مقدمة
يلعب الإعلام دوراً رئيسياً في تكوين أفكار الشعوب و التحكم في سلوكياتها. هذه دراسة من أربع أجزاء نحاول أن ندرس الكيفية التي يؤثر بها الإعلام علي تفكير الناس. عادة ما يستخدم دارسي الإعلام و علم الإجتماع مصطلح “الحوار العام Public Discourse” للتعبير عن الحوارات و المناقشات الدائرة في المجتمع ، و يستخدمون هذا الحوار للدلالة علي المستوي الفكري و الثقافي للمجتمع ككل، فإن كان المجتمع تسوده حوارات يسودها المنطق و الفكر وتدور حول موضوعات هامة (سياسية أو إقتصادية مثلاً) كان هذا دليلاً علي الرقي الفكري للمجتمع ككل و العكس صحيح. في هذا المقال سنحاول أن نوضح تأثير وسائل الإعلام المختلفة علي “الحوار العام” و بالتالي علي فكر المجتمع ككل. سنركز هنا علي الكتاب و التليفزيون بإعتبارهما أكثر وسائل الإعلام تناقضاً،سنتحدث عن أشكال التلاعب الإعلامي باللفظ و الصورة ثم سنتحدث عن روايات خيال علمي شهيرة كتبت في الماضي إلا أنها تنبأت بالكثير من سلبيات الإعلام المعاصر، شكل و هدف و مضمون الرسالة الإعلامية التي يحاول الإعلاميون و الساسة نقلها و تأثيرها علي المجتمع.
ملحوظة قبل أن نبدأ: سأستخدم هنا الكثير من الأمثلة المأخوذة من الإعلام الأمريكي لسببين، أولهما أن الإعلام الأمريكي هو الأكثر إبهاراً و الأكثر تضليلاً في العصر الحديث، لدي الإعلاميين الأمريكيين يصير التضليل عملية منظمة و ليس تضليلاً أبلها لا يصدقه أحد مثل الموجود في عدد لا بأس به من وسائل الإعلام العربية. ثاني هذه الأسباب هو أن الأمريكيين لديهم إحصائيات و تحليل لم أجد لهم مثيلاً فيما يخص الإعلام العربي. هي إحصائيات و تحليلات تتعلق بشكل الرسالة الإعلامية و النسب التي يتم بها ذكر الحقائق المخلتفة، الخ. لا أعلم هل أنا لم أجد مصادر جيدة لتحليل الإعلام العربي أم أن هذه بالفعل نقطة يفتقر لها الإعلام العربي عموماً.
بداية فإننا حين نقول كلمة “وسيلة إعلام” فإننا نقصد أي وسيلة تستخدم لنقل الأقكار و المعلومات. بالتالي فإن الكلام وسيلة إعلام، القاء محاضرة علي جمع من الناس هو وسيلة إعلام. الكتاب و التليفزيون و الإنترنت هي وسائل إعلام و لكنها ليست وسائل الإعلام الوحيدة.
حين ندرس أي وسيلة إعلام يجب النظر إلي نقطتين هامتين تؤثران في أي وسيلة إعلام و في قدرتها علي التأثير في الحوار العام. هاتان النقطتان هما نوعية الرسالة التي يمكن لهذه الوسيلة نقلها و مدي المصداقية التي تتمتع بها هذه الوسيلة لدي المتلقي.
نوعية التأثير التي يمكن لوسيلة الإعلام إحداثه
تختلف وسائل الإعلام في نوعية الرسالة التي يمكنها نقلها. علي سبيل المثال لا يمكنك أن تجري مناقشة فلسفية بإستخدام رسائل الدخان التي كان يستخدمها الهنود الحمر. رسائل الدخان وسيلة إعلام يمكنها أن تنقل الرسائل عبر مسافات شاسعة بسرعة لأنها يمكن رؤيتها من بعيد إلا أنها لا يمكنها إلا أن تنقل معلومات في غاية البساطة(مثل معلومة أن القبيلة تتعرض لهجوم) و لا يمكنها أن تحتوي فكراً و نقاشاً. علي جانب آخر، أفلاطون كان من أوائل من لاحظوا قدرة الكتابة علي نقل الأفكار العميقة و مناقشتها بصورة ممتازة و عبر عن هذا بقوله “إن الكتابة هي بداية الفلسفة”.
