حين تفكر في القنبلة الذرية يمكنك أن تفكر بها من عدة وجهات نظر. من الممكن أن تنظر لها علي أنها مأساة و نموذج لوحشية الإنسان أو يمكنك أن تنظر لها علي أنها إنجاز علمي رائع خرج من عقول عبقرية. كثيرون فعلوا هذا من قبل لذا لن أتحدث هنا من هذا المنطلق. تمثل الحرب العالمية مرحلة مليئة بالتجارب الإنسانية و المواقف التي لا يمكن أن تحدث في خيال أعتي العقليات جموحاً و الجزء المتعلق بالقنبلة الذرية ليس إستثناءاً.
في هذا المقال سأحاول أن أركز علي القنبلة الذرية كتجربة إنسانية. رحلة إنتاج القنبلة الذرية و إستخدامها فيما بعد مليئة بالمواقف و النقاط التي تلقي الضوء علي كيفية تصرف البشر عموماً و التي لم يركز عليها الكثيرون من قبل لذا سأحاول أن أتعرض لها هنا.
البداية
بداية إنتاج القنبلة الذرية كان فكرة لدي ليو زيلارد. زيلارد فكر أننا بإمكاننا أن نشطر الذرة إن تم قذفها بنيوترون مما سينتج عنه كمية ضخمة من الطاقة التي يمكن أن تستخدم كسلاح. هنا كان الموضوع مجرد فكرة لم يجربها أحد، لا أحد يعرف إن كانت قابلة للتنفيذ أم لا. كان لابد من إقناع الحكومة الأمريكية بتمويل و رعاية المشروع. إقتنع إثنان من أصدقاء زيلارد هما إدوارد تيلر و أيجن واينر بأفكاره. إدوارد تيلر كان صديقاً لأينشتاين و قام بتقديم زيلارد لأينشتين. في إجتماع ضمهم هم الأربعة عرض زيلارد أفكاره علي أينشتاين مما أدي لإقتناعه بالفكرة. كتب أينشتاين خطاباً للرئيس الأمريكي روزفلت يشرح فيه الموضوع و يقنع به الرئيس الأمريكي، و بالفعل إقتنع الرئيس الأمريكي بخطاب أينشتاين و صدق علي قرار ببدء تمويل مشروع إنتاج القنبلة الذرية.
هنا نتوقف قليلاً عند هذه الحادثة. الأسماء التي ذكرتها في الفقرة السابقة هم مجموعة من أهم عقول الفيزياء في التاريخ. زيلارد كان ذو تاريخ مشرف كعالم فيزياء له إسهاماته الهامة في مجال الديناميكا الحرارية و الذرة، إدوارد تيلر عالم فيزياء مرموق صار فيما بعد عضواً في فريق العلماء الذي أنتج القنبلة الذرية و بعدها صار الشخص الرئيسي في إنتاج القنبلة الهيدروجينية، أيجن واينر يلقبه دارسوا الفيزياء بالعبقري الصامت حيث يقارن الكثير من الدارسين إنجازاته بإنجازات أينشتاين من حيث الأهمية إلا أن شهرته أقل بكثير (نال فيما بعد جائزة نوبل في الفيزياء). علي الرغم من هذا إلا أن إقتناعهم بالفكرة لم يكن كافياً. كان لابد من توقيع أينشتاين علي الخطاب لينال مصداقية و تأثير بسبب شهرته لدي العامة و السياسيين. أينشتاين نفسه إعترف بهذا فيما بعد في محاولة للتنصل من مسئوليته عن إنتاج القنبلة الذرية.
