كانت هناك معضلة في الفكر السياسي الغربي هي : كيف يمكننا أن نزيح الملك بعد أن نصبناه ملكاً (يملك الأرض و الناس)؟ كيف نزيح شخص هو الذى له الحق في أن يزيحنا بالقتل أو السجن إن خالفنا القانون مثلاً؟ كانت الفكرة الرئيسية في كتاب العقد الإجتماعى لجان جاك روسو، هي أن العلاقة بين الحاكم و المحكومين هي نوع من العقد الذي له شروط، إن خالفها الحاكم يعتبر العقد لاغياً و بالتالي لا يصبح حاكماً. تفصيل هذه الشروط طويل و لكن يمكن تلخيصه في أن يحافظ الحاكم علي مصالح الدولة و الناس.
كانت هذه الفكرة فكرة جديدة تماماً علي الفكر السياسى الغربي، و علي أساسها قامت الثورة الفرنسية. ماكسمليان روبسبيير، أبرز قادة الثورة الفرنسية، لم يكن يفارق الكتاب، يصحبه معه في كل مكان و يعيد قرائته بإستمرار. فكرة العقد الإجتماعي مازالت مؤثرة في الفكر السياسي حتي اليوم و لاقت الكثير من العرض و التحليل من الكثيرين، و لكن هناك أفكار أخرى هامة في الكتاب لم تلاقي نصيباً من التحليل و العرض، أحدها هي الفكرة الأساسية في هذا المقال.
الفكرة التي تهمني هنا هي فكرة (إن تخلصنا من الإستبداد السياسي و إفساد الضمائر فإننا كلما واجهتنا قضية و إجتمعنا لمناقشتها بضمير يقظ يهدف لمصلحة المجتمع و البلد فلابد أن نتفق علي حل واحد للقضية أو للمشكلة). هذه فكرة علي الرغم من سذاجتها إلا أنها كانت فكرة أساسية في تفكير روبسبيير، مما دفعه ذات مرة لأن يلقي خطبة في البرلمان الفرنسي قال فيها أنه لن يفترض أي درجة من حسن النية لدي من يخالفونه في الرأي. هو يري نفسه أنه متحرر من الإستبداد السياسي و فساد الضمير (خصوصاً بعد إسقاط الملك) و يعمل لمصلحة البلاد، بالتالي، طبقاً لفكر روسو، فإن من يخالفه في الرأي هو شخص لم يتحرر بعد فكرياً أو فاسد و لا يهدف لمصلحة البلاد. بسبب هذا مات معظم قادة الثورة الفرنسية قبل أن يبلغوا الرابعة و الثلاثين من العمر، و من ضمنهم روبسبيير نفسه، لأنهم أخذوا في إعدام بعضهم البعض لإختلافات الرأي، التي تعني في رأيهم أن هذه علامة خيانة أو عبودية فكرية و عدم تحرر.
من السذاجة أن نفترض أن إسقاط الملك وحده كان كفيل بحل كل المشاكل. فكرة الجمهورية فكرة وليدة لم تكتمل بعد و ليست هناك تجارب سابقة لها، بالتالي كان المنطقي أن يتوقع قادة الثورة الفرنسية من أنفسهم أن يخطئوا و أن يصححوا أنفسهم إلا أن هذا لم يحدث. سان جوست، أحد قادة الثورة الفرنسية، قال ذات مرة (إن الجمهورية تقوم علي جثث معارضيها). هذه سذاجة سياسية، نحن اليوم نعرف أن الجمهوريات تقوم علي قوانين و نظم و مجالس نيابية و رقابية، الخ، و نحن نعرف هذا لأننا رأينا الكثير من الجمهوريات و التجارب السابقة و لكن الجمهورية التي أنشأتها الثورة الفرنسية كانت أول جمهورية فى التاريخ المعاصر، لم يكن لديهم نماذج سابقة يقيسوا عليها. سان جوست نفسه كان مراهقاً لم يخض أي تجارب سياسية لأن الملك و حاشيته كانوا يحتكرون السياسة، لم يمر بمواقف يقدم فيها تنازلات أو الوصول لحلول وسط و هو شيء أساسي في السياسة، و لكنه لم يدرك هذا عن نفسه، لم يقبل النقد و لم يحاول أن يصحح نفسه و كان من الذين تم إعدامهم من قادة الثورة الفرنسية.
النظم القمعية تؤثر في فكر الناس و ليس فقط في إقتصادهم، الشعب الفرنسي كان منغلق و عديم الثقافة و الخبرة، حتي فكرة روسو نفسها التي تعامل معها الكل علي أنها فتح فكرى، أشار لها إبن خلدون في مقدمته بدرجة أقل من التفصيل، و ذكر أن منها إشتقت كلمة البيعة، تشبيها للعلاقة بين الحاكم و المحكوم بعقد البيع، حيث أن عقود البيع في الإسلام من الممكن أن تكون مشروطة و الإخلال بشروط العقد يلغيه و يلغي البيع، و حتى بدون الجانب التنظيرى فإن الفكرة موجودة في الفكر الإسلامى منذ عهد أبى بكر رضي الله عنه الذي قال (أطيعوني ما أطعت الله فيكم)، و منذ أيام الفقيه الذي دخل علي معاوية بن أبى سفيان و خاطبه بقوله (أيها الأجير) بدلاً من (أيها الأمير) في إشارة لأنه أجير أو موظف عند المسلمين. يمكننا أن نرى في تعامل الغربيين مع فكرة العقد الإجتماعى علي أنها فكرة جديدة علامة علي الإنغلاق الفكرى الذي كان يسود المجتمع وقتها و عدم إنفتاحهم علي ثقافة أخرى هي الثقافة الإسلامية.
