في أثناء الحرب العالمية الثانية حاول هتلر أن يوقف تقدم الحلفاء ويستعيد ميناء أنتورب في بلجيكا، فقام بعملية عسكرية شاملة هاجم فيها قوات الحلفاء في بلجيكا وفرنسا ولكسمبورج عرفت فيما بعد في كتب التاريخ بمعركة النتوء Battle of the bulge بسبب الطريقة التي تضاغطت فيها الخطوط الأمامية للحلفاء أثناء المعركة في شكل يشبه شكل الوريد المنتفخ البارز أو شنطة الثياب التي امتلأت بالثياب حتى تقوست وانتفخت.
كانت هذه أكثر معركة خسر فيها الحلفاء في الحرب كلها، وكانت معظم الخسائر من نصيب الأمريكيين. من ضمن الجنود الأسري الأمريكيين في هذه المعركة كان كيرت فونيجتKurt Vonnegut الذي سيصير فيما بعد أحد أهم الأدباء في أمريكا والعالم. تم ترحيل الأسري إلى ألمانيا وبسبب امتلاء معسكرات الأسري تم استخدام مجزر لحوم في مدينة دريسدن لسجن هؤلاء الأسري. كان هذا المجزر إسمه المجزر رقم خمسة.
هنا حدث قصف دريسدن.
كانت دريسدن مدينة ثقافية وتاريخية هامة. كانت تسمي بفلورنسا نهر الألب لجمال معمارها وهندستها ومراكزها الثقافية، لكنها لم يكن لها أي أهمية عسكرية لهذا لم تصبها أي غارة سابقة للحلفاء. في هذه الفترة كان الإنجليز يتبعون أسلوب قصف يسمي قصف المساحة Area bombing، حيث يرسلون مئات الطائرات لتفرغ أطنان من المتفجرات على المدن الألمانية بدون تمييز لأي أهداف استراتيجية أو عسكرية. الطيارين الأمريكيين كانوا يختارون أهدافاً عسكرية مثل خطوط نقل البترول وأبار البترول في رومانيا مثلاً وقد تساءل الكثيرين عن جدوى ما يفعله الإنجليز إلا أن قائد الطيران الإنجليزي خرج أكثر من مرة ليصرح بأنه يهدف لأن يكسر الشعب الألماني. هذا مفهوم لإن هتلر آذي الإنجليز كثيراً بغاراته بينما لم تصب غاراته الأمريكيين لأنهم بعيدين، لهذا كان الأمريكيين يتصرفون بتعقل والإنجليز ينتقمون من الشعب الألماني ككل.
لكن قصف دريسدن كان إستثناءاً لهذه القاعدة، فقد كان قصفاً مساحياً شارك فيه الإنجليز والأمريكيين سوياً. صحيح أن الإنجليز كان لهم نصيب الأسد لكن الأمريكيين شاركوا مشاركة محترمة. 722 طائرة إنجليزية و527 طائرة أمريكية في غارة واحدة أسقطوا 3900 طن مواد شديدة الإنفجار على دريسدن. أدق تقديرات للضحايا يقدرهم بأنهم 25 ألف مدني ألماني، ماتوا في غارة واحدة بدون تحقيق أي هدف عسكري من أي نوع. بالطبع لم يسمع الكثيرين عن قصف دريسدن لأن صوت المنتصر أعلي، والمنتصر سيتكلم كثيرا عن مجازر النازيين إلا أنه لن يتكلم عن مجازره هو شخصياً.
وكان كيرت فونيجت تحت الأرض في مخزن تابع للمجزر رقم خمسة وهو يسمع القصف المدوي فوق رأسه ثم خرج ليري بعينه الدمار الذي حدث ويشارك في حاولات رفع الأنقاض والإنقاذ.
في عام 1969 كتب كيرت فونيجتروايته الشهيرة (المجزر رقم خمسة Slaughterhouse five)، الرواية التي صنعت اسمه كأديب و الرواية التي لابد أن تجدها في معظم قوائم أهم الأعمال الأدبية المكتوبة بالإنجليزية (قائمة مجلة تايم، قائمة المكتبة الحديثة، ترشيحات جائزة هوجو، ترشيح جائزة الغمامة الأدبية، الخ).
في هذه الرواية نجد بطل القصة الذي كان جندياً أمريكاً تم أسره ونقله للمجزر رقم خمسة وشهد قصف دريسدن.