الشهرة ليست دائماً مرادفاً للتميز. العامة لهم نظرة تختلف عن نظرة المتخصصين. الطبيب ذائع الصيت معناه أنه يروق للناس. قد يكون راق للناس بسبب علمه أو بسبب عوامل أخري مثل أسلوبه في الكلام أو بسبب ظهوره في اللقاءات التليفزونية. نفس الشيء يقال عن علماء الفيزياء، شهرة أينشتاين لا تعني أنه الأفضل أو الأهم. بالطبع أينشتاين عبقري و لكن هناك من هم في نفس مستواه أو قاربوه في الأهمية إلا أنهم لم ينالوا نفس شهرته و مصداقيته لدي العامة و السياسيين.
النقطة الثانية أن أحداً لم يكن يتوقع القوة التدميرية الهائلة للقنبلة. في الخطاب الذي أرسله أينشتاين لروزفلت قال إن قنبلة من هذا النوع قد يكون بإمكانها تدمير ميناء كامل! لم يفكر أحد أنها قد تزيل مدينة و ليس ميناء فقط. حين تم إنتاج القنبلة و جاء وقت تجربتها في صحراء أمريكا لأول مرة تراهن عدد من العلماء علي قوتها التدميرية و جاءت النتيجة أعلي من أعلي التوقعات !
هناك نقطة أخري هي أن كل من شملتهم هذه الواقعة غير أمريكيين و كلهم يهود ! أينشتاين كان ألمانياً، زيلارد و تيلر و واينر كانوا مجريين، كلهم كانوا فاريين من هتلر الذي إحتل بلادهم و كلهم وجدوا في أمريكا الأذرع المفتوحة التي ترحب بعلمهم. فيما بعد حين صدق روزفلت علي بدء مشروع إنتاج القنبلة الذرية (الذي عرف بإسم مشروع مانهاتن) ضم المشروع العديد من العلماء الذين كان الكثير منهم من اليهود الغير أمريكيين، هذه قائمة ببعضهم:
-أينشتين : ألماني يهودي، مستشار المشروع و تمثل النظرية النسبية التي وضعها أساساً مهماً في الحديث عن الذرة.
- ليو زيلارد : مجري يهودي، صاحب فكرة الإنشطار النووي.
- إنريكو فرمي: أيطالي يهودي، أحد أشهر الفيزيائيين علي مر التاريخ، حائز علي جائزة نوبل في الفيزياء، إستطاع مع زيلارد التحكم في الإنشطار النووي عن طريق إختراع المفاعل النووي.
- إدوارد تيلر: مجري يهودي، أحد أعضاء مشروع مانهاتن و أبو القنبلة الهيدروجينية.
- إيميليو سيرجي : أيطالي يهودي. كان ممنوعاً من العودة لإيطاليا لأنه يهودي طبقاً لأحد القوانين التي وضعها موسوليني.
- أوتو فريتش : نمساوي يهودي و صاحب الفكرة النظرية خلف كيفية تفجير القنبلة الذرية.
-رودلف بيرلز : إنجليزي يهودي من أصل ألماني، عمل مع فريتش علي الفكرة النظرية لكيفية تفجير القنبلة الذرية.
هانز بيث: ألماني يهودي، حائز علي جائزة نوبل في الفيزياء، الشخص الذي إستطاع أن يحسب الكتلة الحرجة لليورانيوم اللازمة لبدء تفاعل متسلسل.
لولا الخوف من التطويل لأكملت القائمة و لكن العلماء الذين عملوا في القنبلة الذرية كانوا 90 عالماً. إن عددت الغير أمريكيين فيهم فسأكتب قائمة أطول من ذراعي. المهم هنا أن الأشخاص الرئيسيون في المشروع كانوا من غير الأمريكيين و كثير منهم كانوا يهود.