الخطبة أيضاً وسيلة إعلام. الخطبة لا تستطيع أن تنقل أفكاراً معقدة و مناقشتها إلا أنها تستطيع أن تستثير حماسة الجماهير و مشاعرها للفكرة التي تتحدث عنها الخطبة. خطب مارتن لوثر كينج لم تحتوي أفكاراً جديدة أو معقدة، فكرة المساواة بين الناس بغض النظر عن لونهم و إلغاء أشكال الظلم و الفساد المختلفة ليست فكرة معقدة أو جديدة، إلا أن إستثارة مشاعر الناس ليعملوا من أجل الفكرة هو ما كان المجتمع الأمريكي يحتاجه و هذا ما قام به مارتن لوثر كينج، و لهذا نجد أن مارتن لوثر كينج إشتهر بخطبه و مؤتمراته و لكنه لم يشتهر بكتب كتبها.
نفس الشيء ينطبق علي الكتب المطبوعة، المجلات، التليفزيون، الخ، كلها وسائل إعلام تستطيع أن تحدث تأثيراً شعورياً أو فكرياً معينا و تعجز عن إحداث تأثيرات أخري. مارشال ماكلوهان الفيلسوف و خبير الإعلام الكندي عبر عن هذه الفكرة بعبارته الشهيرة “الوسط هو الرسالة The medium is the message” و هي عبارة تعني أن الوسط الذي ينقل من خلاله المرء رسالة أو معلومة يحدد بدرجة كبيرة نوع الرسالة التي يمكن نقلها، سواء كانت رسالة فكرية أو شعورية أو مجرد نقل لمعلومة بسيطة.
و هكذا يجب علي المرء حين يدرس وسيلة إعلام معينة أن يفكر في نوعية الرسالة التي يمكن لهذه الوسيلة نقلها.
المصداقية
أحد فروع الفلسفة يسمي “نظرية المعرفة Epistemology “ و هو العلم الذي يهتم بكيفية إكتساب المعلومات و العوامل التي تكون المعتقدات في عقول الناس. تحتل وسائل الإعلام مكانة هامة في هذا العلم لأن الناس تختلف في تقبلها للمعلومة التي تأتي من كتاب، جريدة او نشرة أخبار. البعض يصدق بدون أدني تفكير و البعض قد يرفض تماما و البعض قد يفكر فيما يسمع و يصدقه أو يكذبه بناء علي مدي عقلانية ما يسمع أو يقرأ.
مصداقية وسائل الإعلام و إتخاذها كمصدر للحقيقة و مصدر لمعرفة الصواب من الخطأ يختلف من مجتمع لآخر. علي سبيل المثال، في القبائل البدائية في غرب أفريقيا، حين يحدث خلاف بين شخصين فإنهما يذهبان إلي زعيم القبيلة و يعرضان عليه نقطة الخلاف. هنا يبحث زعيم القبيلة في كل ما يعرفه من أقوال مأثورة و حكم عن قول مأثور أو حكمة تصلح للحكم في هذا الموقف. هذه الحكم و الأقوال المأثورة توارثها رجال القبيلة شفوياً عبر الأجيال. قارن هذا بالنظم القضائية المعاصرة. لا أحد يقبل أن يحكم أحدهم في قضية بقول مأثور تناقله الناس عبر الزمن بل هم يقبلون القوانين المكتوبة في الكتب و الدساتير و مصادر التشريع المختلفة. الفارق هنا أن القبائل البدائية ليست لديها معرفة بالكتابة، مما يكسب المعلومات و الحكم الشفوية مصداقية كبيرة بعكس الحضارة التي عرفت الكتابة، و التي لا يقبل المرء فيها إلا قوانين مكتوبة تم التدقيق عند إصدارها و مناقشتها و درسها و محصها الكثير من رجال القانون.
الطريف في الأمر أن هؤلاء القانونيين الذين يثقون بما هو مكتوب كمصدر للتشريع لا يقبلون أن يدلي أحدهم بشهادته في قضية ما إلا شفوياً لأنه في نظر الكثير من نظم القانون المعاصرة فإن الإدلاء بالشهادة شفوياً يساعد القضاة و المحلفين علي تبين الحقيقة في قول الشاهد بشكل أفضل.هكذا نري أن مصداقية وسائل الإعلام لا تختلف فقط من مجتمع لآخر بل أيضاً من موقف لآخر.
