نشرت النيويورك تايمز مؤخراً مقال عن الأجانب الذين يشغلون أماكن هامة تقنياً في وادي السيليكون و مشاكلهم مع قوانين الهجرة و العمالة الأمريكية. تطرق هذا المقال للحديث عن أحد المبرمجين في جوجل، و هو شاب من أصل هندي.
الشاب مفتون منذ صغره بالحضارة الأمريكية. هو يري أن كل ما هو هام و رائع في الحياة أمريكي، من نايكي إلي هارديز إلي باسكن روبنز إلي بيتزا دومينوز. حين كان صغيراً كان يلعب مع أخيه لعبة أن يذكر كل منهم كل ما تقع عينيهم عليه في الطريق من أشياء من أصل أمريكي: سيارات، مطاعم، الخ. حين جاء إلي أمريكا و درس في هارفرد كان يعلق العلم الأمريكي في غرفته. أثناء دراسته في هارفرد، و علي الرغم من حصوله علي جوائز لمقالاته و دراساته المتعلقة باللغة الفرنسية إلا أنه إختار دراسة الكمبيوتر لأن من يمتهنون مهن تتعلق بالكمبيوتر لهم فرصة في الحصول علي إقامة أمريكية أعلي من سواهم. حين عمل كمبرمج في جوجل، و في عام 2004 علق العلم الأمريكي في في البهو، و ظل العلم معلقاً هناك حتي الآن. علي حد تعبيره هو منبهر بكل ما ترسم به أمريكا نفسها أمام العالم، فرص النجاح، الدستور، التاريخ الأمريكي، الخ.
لا جدال علي أن المجتمع الأمريكي به الكثير من المميزات، مثل فرص العمل للمتميزين و التقدم العلمي، إلا أنه به الكثير من المساوئ علي الجانب الآخر. التاريخ الأمريكي مبهر لو تجاوزنا عن إبادة الهنود الحمر و هو ما لا يمكن التجاوز عنه. الديمقراطية الأمريكية مبهرة لو لم تكن مصحوبة بالتضليل الإعلامي و فرض القوة و إبادة الشعوب الأخري في سبيل المصالح الأمريكية.
بالتالي لا جدال علي أن أمريكا بها الكثير و الكثير من المساوئ التي تحتاج لمراجع كاملة لحصرها، و التي يعرفها أي مراهق يمتلك بعض الذكاء الزائد عن اللازم و التي لم ينتبه لها هذا الفتي. الفتي لم ينبهر بالتقدم العلمي الأمريكي مثلاً بل هو في الأصل منبهر بالنموذج الأمريكي ككل، و دخل مجال الكمبيوتر لأن هذا يعطيه فرصة لتمديد إقامته في أمريكا. لا يمكنك كذلك أن تتهم الفتي بالغباء، الفتي قام بحل عدد من المشكلات المتعلقة بتطبيقات الخرائط في جوجل، و هي مشكلات لم يصل فيها عدد كبير من المبرمجين لحل. لاحظ أننا نتتحدث هنا عن مجموعة من أعلي مبرمجين من الناحية التقنية علي مستوي العالم و ليسوا مبرمجين عاديين.
السؤال الذي نطرحه هنا هو كيف لم ينتبه شخص بهذا القدر من الذكاء و العلم إلي أشياء تعد بديهية للكثيرين ممن هم أقل منه ذكاءاً و علماً ؟
يخلط الكثير من الناس بين العقل و الهدي علي الرغم من أن هذا لا يؤدي إلي ذاك. الهدي أو الحكمة هي القدرة علي معرفة الصواب، التفريق بين ما هو سليم و ما هو باطل، من هنا جاءت كلمة الحكم و الحاكم في اللغة العربية، فالذي يحكم مجموعة من الناس يجب أن يكون شخصاً يفرق بين الحق و الباطل، الخطأ و الصواب.
في العصر الحديث إنبهر الكثيرون بالعقل البشري و ظهرت الأفكار التي تقوم علي فكرة أن العقل البشري وحده قادر علي معرفة الخطأ و الصواب، و قادر علي قيادة الإنسان في الحياة دون الحاجة إلي أي عامل آخر. الفكرة يمكن إثبات أنها خطأ لو فكرت في الإختلافات الفكرية العميقة بين الكثير من الأشخاص الذين لا يمكن أن يصنفوا إلا علي أنهم أذكياء. أبسط مثال أينشتين الذي تحدث عن قدرة الخالق الذي أحكم هذا الكون و برتراند راسل الذي كان ملحداً. كلاهما عالم رياضيات له وزنه و بالتالي لا يمكن أن تتهم أي منهما بالغباء و لكن الخلاف بينهما ساحق.