نري في هذه الروابة الحرب كشيء مثير للشفقة، أنت لا تري أبطالاً في الحرب بل أشخاص بؤساء، المسالمين الذين لا يرغبون إلا في أن يتركوا لشأنهم، لا يرغبون حتى في أن يبذلوا مجهوداً ليهربوا من الموت، الشباب المتحمس للقتال و سحق النازيين، الأشخاص بسيطي الإدراك الذين يهمهم ألا يسخر منهم أحد ويفكرون فيالاقتصاص لكرامتهم من جندي أخر ضربهم في شجار بسيط وينسون أنهم في وسط حرب طاحنة يموت فيها الناس بالألوف، المجرمين و اللصوص الذين تم تجنيدهم. كل هؤلاء مثيرين للشفقة لأنهم أطفال. معظم من يتم تجنيده هو مراهق أو شاب صغير لم ير الدنيا وليس لديه الحكمة الكافية للمرور بتجربة مزلزلة نفسيا وإنسانياً كهذه، لهذا أيا ما كان سلوكه وأيا ما كان تفكيره وتصرفاته فهو مثير للشفقة، هكذا يراهم كيرت فونيجت.
بالطبع تنطبق هذه الرؤية على الأمريكيين والألمان. كلهم أطفال يتلاعب بهم الكبار أو يتلاعب بهم القدر كما يري فونيجت. لا مجال هنا لرؤية الأفلام المتخلفة التي تري الأمريكيين أبطالا يدافعون عن أشياء تبدو عميقة والنازيين كأشرار خام يمارسون الشر لأنهم لا يجدون شيئاً أفضل يفعلونه. هذه رواية إنسانية تنظر للجنود كل بمفرده بشيء من التفصيل و بكثير من الانتباه لطبيعته البشرية و الإنسانية
في أثناء الحرب العالمية الثانية تم إعتقال فيكتور فرانكل، الطبيب النفسي النمساوي اليهودي وتم سجنه في معسكرات هتلر. هنا ثار السؤال العتيد عن معني وجدوى ما يحدث. بعد الحرب كتب فرانكل كتابه الشهير (بحث الإنسان عن المعني Man’s search for meaning) والذي أسس لما يعتبر مذهباً جديداً في العلاج النفسي يهدف لدفع المرء للبحث عن معني لأحداث حياته المختلفة خاصة المؤلمة منها، والذي يعتبر مزيج من الفلسفة الوجودية وعلم النفس. حكي فرانكل في كتابه الكثير من الروايات الطويلة عن ما حدث له في معسكر أوشفيتز و الأهوال و المواقف التي مرت به، ثم بحث بعض الناس في ملفات المعتقلين في أوشفيتز، و هي الملفات التي نجت من الحرب و موجودة اليوم في المتاحف، فوجدوا أنه قضي في أوشفيتز ليلتين إثنين كمحطة توقف أثناء ترحيله لمعتقل تابع لمعتقل داخاو. لماذا كذب فرانكل؟ غالباً لأن أوشفيتز هو (العاو) الذي يخاف منه الغربيون ومصدر كل الروايات عن فظائع هتلر. أنت يهودي تم إعتقالك في أوشفيتز إذن فأنت نبي يمشي على الأرض.
على الرغم من أن كذب فرانكل أفقده الكثير من المصداقية في نظري إلا أن شهرة كتابه ومذهبه النفسي والفلسفي يؤكدان على أن بحث الإنسان عن معني للحياة شيء يحتاجه كل البشر، والحرب هي أكثر شيء يثير هذا الشعور في النفس البشرية وكل من مر بحرب بهذه البشاعة وهذا المستوي لابد أن يثار هذا التساؤل في نفسه: ما معني ما يحدث؟
وكيرت فونيجت لم يكن إستثناءاً.