حين تمت محاكمة سقراط، دافع سقراط عن نفسه أمام خمسمائة من المحلفين. بدأ سقراط دفاعه عن نفسه بالإعتذار لأنه لم يعد خطبة منمقة بليغة. وعد سقراط بأن يعرض كل الحقيقة في دفاعه عن نفسه بدون أي شكل من أشكال البلاغة في الحديث، حتي أنه طلب من المحلفين أن ينظروا إليه علي أنه غريب لا يجيد اللاتينة.هذا شخص يحاكم بتهمة قد يتم إعدامه إن ثبتت عليه و يفكر في الخطب المنمقة البليغة ! ربما يثير قول سقراط إعجاب البعض لأنه يعرض الحقيقة للناس بشكل مجرد، إلا أنه بالنسبة لأهل أثينا- الذين إخترعوا السفسطائية – لم تكن البلاغة في القول مجرد وسيلة لتجميل الكلام بل وسيلة لا غني عنها لإظهار الحقيقة. أسلوب التفكير الذي نادي به سقراط المتمثل في التفكير المجرد بعيداً عن تجميل الكلام كان غريباً علي اليونانيين القدماء، ربما لأن الكتابة لم تكن منتشرة في المجتمع اليوناني مما يعطي الكلام البليغ أهمية تفوق أهميته بالنسبة لنا اليوم. حتي بعد سقراط فإن تلميذه أفلاطون قال إن البلاغة هي الوسيلة التي يمكن بها أن تظهر الأفكار السليمة و تكتشف و تناقش. البلاغة لدي اليونانيين القدماء كانت كفيلة بإعطاء المصداقية للأفكار التي يناقشها المرء أو يعرضها و ربما كانت خطبة سقراط الخالية من البلاغة سبباً في عدم إقتناع المحكمة بدفاعه عن نفسه و حكمها عليه بالإعدام.
مصداقية وسائل الإعلام أيضاً تختلف من شخص لآخر في نفس المجتمع. حكي نيل بوستمان، أستاذ الإعلام بجامعة نيويورك أن أحد الدارسين كتب في رسالة الدكتوراه معلومة معينة، و قال أن فلان أخبره بها في مكان كذا في تاريخ كذا و في وجود فلان و فلان. أثناء مناقشة أطروحة الدكتوراه أثارت هذه العبارة إهتمام خمس أشخاص من لجنة المناقشة. قالوا له إن هذا أسلوب الشفوي في نقل المعلومات غير مقبول. قال الدارس أنه ذكر في نهاية أطروحة الدكتوراه ما يقرب من ثلاثمائة مرجع كمصادر لما جاء به من معلومات، لم تحاول اللجنة أن تتأكد منها و من صحة ما ورد فيها من معلومات، فلماذا يرفضون هذه المعلومة بالذات؟ حتي إن أراد أحدهم التأكد من هذه المعلومة فقد ذكر الباحث أسماء الأشخاص الذين يمكن الرجوع إليهم و التأكد منهم من صحة المعلومة.
كان الرد الذي تلقاه هو أنه في العالم الأكاديمي فإن الكلمة المطبوعة تحظي بإحترام أكبر من الكلمة المنقولة شفوياً.عادة ما يفترض أن الكلمة المطبوعة تم التدقيق عند كتابتها و تمت مراجعتها من قبل محررين للكتاب. الكلام الشفوي لا يفترض فيه نفس القدر من الجدية و التدقيق في إختيار الألفاظ. الكلمة المطبوعة تعبر عن الحقيقة بينما الكلمة المنقولة شفوياً هي مجرد شائعة أو نوع من الدردشة، و بالتأكيد يرغب الدارس في أن ينال شهادة مطبوعة بدلاً من إعتراف شفوي من اللجنة بانه نال درجة الدكتوراه !بالطبع قام الباحث بإزالة هذا الجزء من أطروحة الدكتوراه. الكلمة المطبوعة تحظي لدي الأكاديميين بمصداقية أعلي من باقي الناس في المجتمع.
و هكذا يجب علي المرء حين يدرس وسيلة إعلام معينة أن ينظر إلي المصداقية التي تتمتع بها لدي المتلقي.