اليوم نرى نفس الفكر موجوداً في مصر، البعض كان يظن أن إسقاط النظام السابق هو ما ينقصنا لنصير من دول العالم العظمي و أننا سنتفق علي ما فيه صالح البلاد فقط إن سقط مبارك و نظامه، بالتالي كل الخلافات في الرأي تتحول إلي تخوين مباشر و ينقصنا فقط أن يصدر بعضنا علي بعض أحكام الإعدام كما فعل قادة الثورة الفرنسية.
الإستبداد السياسي لا يؤثر في إقتصاد البلاد فقط بل في ضمائر الناس و عقولهم و تفكيرهم، و هي فكرة قديمة شرحها إبن خلدون في المقدمة. ليس هذا فقط، في كتاب القرآن و السلطان، ذكر الأستاذ فهمي هويدي عدة أمثلة علي إرتباط التشدد الديني و الأخذ بظواهر النصوص و التبعية التامة للشيوخ بفترات القهر السياسي، حتي وصل الأمر بأحدهم أن قال أنه يرفض كل ما يعارض ما يقوله شيوخنا حتي إن كان من الكتاب و السنة ! و قد قيلت هذه الكلمة في عهد عبد الله السفاح مؤسس الدولة العباسية.
للأسف الأمر وصل بالبعض لأن يرى أن الثورة قد فشلت بسبب الخلافات و التخبط بين الأطراف السياسية المختلفة و هي وجهة نظر أختلف معها. نجاح الثورة لا يكون بالمشهد السياسى بل بما تحدثه في الناس من تأثير. الثورة الفرنسية قتلت الملك ثم إنتهت بعد عشر سنوات بإمبراطور (نابليون بونابرت) إلا أن هذا لا يساوى أن العهد الملكي عاد، فنابليون تم نفيه و إستمرت الثورة بما أحدثته من تغيير في الفكر الإنسانى و أخرجت أوروبا بأسرها من الملكية.
في بحث بعنوان الإستيلاء علي السلطة صادر عن مركز الدراسات الدولية بجامعة برنستون عام 1964، قال أندرو جانوس أن الدول المعرضة للإنقلابات العسكرية هي الدول التي تسود فيها اللامبالاة السياسية، التى لا يبالي فيها الناس بما يقوم به السياسيون أيا ما كان.
قارن الوضع قبل الثورة، حيث لم نكن نهتم بأن نعرف من هم الوزراء و أعضاء مجلس الشعب من الأساس، بالوضع الحالي، و هو علي الرغم من قتامته و ما فيه من هراء و تنافر و عدم توحد إلا أن فيه نقطة هامة هى أن الناس صارت مهتمة بما يحدث و تتحرك بناء علي ما يحدث في الساحة السياسية، بعبارة أخرى زالت من عندها اللامبالاة السياسية. هذه نقطة شديدة الأهمية فى رأيي.
علي الجانب الآخر لابد أن نعترف أن المجتمع نفسه، أنا و أنت و أهلي و أهلك لديهم مشاكل فكرية، و ما نراه اليوم علي الساحة السياسية جزء مما يسود المجتمع من إنغلاق فكرى و قلة خبرة و تجربة. الآباء الذين يربون أبنائهم علي فكرة (يجب أن تصير مثل أبيك أو أمك)، و ما أكثرهم في مجتمعنا، لا تنتظر منهم مرونة فكرية في تربية أبنائهم و في نفس الوقت لا تنتظر منهم مرونة مع الآخر حين يمارسوا السياسة. أستاذ الجامعة الذى يري نفسه أعلم من الطالب فقط بسبب فرق السن لا تنتظر منه أن يتقبل رأي الشباب حين يصير عضو مجلس الشعب. الأشخاص الذين لم يمارسوا السياسة يوماً لا تنتظر منهم أن يصيروا كلهم نسخة من أردوغان لمجرد أن نظام مبارك سقط.
تصحيح ما أحدثه ستون عاماً من الإستبداد السياسي، و ما سبقه من سنوات الإحتلال، لن يأتي في يوم و ليلة، المهم أن نقبل فكرة أننا محدودى الخبرة السياسية و منغلقين فكرياً و محدودى الثقافة، يجب أن نصحح أنفسنا و نرفع من خبراتنا و مستوانا الفكرى، يجب أن ننتقد من يخطىء و نفكر في نقاط النقد التي يوجهها لنا الآخرون، و يجب أن لا نحول كل خلاف في الرأى إلي تخوين أو حقد علي ما حققه فريق معين من نجاح سياسي.