في عام 1928 نشر الأديب الألماني (إيريك ماريا ريماركيه) روايته الشهيرة (كل شيء هاديء علي الجبهة الغربية) التي إنتقد فيها الحرب العالمية الأولي. علي قدر علمي كانت هذه أول رواية تعرض فكرة الإنفصال التام الذي يشعر به الجنود العائدون من الجبهة بعد حرب طويلة عن المجتمع المدني. ربما كان نمط الحياة المختلف أو البعد عن المجتمع لفترة طويلة مبرراً منطقيا لما وصفه الكاتب إلا أن الأمر يتجاوز هذا المستوي للأسف هذه الأيام.
حين قامت أمريكا بغزو العراق ظهرت بعض المقالات التي تتحدث عن ظاهرة غريبة. الجنود يشتاقون للخروج من هذا الجحيم، حيث السيارات المفخخة، عمليات الإغتيال التي يقوم بها قناصة المقاومة العراقية، حوادث إختطاف الجنود، الخ. حين يعودون إلي الوطن في أجازة قصيرة يجدوا أنفسهم يشتاقون للعودة ثانية إلي العراق التي كانوا يحلمون بالبعد عنها !
عثرت منذ بضعة أيام علي مقال مثير كتبه أحد الجنود الأمريكيين بعد عودته من العراق بعام و نشرته مجلة إسكوير يتعرض لهذه النقطة بالكثير من التفصيل. سأقوم هنا بترجمة مقتطفات من المقال و يمكن لم يريد ان يقراه كاملاً أن يقرأه علي موقع المجلة هنا.
“منذ بضعة شهور عثرت علي موقع به صور و أفلام تم تم تصويرها في العراق تضم ما لا تنشره وسائل الإعلام عادة. الموقع يضم صور و أفلام لعمليات إغتيال يقوم بها قناصة المتمردين، سيارات مفخخة تفجر الأسواق، أفلام لطرق خالية ثم تظهر في الكادر سيارة همفي تابعة لدورية للجيش الأمريكي فيدوي إنفجار تتطاير فيه قطع من المعدن و تختفي السيارة في سحابة من الأتربه و الدخان لها شكل فطر عيش الغراب. هناك صور أخري تظهر متمردين يتم قتلهم أثناء محاولاتهم لزرع قنابل علي جوانب الطرق أو جثث هؤلاء المتمردين بعد قتلهم في إشتباكات مع القوات الأمريكية”.
“الصور أعطتني شعوراً بالغثيان و لكن كان فيها شيء مألوف جذبني لها. أخذت أنقر متنقلاً بين الصور و الأفلام و أنا أشعر بجوع للمزيد منها . لابد أن هذا هو شعور من يأخذ جرعة من المخدرات بعد أن مر عليه زمن طويل توقف فيه عن التعاطي. شعور بالهدوء و شيء من الدوار، شيء من الوخز في جسمي كله و ألم بالمعدة و شعور بالخواء. قمت علي ساقين ضعيفتين و دخلت المطبخ لأعد لنفسي العشاء. أمسكت بصلة و شطرتها بالسكين ثم وضعت السكين جابناً و نظرت ليدي و أخذت أراقب إرتعاشها. إستمرت الإرتعاشات و لم تتوقف. إستندت بجسدي علي المنضدة و أغمضت عيني و قد سيطر علي شعور بالغربة. "
“يمكنني أن أري الراحة التي يشعر بها كل من قلقوا علي حين كنت في العراق، و لكن راحتهم و سعادتهم أورثتني شعوراً بالذنب. ربما يظنون أني مثلهم سعيد بعودتي من العراق، و أنه إن عاد بي الزمن لما ذهبت إلي هناك. و لكني أفتقد العراق و أفتقد الحرب، و هو الأمر الذي يسبب لي الكثير من العناء محاولاً أن أفهم له سبباً”.
“الحرب تغير الثوابت التي نعرف بها طريقنا في الحياة، تلقي الضوء علي مناطق في نفسية الإنسان لم يرها الكثير من البشر. ما أن تري هذه المناطق المجهولة فإن الأمر لا يعود كما كان، و تصبح هذه المناطق جزء منك. أتذكر أنني قبل أن ألتحق بالجيش و في حفلة حضرتها منذ بضعة أعوام سمعت جندياً في مشاة البحرية يخبر إمرأة أنها إن حملت مسدساً (حتي إن إخفته في ثيابها بحيث لا يكون ظاهراً للناس) فإنها ستري العالم بشكل مختلف، سواء بشكل أفضل أو أسوأ. لم تقتنع المرأة و هز الرجل كتفه معرضاً. لا جدوي من المناقشة، هو فقط كان يعرض أحد الحقائق. الجندي كان بالتأكيد محقاً، و هذه هي البداية”.