حين سئل إدوارد تيلر عن القنبلة الذرية و حماسه لها تحدث عن أهله و جيرانه الذين شاهدهم بعينيه يعتقلون أو يشردون أو يقتلون و رحلة فراره من المجر، و عن إقتناعه التام أن أمريكا كان عليها أن تسعي بكل ما لديها من قوة لإمتلاك السلاح الذري قبل ألمانيا التي كانت تسعي وراءه في نفس الوقت. بعد أن إنتهت الحرب ظل تيلر علي حماسه للسلاح الذري حيث شارك في تطور القنابل الذرية لإنتاج قنابل أكثر قوة و أيد بشدة إجراء المزيد من التجارب النووية ثم قاد مشروع أمريكا لإنتاج القنبلة الهيدروجينية. حتي بالنسبة لأولئك الذين لم يتحمسوا للتوسع في إنتاج السلاح الذري بعد الحرب (مثل زيلارد) فإن إنتاج القنبلة الذرية قبل هتلر كان ضرورة لا شك فيها و كان دافعاً لهم لإنجاز الأمر بسرعة كبيرة.
النظم الديكتاتورية تمثل دائماً عوامل طرد للعلماء و المثقفين. علي الرغم من أن أمريكا ليست بلداً من الملائكة إلا أن ظلمها لايأخذ الشكل الديكتاتوري الغبي الذي ميز هتلر و موسوليني و كان عاملاً في طرد أولئك العباقرة من بلادهم و لم يكن النظام الأمريكي قمعياً مثل نظام ستالين الذي لم يجعل الإتحاد السوفيتي مكاناً جذاباً لهؤلاء العباقرة، دعك من أن أمريكا تعامل المتفوقين علمياً معاملة خاصة جاعلة من أمريكا مكان جذب للعقول من جميع أنحاء العالم.
بالتالي يمكن القول دون خطأ كبير أن غير الأمريكيين هم من صنعوا القنبلة الذرية و القنبلة الهيدروجينية لأمريكا. ليست هذه هي نقطة التفوق الوحيدة التي منحتها العقليات الأجنبية لأمريكا. في السبعينات كان عدد العاملين في وادي السيليكون من غير الأمريكيين يمثل 10%. اليوم يمثل غير الأمريكيين العاملين في وادي السيليكون 50%. في عام 1999 طالبت شركات التكنولوجيا و المعلومات في أمريكا بفتح المجال لمنح فيزا H1B1 (و هي فيزا العمل لغير الأمريكيين) لمبرمجين و مهندسين غير أمريكيين ليعملوا بهذه الشركات. إستجاب بيل كلينتون لمطالبهم و تم تخصيص 62 الف فيزا تمنح سنوياً لشركات تكنولوجيا المعلومات لتمنحها لمهندسين و مبرمجين أجانب ليعملوا بأمريكا. بعدها بعامين إشتكت الشركات أن العدد غير كاف فقام كلينتون بمضاعفة العدد تقريباً ليصير 120 الف فيزا سنوياً توزع علي شركات تكنولوجيا المعلومات. حين قامت الحكومة الأمريكية في الأعوام التالية بتخفيض العدد إلي 62 الف مرة أخري إشتكي أحد المديرين بشركة إنتل واصفاً ما حدث بأنه يمثل كارثة إقتصادية لشركات تكنولوجيا المعلومات و أنه بإمكانه أن يري بداية إنهيار إقتصادي عام في أمريكا بناء علي هذا القرار. ربما كانت العبارة بها قدر من المبالغة و لكن المبدأ نفسه أن الإعتماد الأمريكي علي العقول و جذبها لها ما زال مستمراً منذ بداية القرن و حتي اليوم، و لم تكن القنبلة الذرية آخر ما منحته العقول الأجنبية لأمريكا.
قائد المشروع
حين وقع روزفلت علي بدء المشروع تم إختيار الجنرال ليسلي جروفز ليتولي إدارة المشروع. كان علي جروفز أن يختار عالماً لإدارة فريق العلماء هذا و وقع إختياره علي روبرت أوبنهايمر. كان إختياراً غريباً فأوبنهايمر لم يكن معروفاً بأنه قاد أي مشروعات أو فرق علماء من قبل، كما أنه كان معروفاً بميوله الشيوعية التي لم يلق لها جروفز بالاً إلا أن الأيام أثبتت أن إختيار جروفز كان صائباً.
