 1640 إلي 1700 في ولايتي ماساشوستس و كونيكتيكت تراوح بين 89 و 95 بالمائة و كانت النسبة بين النساء 62 بالمائة تقريباً، و هي أعلي نسبة إجادة قراءة في العالم في ذلك الوقت (نسبة إجادة القراءة في نفس الوقت في إنجلترا بين الرجال كانت 40 بالمائة).
الإحصائيات توضح أن 60 بالمائة من المنازل في مقاطعة ميديلسيكس بين عامي 1654 و 1699 كانت تحتوي كتباً، 52 بالمائة منها كانت تضم كتباً أخري بخلاف الإنجيل و 8 بالمائة منها تضم الإنجيل فقط. بين عامي 1682 و 1685 بلغت كمية الكتب التي إستوردها أكبر بائعي الكتب في بوسطن من ناشر واحد فقط 3421 كتاباً، كلها كتب غير دينية. يمكننا أن نقدر إرتفاع نسبة الكتب الأجنبية بالنسبة لعدد السكان لو عرفنا أن هذه الكتب كانت تستهدف 75000 شخص هم عدد سكان الولايات الشمالية كلها . لو حسبنا نفس نسبة الكتب بالنسبة لعدد سكان الولايات الشمالية اليوم لوجدنا أن مثل هذا البائع عليه أن يستورد 12 مليون كتاب من ناشر واحد فقط.
المهاجرين إلي أمريكا في هذه الفترة بالذات كان معظمهم من الإنجليز المتعلمين – ربما يظهر هذا في إسم منطقة نيو إنجلند التي تعني إنجلترا الجديدة التي تضم 6 ولايات- و الذين نشئوا بالفعل علي أهمية القراءة و جاؤا بهذا المبدأ معهم إلي العالم الجديد.هم قوم جاؤا من المناطق التي يرتفع فيها نسبة التعليم في إنجلترا، مناطق كانت بها مدرسة كل 12 ميل تقريباً، لهذا كانت القوانين في هذه الفترة في نيو إنجلند تحتم علي كل مدينة أن تكون بها مدرسة للقراءة و الكتابة و في المدن الكبيرة أن تكون بها مدرسة لتعليم قواعد اللغة الإنجليزية.
من ضمن نتائج هذا أنه في هذا العصر لم تظهر صفوة مثقفة في أمريكا بل كانت الثقافة و القراءة في كل مكان و علي كل المستويات الإجتماعية و المادية.في عام 1772 كتب أحد الكتاب الأمريكيين “أفقر عامل في ديلوير يري في نفسه القدرة علي تقديم اراؤه في الدين و السياسة مثله مثل أي جنتلمان أو طالب. حب جميع أنواع الكتب إنتشر وسط كل الناس لدرجة أن كل إنسان صار قارئاً”.و لهذا نجد أن كتاب (بديهي Common Sense) لتوماس باين - و هو كتاب سياسي نشر عام 1776 - باع في شهرين مائة الف نسخة. لو حسبنا نسبة المبيعات لعدد السكان لوجدنا أن كتاباً ينشر اليوم في أمريكا عليه أن يبيع 10 ملايين نسخة في شهرين ليصل لنفس نسبة المبيعات.
لنري مدي المصداقية التي تمتع بها الكتاب في أمريكا في هذا العصر سنقتطف جزءاً من مذكرات بينامين فرانكلين العالم و السياسي الأمريكي. في أمريكا في هذا العصر تواجدت طائفة من المسيحيين تسمي دنكرز Dunkers . نشر المتعصبون من الأديان و الطوائف الأخري شائعات و أكاذيب عن معتقدات هذه الطائفة و مبادئها، فارسل فرانكلين رسالة إلي مايكل ويلفار، أحدد مؤسسي الطائفة، يقترح عليه فيها أن ينشر مقالات عن معتقدات هذه الطائفة كرد علي هذه الشائعات. تناقش ويلفار مع أعضاء الطائفة في الفكرة ثم رفضوها و علل هذا الرفض بقوله “عندما أنشئنا مذهبنا أنعم الله علينا و نور بصيرتنا و جعلنا ندرك أن بعض المباديء التي كنا نظنها في الماضي سليمة هي مباديء خاطئة و بعض مما كنا نظنه خطأ هو صواب. علي مر الوقت ينعم الله علينا بالمزيد من الهدي و مازالت مبادئنا و أفكارنا في تحسن مستمر. نحن لا نعلم إن كنا وصلنا إلي نهاية التطور الفكري و نخشي أن فكرنا الروحي و الديني لم يصل بعد إلي درجة الكمال، و لهذا نخشي إن نشرنا فكرنا في مقالات ان نتوهم في أنفسنا أننا وصلنا لدرجة الكمال و أن تأتي الأجيال القادمة و هي تظن أن ما جئنا به شيء مقدس لا يمكن المساس به أو تغييره”
بنيامين فرانكلين تحدث عن هذا الموقف كمثال للتواضع حيث يشكك ويلفار في نفسه و في مدي إدراكه و معرفته للحقيقة، إلا أن الكلمات تحمل أيضاً إدراكاً لفكرة أن كل وسيلة إعلام لها مصداقية معينة في مجتمع معين و بالأخص إدراك لمدي المصداقية التي تحظي بها الكلمة المطبوعة في المجتمع الأمريكي في هذا العصر، و كيف تضفي الكثير من الإحترام و المصداقية علي الأفكار.
بناء علي لهذا يمكننا أن ندرس الحوار العام في هذا المجتمع لنري كيف يؤثر الكتاب في فكر مجتمع بأكمله.
