لا يمكن النظر للعالم الغربي بمعزل عن أن الفرد و متعته المباشرة هي أساس من أسس الفكر و الحياة. الموضوع كبير و شائك لكني سأتكلم عن نقطة واحدة فقط في ما يتعلق بالفردية و هي الإنجاب.
كنا نتكلم أنا و زميلة هولندية فذكرت وسط الكلام أن زوجتي لا تعمل لتراعي إبننا. علقت بقولها أنها مازالت تذكر طفولتها و شعورها بالراحة حينما كانت تعود للبيت من المدرسة لتجد أمها في البيت. هذه الزميلة إتخذت قراراً بعدم الإنجاب! أنا معجب بشدة بمعرفتها بحق الطفل و إحتياجه النفسي، حتي إن كانت هي غير مستعدة للتضحية بوظيفتها لتعطي هذا الحق لطفل. همام يحيي كان ينتقد الدعوات التي تقول أن المرأة يمكنها أن تكون زوجة و أم بدون أن يؤثر هذا علي وظيفتها و متعها الشخصية بقوله أن الرجل نفسه تتقيد حياته تماماً بالزواج و الإنجاب، فما بالنا بالمرأة. لكن الزميلة الهولندية كانت مستوي أعلي من مجرد إدراك أن للإنجاب تبعات و قيود، و هو أنها أدركت أن الإنجاب يتضمن حقوقاً للطفل لا يعرفها كثيرون ممن ينجبون و يلقون بأبنائهم في الحضانات ليوم كامل- و حتي عندها يظل الإنجاب قيداً، حقوق نفسية في مجرد أن يعود للبيت ليجد أمه. جيفري لانج عندما تكلم عن طفولته و عن ضرب أبيه لأمه عبر عن هذا الموقف بأن أباه كان يهاجم مصدر الأمان بالنسبة له. لا أعرف من وصف الأم بهذا الوصف العبقري الدقيق من قبل، و مصدر الأمان هذا يجب فقط أن يكون موجوداً في الجوار لا أكثر ولا أقل، هذا حق نادراً ما يذكر من ضمن حقوق الطفل. زميلتي الهولندية مازالت تذكر هذا الشعور من طفولتها و لكنها ليست علي إستعداد لأن تقدمه لطفل.
مما يساعد علي هذا أن زمن العمل يومياً 8 ساعات، و الأعمال التي تسمح بأقل من هذا قليلة للغاية للأسف.
عندما بدأت خطوات السفر لهولندا سألتني موظفة في بوكينج عن ما إن كنت متزوجاً أو عندي شريكة مسجلة registered partner. كانت هذه هي أول مرة أسمع بها عن هذا الموضوع. الفكرة هي أنها نوع من توثيق علاقة البوي فريند - جيرل فريند، شيء يجعل العلاقة مسجلة في سجلات الدولة بالتالي يسهل الكثير من الأمور مثل الإقامة في سكن مشترك و تعامل الدولة مع الرسوم و القوانين المتعلقة بالمال و الهجرة، الخ، لكنه في نفس الوقت علاقة يسهل فسخها بدون تكاليف قانونية ولا مادية مثل الزواج. عادة ما يتزوج من يقررون الإنجاب لكني رأيت من أنجب ثلاثة أطفال و علاقته بشريكته هي علاقة الشريك المسجل.
بالتالي الغربي لا يريد حتي التبعات القانونية و المادية للزواج، هو لا يريد أي شيء مكلف أيا ما كان.