علي الرغم من أن المشروع كان تحت قيادة الجيش إلا أننا نتحدث عن علماء. لا يمكن لمجموعة من العلماء أن ينقادوا لعدد من العسكريين بسهولة. السؤال الذي لابد أن يسأله كل عالم لنفسه هو ( ما الذي يفقهه هذا الجنرال ليعطيني أي أمر من أي نوع؟). هؤلاء أشخاص بضاعتهم العلم و التفكير، و لا يمكن لأحد أن ينال مصداقية لديهم أو أن يمتلك سلطة نفسية تسمح له بقيادتهم إلا إن كان مثلهم.
حين يتحدث علماء القنبلة الذرية عن أوبنهايمر دائماً ما يتحدثون عن ذكاؤه الخارق. كان هانز بيث يقول (حين أبدأ أفهم ما الموضوع الذي يتحدث الناس عنه يكون أوبنهايمر قد أحاط بالموضوع من كل جوانبه). لاحظ أننا هنا نتحدث عن 90 عالماً من أهم العقليات في تاريخ الفيزياء منهم 20 حصلوا علي جائزة نوبل، و علي الرغم من هذا ما أن يأتي ذكر أوبنهايمر حتي يتحدث الجميع بإنبهار عن ذكاؤه الخارق و شخصيته القيادية المسيطرة. في رأيي أنه لولا ذكاؤه و علمه لما صار له أدني سيطرة عليهم، لابد لكل قائد لعدد من الناس أن يهابه الناس (الهيبة لا تعني الخوف) و لابد من أن يحترموه و لدي أشخاص مثل العلماء فإن الهيبة و الإحترام ينالهم المرء بعلمه و ذكاؤه في المقام الأول. السلطة القمعية (مثل الجيش أو الشرطة أو الحكومة) ليس سلطة علي هؤلاء.
المشكلة أن هذه الهيبة كانت لها جوانبها السلبية الهامة. حين إنتهي العلماء من إنتاج القنبلة الذرية كانت ألمانيا قد إستسلمت و بقيت اليابان مصرة علي القتال. كتب زيلارد طلباً موجهاً للحكومة الأمريكية يطلب أن تحذر أمريكا اليابان من أنها تمتلك الآن القنبلة الذرية و إقترح أن يتم إلقاء القنبلة علي جزيرة منعزلة مع إخبار اليابانيين قبل إلقاء القنبلة ليشاهدوا ما سيحدث. كان يهدف أن تثبت أمريكا أنها بالفعل تمتلك القنبلة و تتجنب تعريض الناس لخطر هذه القنبلة.
فكر زيلارد في تمرير هذا الطلب لفريق العلماء الذي أنتج القنبلة ليوقعوا عليه. أول من أعطاه زيلارد الطلب ليوقعه كان إدوارد تيلر، صديقه الذي عرفه علي أينشتاين في البداية. يقول تيلر أنه لم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً كهذا دون أن يعرض الفكرة علي أوبنهايمر في البداية. يقول تيلر أن سيطرة أوبنهايمر و كاريزمته كانت ساحقة مما دفعه لسؤاله قبل توقيع هذا الطلب. عارض أوبنهايمر الطلب و منع العلماء من التوقيع عليه قائلاً إن وظيفتنا كعلماء هو صنع القنبلة، إستخدامها متروك للجيش و الحكومة و ليس لنا أن نتدخل فيه أو نبدي فيه رأياً.
هنا تسببت الكاريزما الساحقة لأوبنهايمر في تدخله فيما لا يفقه. أوبنهايمر نال إحترامه في المقام الأول بسبب علمه و ذكاؤه، و لكن العلم و الذكاء لا علاقه لهم بالأخلاق. ما يعرضه زيلارد هو سلوك أخلاقي في المقام الأول مما يجعل رأي أوبنهايمر غير ذو أهمية هنا، إلا أن أوبنهايمر كان يقود العلماء في ما له علاقة بالعلم و ما ليس له علاقة بالعلم.