الغربيون تحدثوا كثيراً عن محدودية التفكير، و عن نظر الإنسان للأمور من جوانب محدودة و إهمال الكثير من الجوانب الأخري. قاس علماء النفس الأمر ووصلوا إلي أن الإنسان لا يستطيع سوي أن يفكر في خمس إلي سبع جوانب لأي موضوع علي الأكثر و يهمب باقي الجوانب، و بالتالي إن واجهت الإنسان مشكلة لها جوانب مادية و أخلاقية و إجتماعية فإنه سيركز علي سبع جوانب علي الأكثر و يهمل باقي الجوانب شاء أم أبي. حاول علماء النفس الوصول إلي حلول لهذا الأمر، مثل طرق تفكير القبعات الستة و التفكير الجانبي Lateral Thinking، إلا أن من يقرأ الكتب التي كتبت في هذه الموضوعات يجد أن الحديث عن هذه الأمور دائما ما يدور حول التفكير في المشكلات التي يواجهها الإنسان في العمل. ربما كان هذا مقبولاً في التفكير الغربي الذي يقيس الإنسان بإنجازاته المادية و يركز عليها دون غيرها و يعلي من قيمة العمل فوق كل ما عداه، إلا أن فكرة محدودية العقل البشري تنطبق علي الحياة عموماً بكل ما فيها، الدين والأخلاق و الأراء الإجتماعية و السياسية، الخ. بالإضافة لمحدودية العقل البشري فإن هناك الكثير من العوامل التي تدفع الإنسان للخروج عن التفكير السليم و التقييم السليم للأمور، عوامل نفسية و عوامل متعلقة بتركيب العقل البشري. هذه قائمة تضم ما يزيد علي 90 صورة من صور إنحراف الإدراك Cognitive Bias التي صنفها العلماء.
بالتالي كل إنسان لابد من أن يخطيء في إدراك الصواب و الحكم السليم علي الأمور بقدر ما. يختلف هذا القدر من إنسان لآخر بالطبع، و لكن تبقي هناك نسبة من الخطأ قد تزيد و قد تنقص، و للأسف لا تتعلق حكمة المرء بعلمه أو ذكاؤه، لهذا يمكننا أن نفهم الخلافات الفكرية العميقة بين الكثيرين ممن يصنفوا من قبل الناس علي أنهم أذكياء.
لو رجعنا للفتي الهندي الذي تحدثنا عنه في البداية لوجدنا أنه درس في هارفارد، و لنضع عشرات الخطوط الحمراء تحت هارفارد. هارفارد هي أحد أعلي الجامعات في تصنيف جامعات العالم و دائما ما تتنافس علي المركز الأول مع معهد ماساشوستس للتقنية MIT. حين تحدث ناعوم تشومسكي (و هو أستاذ في MIT و عالم لغويات من الوزن الثقيل و أحد الناشطين السياسيين الرافضيين للسياسات الأمريكية) عن الفارق بين هارفارد و MIT، قال إن هارفارد تعلم الطلبة الإيمان بالمباديء الأمريكية الحمقاء، الإيمان بأن النموذج الأمريكي هو النموذج الأمثل للحياة، الإيمان بالسياسة الأمريكية إلي آخر هذا الهراء. علي الجانب الآخر تكتفي MIT بأن تعطيك العلم فقط و لا تحقن في عقلك أي مباديء أو تحيزات من أي نوع.
منذ بضعة أعوام قدم لورنس سمرز، وزير المالية في عهد كلينتون و المستشار الإقتصادي لأوباما حالياً و الذي كان رئيساً لجامعة هارفارد، قدم حديثاً في أحد المؤتمرات عن دور المرأة في الإنجازات العلمية. الرجل قدم إحصائيات و إستدلالات منطقية تؤدي إلي أن المرأة دورها في الأمور الإبداعية أقل من الرجل ليس لأنها تفتقر للذكاء و لكن لانها تفضل أشياء أخري علي الإنجازات المادية و العلمية، أشياء تتعلق بدورها كزوجة و أم.
علي الرغم من الإستدلالات المنطقية التي قدمها إلا أن أعضاء كلية الأداب بالجامعة تقدموا بطلب لسحب الثقة منه. علي الرغم من أنه لم يتخذ أي قرارات تتعلق بتفضيل الرجال علي النساء أثناء رئاسته للجامعة، إلا انه قد كسر أحد الأفكار الحمقاء التي تمثل النموذج الأمريكي في الحياة و هي فكرة المساواة التامة بين الرجل و المرأة في كل شيء و أي شيء. لحسن الحظ أن تصويتاً تم و تم رفض طلب حجب الثقة عنه.
هكذا يمكننا أن نري أنه وسط مجموعة من أقوي العقليات العلمية في العالم و في المكان الذي تخرج منه سنوياً مجموعة من أهم الدراسات و الأبحاث، يوجد الكثير من التحيز و البعد عن الصواب و ضلال الأفكار، و أيضاً يمكننا أن نري أنه كان منطقياً أن يختار الفتي الهندي هارفارد كمكان للدراسة، إنه المكان الذي يلائم نموذج التفكير الذي آمن به منذ طفولته.
إذا كان العقل عاجزاً عن إدراك الخطأ و الصواب فكيف يمكن للمرء أن يصل للحكمة؟ كيف يمكنه قياس الأمور قياساً سليماً و يحكم علي المواقف و الأفكار حكماً سليماً؟
الهدي أو الحكمة هبة من الله. الله سبحانه و تعالي يقول في الحديث القدسي " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فأستهدوني أهدكم". كما يقول تعالي في كتابه العزيز “يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً”.
أحب دائماً دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه “اللهم أرني الحق حقاً و أرزقني إتباعه و أرني الباطل باطلاً و أرزقني إجتنابه”. أشعر أن هذا الدعاء به الكثير من التواضع، تواضع من عرف قدر نفسه و لم يغتر بعقله و أدرك أن الهدي من الله سبحانه و تعالي، هو القادر علي أن يرشد المرء للصواب.
بالطبع ليس معني هذا أن يلغي الإنسان عقله، فقط هي دعوة لأن يدرك الإنسان حجم نفسه و أنه مهما أوتي من عقل فسيظل دوماً بحاجة إلي هدي الله، و دعوة أن يطلب الإنسان من الله الهدي و هو مؤمن بضعفه و قلة قدراته.