“لقد أمضيت ساعات مراقباً العالم من منظار بندقية. نساء يقمن بنشر غسيلهن علي سطوح المنازل، رجال يساومون علي فخذ ضاني في السوق، أطفال يسيرون إلي مدارسهم. كنت أشاهد العالم و أتمني لو أن شخصاً ممن أراهم قد صارت حياتهم أفضل بسببي، و لكني في نفس الوقت كنت أتمني لو إرتكب أحدهم خطأ يسمح لي بقتله. حين تحمل سلاحاً بنية القتل فإنك تخطو إلي ملعب غريب. كل يوم هناك من يصحو في الصباح و في نيته أن يقتلك اليوم. حين تخطو إلي الشارع فإنهم ينتظرونك و أنت أيضاً تتشوق لأن تقتلهم. ليس هذا تعطشاً للدماء، و لكنها المهنة التي تعلمتها. و كجندي أمريكي فانت تمتلك مجموعة مدهشة من الأدوات التي تمكنك من أداء وظيفتك. يمكنك أن تستخدم بندقيتك، ترمي بقنبلة يدوية. إن لم يكن هذا كافياً يمكنك أن تستدعي الدبابات، الهليكوبتر و ربما النفاثات. المتمردين أيضاً لهم أدواتهم التي يقلبون بها الأسواق إلي فوضي تامة، محولين الزحام إلي أشلاء متناثرة و مركبات الهمفي إلي نفايات محترقة. وسط كل هذا أنت جزء من هذا العرض السحري، قوي للغاية و لا حيلة لك في نفس الوقت”.
“الحرب مثيرة. أحيانا كنت أشعر بالصدمة حين أدرك هذه الحقيقة و أحياناً كنت أشعر بمدي وضاعتي لحبي للحرب، و لكني مازلت أحبها. حتي في لحظات السكون المؤقتة فالحرب أكثر إشراقاً، أكثر ضجيجاً، أكثر تهوراً، أكثر مرحاً، أكثر مأسوية، أكثر تخريباً من أي شيء أخر. الحرب أكثر في كل شيء من أي شيء آخر. "
“عادة ما كنا نقوم بعمليات مداهمة المنازل في الليل، لذا كان الناس يصحون فزعين علي صوت الجنود و هم يقتحمون غرف نومهم. النساء و الأطفال يصرخون و يبكون و أنا أفكر في الأمر. لو حدث هذا معي، لو إقتحم الجنود غرفة نومي في منتصف الليل بينما أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً لأحمي أسرتي فبالتأكيد سأكره هؤلاء الجنود. علي الرغم من هذا ظللت أشعر بالمرح في عمليات المداهمة بسبب الإحتمالات التي تضمها، من المحتمل أن تجد منزلاً مفخخاً، متمردين بإنتظارك بأسلحتهم أو لا تجد شيئاً علي الإطلاق”.
ثم يروي الكاتب ما قاله له زميل آخر من الذين عادوا معه من العراق: " الرتابة تقتلني. أريد أن أذهب في عملية مداهمة، أريد أن ينفجر شيء ما، أريد شيئاً يحدث تغييراً في روتين اليوم”.
يعلق الكاتب علي هذا قائلاً:“إنه يريد المجهول. أي شيء قد يحدث، و بالفعل أي شيء يحدث. في لحظة واحدة يتناثر عالمك و تجد كل شيء قد تغيير”.
“ليست الحاجة للإثارة و الشعور بالخطر وحدها هي ما يجعل البعد عن الحرب صعباً. حين كنت أعود إلي الوطن في أجازات كان أشخاص لا أعرفهم يرسلون لي صناديق من الحلوي. في المطار كان أشخاص ليس لي بهم سابق معرفة من قبل يحيوونني بل و قد يحتضني بعضهم. ذات مرة كنت أتناول العشاء مع أسرتي في مطعم فطلب لي شخص علي المائدة المجاورة زجاجة من الخمر ثمنها أربعمائة دولار. لم تشعرني هذه اللحظات بالإرتياح إلا أنها كانت لحظات تدير الرأس بلا شك.