من ضمن النماذج العجيبة التي رأيتها زميل يعيش في فانكوفر و تعيش زوجته في نيويورك. هي جائتها فرصة عمل في شركة برمجيات شهيرة في نيويورك و هو لا يحب نيويورك، لهذا مازالوا متزوجين و ذهب كل منهم يطارد ما يحب، هو يعمل في فانكوفر و هي تعمل في نيويورك. الظريف في الأمر أن عنده إبنة! لم يقبل أي منهما أن يتنازل قليلاً حتي في سبيل أن تنشأ هذه الفتاة في رعاية أبيها و أمها سوياً، كل منهما بحث عن متعته البسيطة الضيقة و لم يقبل بأي تنازل. لم ينفصلا، فقط كل منهم ذهب بحثاً عن حقه، هو في أن لا يعيش في مدينة يكرهها و هي في أن تعمل في فرصة عمل جيدة. لاحظ أن تعريف كلمة (وظيفة جيدة) لغربيين لا يعانون من قواعد الفيزا التي نعاني منها نحن سكان العالم الثالث، و لشخص يعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات بمستوي أهله لأن يعمل في الشركات الكبري هو تصنيف سفيه. كلاهما يمكن أن يجد وظيفة في نيويورك أو فانكوفر أو أي مدينة أخري يتفق عليها كلاهما في أمريكا في ثوان. لكن علي الرغم من هذا فلم يقبل أن منهما أن يضحي براحته بأدني قدر في سبيل الحفاظ علي علاقتهما أو في سبيل تربية الفتاة في كنف أبويها معاً. لاحظ كذلك أنهم لم ينفصلوا، ما زالوا زوجين!
هذا النموذج قابلته أكثر من مرة، كل من الطرفين يبحث عن فرصته المثلي في العمل حتي لو كان علي حساب إنفصاله جغرافياً عن الآخر، و يظلوا في نفس الوقت مرتبطين.
لاحظ أن العمل و ترقيك و إنجازك فيه لا يأتي مجاناً. العمل يشمل فعل أشياء لا تحبها، روتينة أحياناً، مملة أحياناً، الخ. لا أحد ينفذ كل ما يحب بشكل مستمر، بالتالي النظرة الغريبة هي نظرة تتقبل دفع تكلفة العمل و الترقي فيه لكنها لا تقبل دفع تكلفة الإنجاب و الزواج بكل مميزاتهم النفسية و العاطفية.
لو تلكمنا بالأرقام فمتوسط خصوبة المرأة رقم مهم في أي مجتمع و هو متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم كل إمرأة في الدولة. لابد أن يكون الرقم 2.1 ليمكن للمجتمع أن يحافظ علي عدد سكانه بدون زيادة أو نقص. كل الدول الغربية تقريباً هذا الرقم فيها يقل عن 2 بنسبة محترمة و لهذا يتناقص عدد سكانهم و لهذا هم مضطرون لفتح باب الهجرة مهما كرهوا المهاجرين. المشكلة هنا أنه لا يمكن وضع قانون يجبر الناس علي الزواج و الإنجاب - ما لم تكن في الصين. طبقاً للتعريف الشائع فإن الشخص الذي لا ينجب لم يضر أحداً، فما المشكلة هنا؟
المشكلة علي المجتمع ككل للأسف و ليست علي فرد بعينه، و هي مشكلة لا يمكن حلها بقانون. المشكلة أن هذه الدول ينقرض سكانها و لهذا تأثير إقتصادي مباشر عليها. الحل في فتح الباب للمهاجرين و هو حل له تكلفة لا يريد الغربيين دفعها.