في حياة كل إنسان شخص يقوده عقلياً و نفسياً، شخص يمثل رأيه أهمية قصوي للمرء و تمثل إشاراته و تلمحياته نقاط تقود الإنسان في حياته. قد يكون هذا الشخص أب، أم، صديق، زوج / زوجة، قائد روحي أو ديني، الخ. المهم أن ينظر الإنسان لمن يقوده نفسياً و ينتبه لأن الأب قد لا تكون لديه خبرات في كل مناحي الحياة ليأخذ المرء برأيه في كل صغيرة و كبيرة، الصديق قد يحسن أشياء و لا يجيد أشياء أخري لذا لابد للمرء أن يفكر هل الشخص الذي أستشيره الآن يمتلك المقومات التي تسمح له أن يعطي رأياً في هذا المجال أم لا.
حين سأل محمد حسنين هيكل الخميني عن ما إذا كان شخص مثله يمتلك المعرفة بالسياسة و الإقتصاد التي تسمح له بإدارة إيران، بإعتبار أنه رجل دين ليس لديه معرفة إلا بالدين و المذهب الشيعي، قال إنكم في الشرق الأوسط يحكمكم العسكريون و ليس لهم معرفة بالسياسة و الإقتصاد كذلك ! العبارة تقول بإختصار أنتم تخطئون و نحن نخطيء مثلكم، إلا أن أحداً في إيران لم يطرح الفكرة، فسيطرة الخميني علي الناس نفسياً من خلال مكانته الدينية كانت كافية بالنسبة لهم ليقودهم في الإقتصاد و السياسة كذلك.
هناك مشكلة أخري هنا هي عدم وجود مرجعية. من الذي يمكن أن يحدد ما هو الصواب و الخطأ، خاصة فيما يتعلق بالأخلاق و السلوكيات البشرية؟ المفروض أن الدين هو مصدر المرجعية هنا، هو الذي يحدد ما الصواب و ما الخطأ و ليس أوبنهايمر.
اليابان
حين أنتج العلماء القنبلة كانت ألمانيا قد إستسلمت. اليابان كانت مازالت تصر علي القتال في المحيط الهادي علي الرغم من أنه الآن و قد إنتهت ألمانيا تفرغت إنجلترا و الإتحاد السوفيتي و قرروا أن يدعموا أمريكا في حربها مع اليابان. بالنسبة لليابانيين فإنهم يقاتلون من أجل الإمبراطور الذي لا يحكم إلا أن له قدسية خاصة لدي اليابانيين، و بالنسبة للياباني فإن الإستسلام هو عار ما بعده عار. قدر العسكريون أن إقتحام اليابان سيكلف الحلفاء ما يقرب من مليون جندي.
كان اليابانيون يتدربون علي كيفية الموت و ليس علي القتال فقط، كانوا يتعلمون كيفية تنفيذ العمليات الإنتحارية و كانوا مصرين علي الحرب حتي آخر شخص. في حوار مع أحد اليابانيين الذي كان يعمل طبيباً في المستشفي العسكري في هيروشيما قبل إلقاء القنبلة عليها قال إنه كان يدرب الجنود علي كيفية ربط المتفجرات في أنفسهم و الزحف تحت الدبابات لتفجير أنفسهم مع الدبابات! هذه أغرب وظيفة يمكن أن يقوم بها طبيب، و لكن كان هذا هو الطابع العام للبلد حتي الفتيات في المدارس كن يتدربن علي القتل بإستخدام أعواد الغاب الطويلة.