في رواية المجزر رقم خمسة نري بطل القصة بعد أن عاد إلي بلاده وتزوج وعمل كفني نظارات طبية وكون ثروة وأنجب ومات. الرواية تسأل كيف أثرت الحرب على حياته حتى الممات؟ أي أفكار تكونت في ذهنه وأي نظرة صارت لديه للدنيا والكون والأقدار في محاولة بائسة للبحث عن معني لما حدث؟ كيف أثرت هذه النظرة على تصرفاته وسلوكياته؟
من الناحية الأدبية نري هنا أن البطل يتحرك وسط الزمن بدون تحكم منه. هذه وسيلة يستخدمها فونيجت لكي يروي أحداث الحرب بجانب أحداث ما بعد الحرب بشيء من التوازي. لم يكن هناك داعي لنقطة كهذه في رأيي، فالأدباء يتحركون عبر الزمن بدون ترتيب، و فونيجت الذي حافظ علي ترتيب الأحداث فيما بتعلق بالحرب و ما بعدها لم ير مثلاً سيناريو فيلم 21 جرام الذي هو عبارة عن مشاهد غير مرتبة زمنياً و علي المشاهد أن يجهد ذهنه في تكوين الصورة الكاملة للفيلم في النهاية بعد أن يري جميع المشاهد و يجمعها في ذهنه كالبازل. لكن فلنتذكر أن الرواية كتبت في الستينات وغالباً كان هذا الأسلوب فتحاً أدبياً وقتها.
الرواية تصنف على أنها ساخرة إلا أني لم أستطع أن أضحك في أي موضع لأن كل البشر في الرواية بؤساء مثيرين للشفقة التي تطغي على السخرية التي تملأ القصة. دائماً ما تسمع عن أن السخرية دائماً وراءها معاناة من نوع ما، هذه روابة طغت فيها المعاناة حتى لم تترك مجالاً للضحك على العبارات الساخرة التي تفوح بالكثير من الذكاء.
ولنتذكر أيضاً أنه بالرغم من أن الحرب العالمية الثانية كانت وما زلت فخر للأمريكيين إلا أن هناك شخصاً كتب رواية يظهر فيها الجنود الأمريكيين بلهاء مثيرين للشفقة، سواء المسالم منهم أو المتحمس للحرب أو من لا يعنيه الأمر، ثم يتم اعتباره من أهم أدباء أمريكا ولا يتهمه الناس بأنه خائن وعميل إلى آخر هذه التهم الظريفة التي ننفرد نحن بها.
في السبعينات نشر ستيفن كينج رواية (المواجهة The Stand) في ألف صفحة. بعدها بعشرين سنة تقريباً نشر نسخة من 1400 صفحة. كان الناشر قد حذف الكثير من الحوارات والمشاهد لأنه شعر أن الرواية شديدة الطول. في مقدمة الطبعة الحديثة قال ستيفن كينج أنه لا توجد أحداث مختلفة، لن تتصرف أي شخصية بأي أسلوب مختلف، فقط هناك بعض التفاصيل. يقول كينج: لو لخصت رواية هانزلو جريتل يمكنني أن أقول أنه كانت هناك زوجة أب شريرة أمرت زوجها بالتخلص من أبناؤه في الغابة، قام الأبناء بإلقاء أحجار في الطريق إلي الغابة مما سمح لهم بالعودة ثانية إلي بيت أبيهم………..الخ. بهذا الأسلوب يمكن تلخيص الرواية في بضعة سطور إلا أن الأحداث ليست فقط هي ما يعطي للرواية قيمتها، بل الحوار، الألفاظ، تعبيرات الوجه، لحظات اضطراب الأفراد، الخ. هذه هي التفاصيل التي أعادها كينج بعد أن حذفها الناشر بعشرين سنة.
ربما يكون ستيفن كينج مبالغاً، و ربما كانت هناك روايات تمثل الأحداث محوراً أساسياً فيها، لكن (المجزر رقم خمسة) مثال علي الروايات التي هي عكس هذا تماماً. هناك شخص ذهب للحرب، أسره الألمان، شهد قصف دريسدن، عاد لأمريكا ليعمل كفني نظارات، صار ثرياً وتزوج وأنجب ثم مات. هذه هي كل الاحداث التي في الرواية تقريباً، والباقي هي ما يعطي للرواية وزنها: تأثير الحرب على نفسه ونظرته للحياة بعد الحرب، محاولته لمحو ما لحق به من إهانة نفسية علي يد النازيين وشعوره بانعدام الحيلة أثناء أسره وترحيله، محاولته للبحث عن معني لما رأي من دمار، محاولته للتعامل مع أمر أكبر بكثير من قدرته على تغييره، الحرب كشيء يقوم به في الأساس مراهقين وشباب صغير غير مؤهل نفسياً لأن يخوض مثل هذه التجربة أو حتى أن يقرر خوضها من عدمه الخ.
هذه الرواية تروي الحرب كما تراها عيون إنسان ضعيف بلسان إنسان ذكي، وعادة الأذكياء فقط هم من يمكنهم الاعتراف بضعفهم الذي يجعلهم بشراً ويجعلنا نتقبلهم.