في أكتوبر عام 1854 وقعت مناظرة في ولاية إلينوي بين ستيفن دوجلاس عضو الحزب الديمقراطي و إبراهام لينكولن عضو الحزب الجمهوري. في هذه المناظرة تحدث دوجلاس في البداية لثلاث ساعات ثم جاء دور إبراهام لينكولن، فقال إن الوقت الآن يقترب من الخامسة مساءاً و طبقاً للجدول المحدد للمناظرة فإن أمامه ثلاث ساعات مماثلة للرد علي دوجلاس ثم يختتم دوجلاس بساعة يرد فيها علي لينكولن، لهذا إقترح لينكولن أن ينصرف الجمهور إلي منازلهم و يتناولوا وجبة العشاء ثم يعودوا لإستكمال المناظرة و هو ما حدث بالفعل. هل تتخيل عزيزي القاريء أن يوجد اليوم في أي مجتمع معاصر جمهور قادر علي تلقي سبع ساعات من الحديث و المناظرات السياسية؟ بعد هذه المناظرة بأربع سنوات تنافس دوجلاس و لينكولن علي منصب رئيس الجمهورية و لكن وقت إلقاء المناظرة لم يكن أي منهما مرشح للرئاسة أو حتي عضوية مجلس الشيوخ بل كانت المناظرة تتم كنوع من التثقيف السياسي للجمهور.
لم تكن هذه المناظرة شيئاً إسثنائياً لهذا المجتمع. في المعارض و المهرجانات التي كانت تعقد في الولاية او المقاطعة عادة ما يكون هناك متحدث يلقي خطبة تستغرق ثلاث ساعات في المعتاد و عادة ما كان يتم منح وقت مماثل لشخص يخالفه في الرأي ليلقي خطبة مماثلة في الوقت ليرد فيها علي المتحدث. هذه الخطب كانت خطب بخصوص شئون سياسية أو إجتماعية أو أخلاقية و كثيراً ما كانت يلقيها بعض المشهورين من الأدباء أو السياسيين و المفكرين.
كانت هذه الخطب في المعتاد تركز علي مخاطبة عقلية المستمع و ليس مشاعره. في عام 1958 أقيمت مناظرة أخري بين دوجلاس و لينكولن في إطار تنافسهما علي منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. في هذه المناظرة قال دوجلاس قولاً أعجب الجماهير فإنفجروا في تصفيق طويل، فرد دوجلاس قائلاً :”أصدقائي، الصمت سيكون مقبولاً بالنسبة لي عند مناقشة هذه الأسئلة أكثر من التصفيق، فأنا أريد أن أخاطب حكمكم، فهمكم و إدراككم و ليس حماستكم و إنفعالكم”.
العقلانية في الخطابات التي تلقي لم تكن فقط حكراً علي من يلقون المحاضرات علي الجمهور بل كانت شيئاً أساسياً في كلام رجل الشارع في ذلك الوقت. المؤرخ الفرنسي و المفكر السياسي أليكسيس دي توكفيل في كتابه (الديمقراطية في أمريكا)، و الذي نشره عام 1835، قال : “ إن الأمريكي لا يستطيع أن يجري محادثة عادية و لكنه يستطيع أن يتحاور و يناقش الأفكار بعمق و تفصيل و عادة ما يكون حديثه في صورة خطبة. الأمريكي يتحدث إليك و كأنه يلقي خطاباً علي جمهور من المستمعين و ربما تجرفه الحماسة و يستخدم كلمة (أيها السادة) في كلامه معك”.
بالتالي لم يكن غريباً في هذا المجتمع أن يكون الرئيس السابع و العشرين لأمريكا، وليام هوارد تافت، بديناً يزن ما يزيد عن 130 كيلو جراماً. في هذا الوقت كان الناس يعرفون السياسي بأفكاره و ليس بصورته. قارن هذا بنيكسون الذي قال أنه خسر الإنتخابات أمام جون كينيدي بسبب خطأ من قاموا بوضع المكياج له في مناظرة له أمام كينيدي علي التليفزيون، و الذي قدم نصيحة ذهبية للسيناتور إدوارد كينيدي عندما فكر في ترشيح نفسه للرئاسة تتلخص في أن يفقد 10 كيلوجرامات من وزنه. في عصرنا هذا تلعب الصورة دوراً اساسياً في تكوين قبول الناس للسياسيين رغم أن شكلهم و رشاقتهم ليست لها علاقة بأفكارهم السياسية.
أثر الكتب في رفع ثقافة و عقلانية الناس لم يكن حكراً علي الأمريكيين فقط. الكثير من المفكرين ربطوا عصر التنوير بإختراع الطباعة و إنتشار المطابع في مدن أوروبا الواحدة تلو الأخري. حركة الإصلاح الديني البروتستانتي كانت قائمة علي إنتشار الطباعة لأنه الآن صارت (كلمة الله علي كل منضدة في كل بيت)علي حد تعبير مارتن لوثر، و لم تعد المعرفة بالإنجيل حكراً علي رجال الكنيسة و صار بإمكان أي شخص أن يقرأ الإنجيل دون وسيط. لوثر عبر عن هذه الفكرة بشكل أفضل حين قال: “إن الطباعة هي أعلي و أسمي نعم الله”.حكام أوروبا في العصور الوسطي تنبهوا لقدرة الكتب علي نشر الأفكار و لهذا كانوا أول من فرض نظم الرقابة علي الكتب، مثل إليزابيث الأولي و هنري الثامن الذي جعل التعامل مع الكتابات المارقة من إختصاصات مجلسه القانوني الأعلي، و حتي البابا بول السادس الذي صدر في عهده اول نسخة من “قائمة الكتب المحظورة” و هي الكتب التي يحظر طبعها و نشرها وسط الناس.