في رواية 1984 نري نظاماً شمولياً قمعياً فيه حزب واحد حاكم و شخص يدعي (الأخ الأكبر) يمثل رئيس الدولة. لم ير أحد الأخ الأكبر يوماً ما، و لكن في كل مكان أنت تري صوراً لرجل قوي الملامح ذو شارب و تحتها العبارة ساحقة الشهرة (الأخ الأكبر يراقبك Big brother is watching you ). يمارس الحزب تزييف للحقائق و التاريخ و الناس يصدقون كل شيء و أي شيء. هنا نري بطلي القصة، وينستون سميث و حبيته جوليا. هما يرفضان هذا النظام و يعرفان تزييفه للحقائق و يؤمنان أنه لا وجود للأخ الأكبر من الأساس، هو مجرد صورة يحكم الحزب الناس من خلالها.
ينكشف أمرهما للحزب فيتم القبض عليهما و تعذيبهما. مهما تعرض وينستون للتعذيب فإنه لا يخون حبيته، لا يعترف بأي شيء تجاهها و يظل علي إعلانه لحبها لها. هنا يلعب معذبه علي نقطة مخاوفه البدائية، فيهده بوضع رأسه في قفص به فأر جائع. وينستون يخاف من الفئران بالذات لهذا يصرخ “أتركوني و خذوا جوليا مكانى”. عندها يتم إطلاق سراحه من السجن !
لم يفهم وينستون ما حدث إلا عندما قابل جوليا و شرحت له الأمر. مهما تحمل المرء للتعذيب فإن هناك شيء ما لدي كل إنسان يخافه و لا يطيقه، شيء يخافه خوف غير منطقي و غير مبرر. عندما يهددك أحدهم بهذا الشيء فإن أول ما يخطر ببالك هو أن تقول (خذوا فلانا بدلاً مني) حتي لو كان فلان هو حبيبك. ربما تخدع نفسك بأن تقول أني كنت أقول هذا لأضلل من يعذبني فقط، لأبعده عني و أتقي أذاه، و لكن في قرارة نفسك أن تعرف أن قد خنت حبيبك. هذا هو ما فعلوه معى أنا و أنت، و من اليوم لن يمكن لأي منا أن يرفع عينه في عين الآخر لأن كل منا يشعر في قرارة نفسه أنه قد خان الآخر.
و هكذا إفترق الحبيبان و كان إفتراقهما هدف رئيسي للحزب.
مهما كان الإنسان مستقل الرأي ولا ينتظر من يخبره بالصواب و الخطأ فإن المرء يحتاج لشخص واحد علي الأقل يؤمن بنفس ما يؤمن به و يدعمه فيما يفعله، و عادة ما ينتظر أن يكون هذا الشخص شريك حياته. علي الرغم من أن المجتمع بأكمله لا يؤمن بما يؤمن به وينستون إلا أنه كان بإمكانه أن يحتفظ بأفكاره المعادية للسلطة و المختلفة عن المجتمع ما دامت فتاته تؤمن معه بنفس ما يؤمن به و يشد كل منهما أزر الآخر. نبي الله موسى عليه السلام، و هو من أولي العزم من الرسل، طلب من الله سبحانه و تعالي أن يشدد أزره بأخيه هارون عليه السلام.
علي الرغم من أن وينستون لم يجاهر بأفكاره يوماً، لم يحاول القيام بإنقلاب علي النظام، إلا أنه حين إفترق عن حبيبته فإنه لم يعد بإمكانه الإحتفاظ بأفكاره نفسها، صارت أفكاره متعبة حين لم يعد يستطع أن يشاركها مع أحد، و في النهاية تنتهي القصة بوينستون واقفاً أمام صورة للأخ الأكبر و نقرأ العبارات التالية:
“وقف محدقاً في الوجه العملاق. لقد إستغرق الأمر منه أربعين عاماً ليفهم الإبتسامة المختفية خلف هذا الشارب الأسود. يا للجهل القاسي ! يا للعناد الذي حرمه من الصدر الحنون! سالت دمعتان علي وجهه. الآن كل شيء علي ما يرام، لقد إنتهي الصراع و إنتصر علي نفسه. لقد أحب الأخ الأكبر”.
في نقاش علي موقع ريديت، سأل أحد الأعضاء “ما هي العبارة الأكثر إثارة للإحباط في الأدب الإنجليزي؟” فكان رأي الكثيرين أن العبارة الأخيرة في القصة، “لقد أحب الأخ الأكبر He loved big brother” هي أكثر العبارات إثارة للإحباط في الأدب الإنجليزي كله. هذه عبارة تصف شخصاً يعانى من مجرد الحفاظ علي أفكاره نفسها، شخص صارت أفكاره عبئاً و صراعاً و صار عليه أن ينتصر علي نفسه بأن يقنعها بأن تحب وهماً لأنه وحيد في مجتمع لا يؤمن بما يؤمن هو به.
اللهم أرزقنا من يشدد أزرنا.