“في العراق إن كان لديك ما تقوم به خارج الأسوار الشائكة المحيطة بالقواعد الأمريكية، فأنت تقف عند البوابة و تجهز عتاد الحرب. تأخذ خزينة رصاصات بها 30 رصاصة و تزن ما يزيد عن رطل بقليل، تركبها في بندقيتك و تضربها بيدك لتثبتها. تسحب ذراع التعمير في البندقية ثم تتركه. المزلاج في داخل البندقية يرتد ساحباً معه رصاصة يثبتها في ماسورة البندقية. تشاك – تشك. يمكنني أن أتعرف هذا الصوت في ثانية واحدة إن سمعته بعد قرن من الآن. هذا صوت لا يمكن أن يخطؤه أحد، صوت يعد بالكثير من الإحتمالات.حين تقف علي لوح القفز في حمام السباحة و طبقاً لما يدرسه طلبة المدارس في مادة العلوم، فإن جسدك هو طاقة وضع. حين تقفز فأنت طاقة حركة. و هكذا بينما أخرج من البوابة و أقفز من علي لوح القفز تتحول الطاقة”.
إنتهي المقال.
علي الرغم من أن الكاتب قد ذكر في بداية المقال أنه كان يتسائل في نفسه حين كان في العراق عن أهمية الحرب و جدوي ما يقوم به إلا أنه قرب نهاية المقال يذكر أن الحرب كانت ضرورية دون أي المبررات. الكاتب ليس جندياً بسيطاً كما يشي أسلوب كتابته. طبقاً لما ذكرته ويكيبيديا فإن مجلة إسكوير معروفة بغلبة الطابع الأدبي عليها و بالتالي لن يكتب بها جندي عادي. لاحظ أيضاً أنه يصف المقاومة العراقية بلفظة المتمردين Insurgents. علي الرغم من تعدد فصائل المقاومة و إتجاهاتها و علي الرغم من أن منهم من يدافعون عن بلدهم إلا أن الكاتب يجمعهم كلهم تحت تصنيف واحد هو المتمردين.
حين وضع رابط المقال علي موقع reddit علق أحد الجنود الذين حاربوا في فيتنام قائلاً إنه أثناء الحرب أصدر فريق البيتلز أغنية شهيرة إسمها (السعادة بندقية دافئة). كان في الأغنية مقطع يقول فيه جون لينون مخاطباً البندقية “حين أشعر بإصبعي علي زنادك أدرك أن أحداً لا يستطيع أن يؤذيني”. يقول هذا الجندي أن هذه الأغنية كانت أغنيته المفضلة حتي أخبره أحدهم أن الأغنية تسخر من الحروب. لقد كان يظن أن البيتلز يصفون شعوراً طبيعياً هو من بديهيات الحياة.
البعض رأي أن ما وصفه الكاتب هو وصف لمرض معروف هو (خلل ما بعد ضغط الإصابة Post Traumatic Stress Disorder) و هو مرض نفسي له علامات جسدية في الجسم و المخ، و يحدث بعد تعرض المرء لضغوط نفسية بسبب مخاطر كانت تهدد بإصابة جسدية أو قتل. المثير أن هذا المرض و كثير من المعلومات المتعلقة به تم الوصول لها من ملاحظة ما حدث للجنود في فيتنام. ضع في الإعتبار أن حربي فيتنام و العراق تتشابهان في أن كلاهما كان حرب عصابات تعرض فيها الجيش الأمريكي لعمليات الإغارة و الإختطاف و القتل التي لا يمكن التنبؤ بها من عدو خفي. دائماً ما تكون المواجهة بين الجيوش المنظمة و العصابات مرهقة لأعصاب الجيش و تضعه في ضغط نفسي دائم من خطر مجهول التوقيت و المصدر.
كلمة أخيرة
لماذا لم يذكر أحدهم أن أحداً من الذين شاركوا في حرب 1973 قد مر بتجربة مماثلة؟ لماذا لم يذكر أحدهم شعوراً مماثلاً لدي أي من فصائل المقاومة الفلسطينية أو العراقية؟ العامل الرئيسي كي يحتفظ المرء بسلامة نفسه و هو يحمل سلاحاً أو يملك قوة ضخمة هو أن يدرك الهدف الذي من أجله يحمل السلاح، أن يكون حمل السلاح دفاع عن قضية يؤمن بها المرء. في المقال تشتت الكاتب و تشككه في جدوي الحرب و لماذا يفعل ما يفعله كان واضحاً، و بالتالي فلقد إفتقر للعامل الرئيسي في الذي يضمن له سلامة نفسيته بعد تجربة كهذه.