وجه الأمريكيين أكثر من طلب إستسلام تام لليابانيين. كان الأمريكييون قد فكوا شفرة الإتصالات اليابانية و قد فهموا أن اليابانيين يخافون بشدة إن إستسلموا أن يطلب منهم الحلفاء تسليم الإمبراطور لذا عدلوا من لهجة آخر طلب ليجعلوه طلب إستسلام القوات المسلحة اليابانية. تغيير لهجة الإنذار أغري اليابانيين و تصوروا أنه تعبير عن ضعف الأمريكيين و أصروا علي القتال حتي آخر جندي. هذه أحد أكثر النقاط إثارة للإستفزاز و أكثر النماذج الصارخة علي الغباء البشري في التاريخ، قوم يضحون بأنفسهم و يدخلون حرباً شعواء يقتلون فيها و يُِِِِِِِِقتلون دفاعاً عن بعض المباديء الحمقاء و في سبيل شخص لا يمتلك أي مقومات في الحياة ولا يمارس أي شكل من أشكال الحكم إلا أنه مقدس بناء علي المباديء التي توارثوها عن أجدادهم.
حتي حين سقطت قنبلة هيروشيما خرج عمدة المدينة يقول أن ما حدث كان نتيجة لغارة ظالمة من أمريكا، و أن اليابان لن تسقط و خرجت الحكومة بتصريحات ترفض الإستسلام ! حين أقرأ عن سلوك اليابانيين قبل إلقاء القنبلة الذرية عليهم لا أشعر تجاههم بأي شفقة (بإستثناء الأطفال). هذا مجتمع كان كله يتمني الموت في سبيل الإمبراطور و في سبيل تفادي عار الإستسلام فها قد جائهم الموت فلماذا يشكون إذاً؟ حين ألقيت القنبلة الثانية إحتدم نزاع بين رئيس الوزراء و وزير الحربية، الأول يري الإستسلام و الثاني يري أن تستكمل اليابان القتال حتي آخر إنسان ! هنا أقنع رئيس الوزراء الإمبراطور بحسم هذا الخلاف فخرج الإمبراطور يدعو الشعب للإستسلام. لم يتحمل وزير الحربية عار الإستسلام و طعن نفسه بالسيف علي طريقة المحاربين اليابانيين القدامي !
و حتي بعد الإستسلام لم يتم تسليم إمبراطور اليابان بعكس قادة هتلر الذين تمت محاكمتهم في نورمبرج، لا يمكن للشعب الياباني أن يسلم الإمبراطور مهما القي عليه من قنابل ذرية.
ما بعد القنبلة
عام 1942 في نفس اليوم الذي أعلن فيه في الإعلام عن معسكرات الإعتقال التي يقيمها النازيون في أوروبا نجح فيرمي و زيلارد في إجراء إنشطار نووي متحكم فيه عن طريق مفاعل نووي، و قد قال فيرمي يومها “هذا هو أسود يوم في التاريخ” في إشارة لمعسكرات الإعتقال التي تم الإعلان عنها و إشارة للإنشطار النووي نفسه. حين تمت تجربة القنبلة الذرية في صحراء تريتيني في أمريكا و عند مشاهدة الإنفجار تذكر أوبنهايمر مقطع من صلاة هندوسية قديمة تقول " الآن أنا قد صرت الموت، مدمر العوالم".
علي الرغم من هذا فإن فيرمي كان يؤيد إلقاء القنبلة علي اليابان مباشرة و أوبنهايمر رفض أن يوقع العلماء علي طلب إعلان أمريكا عن إمتلاكها لقنبلة ذرية قبل إستخدامها.