المشكلة أن معظم الغربيين لا يرون تبعات عدم الإنجاب. هم يريدون أن لا ينجبوا في نفس الوقت لا يريدون المهاجرين أو يريدون المهاجرين بدون دفع التكلفة. كندا مثال لطيف علي هذا. كندا تتميز أن برامج الهجرة لها تتطلب مهاجرين ذوي كفاءة، إن كنت خريجاً جامعياً أو تحمل شهادات عليا تزيد فرصك في الهجرة. لكن الكنديين لا يعترفون بشهادتك، بالتالي نريدك متعلماً لمجرد أن نسمح لك بدخول بلدنا، عندها عليك أن تعلم نفسك بما يتناسب مع قواعد التعليم الكندي لنسمح لك بالعمل. بالتالي كندا تتميز بنموذج المهندس أو الطبيب الذي يعمل في وظيفة يدوية لينفق علي نفسه حتي ينهي معادلة شهاداته. من ضمن النقاط التي تقدمها عند الهجرة لكندا بيان بالأموال التي معك و التي تضمن أن لا تأتي كعالة علي المجتمع حتي تعادل شهاداتك أو تجد عملاً، الدولة لن تنفق عليك. بالطبع أيضاً هناك اللغة، لابد أن تتقن لغتنا من قبل أن تأتي. من ضمن نتائج هذا العجز المهول في الأطباء في كندا. الغباء الكندي المعهود لا يريد أن يقلل من العوائق المطلوبة للدخول الأطباء الأجانب للمنظومة الكندية بالتالي يعانون عجزاً فلكياً في الأطباء، و يتزايد العجز مع الوقت و في نفس الوقت يحافظ الكنديين علي قواعدهم الغبية بإستماتة.
ألمانيا أقل سوءاً حيث تنفق الدولة علي الأطباء حتي يكملوا تعليمهم بما يتوافق مع النظم الألمانية. هولندا لا تطلب معرفة باللغة لتسمح لك بالعمل فيها و هي تعطي إعفاءاً ضريبياً قيمته 30% للمهاجريين عالي الكفاءة لمدة 8 سنوات، أي أنهم تتم معاملتهم أفضل من معاملة المواطن الهولندي نفسه. الدول الأوروبية المتقدمة معترفة بإحتياجها أفضل من الكنديين كالعادة، من الصعب أن تجد دولة من دول العالم الأول أسوأ من كندا فيما يتعلق بالقوانين و لوائح الدولة عموماً. من فترة خرج رئيس الوزراء الهولندي ليقول بالأرقام إن عندنا عجزاً متوقعاً في خلال الأعوام المقبلة مقداره كذا في وظائف التكنولوجيا لا يمكن للدولة أن تسده من خريجيها لهذا سنتجه للهند وشرق أوروبا و عدد من الدول الأخري بحثاً عن مهاجرين يسدونه. هو معترف بإحتياجاته و سيتجه لدول متخلفة لسدها، بشكل واضح و صريح.
لكن علي الرغم من هذه الأمثلة لإختلاف الحكومات في التعامل مع المهاجرين فمازال هناك الكثير من الرفض لتحمل تبعات الهجرة. المهاجرين يأتون بلغة أخري و عادات متخلفة كثيرة. لكن لا أحد يذكر أن هذا هو أحد تكاليف المعيار الفردي في الحياة الغربية، عليك أن تأتي بأخرين إن لم ترغب في إنهيار بلدك إقتصادياً. المهاجرين يأتون بكل ما إعتادوا عليه في بلادهم، كل ما أدي لأن تصير بلادهم إلي ما صارت عليه من الأصل. حتي إن لم يأتوا بعادات سيئة فإنهم يأتون بعادات مختلفة: ثياب، لغة، طعام، عادات. هنا يظهر الذهول الغربي و كره المهاجرين و الدعوات لإغلاق باب الهجرة. ربما يتجاوز السياسيين إن كانوا عاقلين قليلاً مثل سياسيي ألمانيا و هولندا عن هذه الدعوات لكن لا أحد يتكلم عن السبب الأساسي، لا أحد يقول للناس أن الحياة الفردية لها تبعات عليكم أن تدفعوها، كمجتمع و ليس كأفراد.
سلافوي جيجك يقول أن من مميزات هذا العصر أن الناس تريد كل شيء بدون دفع تبعاته، حلويات بدون سعرات حرارية، قهوة بدون كافيين، خمر بدون كحول، الخ. يمكننا أن نضيف لهذه القائمة (حياة فردية بدون مهاجرين).