لم يكن كثير من الناس يتوقعون الدمار الذي سيحدث. فريق الطيارين الذين القوا القنبلة تم إعطاؤهم تصوير للإنفجار ليتخيلوا ما هم بصدده. حين حاولوا تشغيل الفيلم تعطل الجهاز و بالتالي لم يشاهدوه. في اليوم السابق لإلقاء قنبلة هيروشيما بينما كان أحد أعضاء الفريق المسئول عن إلقاء القنبلة نائماً في قاعدة عسكرية في المحيط الهاديء إستيقظ علي صوت إصتدام طائرة عند إقلاعها. في ذلك الوقت لم تكن الطائرات متقدمة مثل اليوم، كانت الطائرات الحربية تواجه مشاكل دائمة عند الإقلاع و الهبوط خاصة مع قصر طول ممرات الإقلاع في المطارات الموجودة في جزر المحيط الهادي و علي حاملات الطائرات. كان مشهداً معتاداً أن تري الجنود و قد إستعدوا بطفايات الحريق عند هبوط الطائرات بسبب كثرة الحوادث عند الإقلاع و الهبوط.
هنا فكر هذا الشخص في ما يمكن أن يحدث إن إرتطمت الطائرة بالأرض عند إقلاعها و هي تحمل علي متنها قنبلة ذرية؟ هذه مشكلة لم يفكر فيها أحد في أمريكا و ميعاد القاء القنبلة غداً. هنا إتخذ قراراً فردياً: سيقوم بتفكيك نظام التفجير و يقوم بتجميعه في الهواء داخل الطائرة إن نجحت الطائرة في الإقلاع ! تخيل نفسك أن تقوم بقرار فردي دون إعلام أي شخص بتفكيك نظام تفجير قنبلة ذرية و تجميعه. بالطبع لم يكن أحد يقدر ما هي القنبلة الذرية، علي الرغم من كثرة الحديث و التقارير التي تلقوها قبل العملية عن القنبلة إلا أن الفارق بين من سمع و من رأي فارق ضخم.
قام هذا الشخص بالفعل بتنفيذ فكرته و نجحت الفكرة، و ساعده علي هذا أن نظام تفجير قنبلة اليورانيوم (التي ألقيت علي هيروشيما) بسيط بعكس نظام تفجير قنبلة البلوتونيوم (التي القيت علي نجازاكي) الذي كان شديد التعقيد. تخيل أن تجميعه لنظام التفجير كان به خطأ ما. كان هذا معناه أن يهدي اليابانيين القنبلة الذرية علي طبق من ذهب.
تسببت قنبلة هيروشيما في مقتل ما يقرب من 45 الف شخص و هو عدد أقل ممن ماتوا في طوكيو التي مات فيها 70 الف شخص بسبب غارات الحلفاء، فالحلفاء لم يكونوا حفنة من الملائكة و كانوا كثيراً ما يقومون بغارات علي المدنيين في ألمانيا و اليابان إلا أن القنبلة الذرية تأُثيرها النفسي أكبر من حيث أن من ماتوا ماتوا في ثانية واحدة. هذا يذكرنا بظابط الإنتربول في فيلم سيد الحرب Lord of War الذي كان يحدث تاجر السلاح قائلاً إن المدفع الرشاش الذي تبيعه هو الذي يجب أن يعامل علي أنه من أسلحة الدمار الشامل فعدد من يموتون به يفوق من ماتوا بالقنبلة الذرية إلا أن الناس لا تتحدث إلا عن حظر السلاح الذري و ينسون المدفع الرشاش البسيط.
بعد إلقاء القنبلة تغير سلوك عدد من العلماء بعد أن رأوا الدمار الذي تحدثه، مثل أوبنهايمر الذي صار يدعو للحد من إستخدام و تطوير السلاح الذري، الأمر الذي لم يرق للأمريكيين. بعد الحرب صار الشيوعيون خطراً علي المجتمع الأمريكي، ظهرت لجنة السيناتور مكارثي التي كانت تحاكم كل من تشك في أن لديه ميول شيوعية و قد إستجوبت هذه اللجنة عدد من علماء القنبلة الذرية خاصة أولئك المعارضين لتطوير و إستخدام السلاح الذري (كان من ضمنهم أوبنهايمر) و تم رفد بعضهم من الجامعات الأمريكية.