إنتهيت للتو من قراءة رواية (الفيل الأزرق) لأحمد مراد. الرواية شديدة الإحتراف و التشويق إلا أنها مليئة بالتفاصيل الجنسية التي كان يمكن إختصار أكثر من نصفها علي الأقل دون إخلال بالرواية، تفاصيل تجعل روايات علاء الأسواني روايات تصلح للأطفال أقل من عشر سنوات. أنا أري أن كتابة مثل هذا الكم الهائل من المشاهد و الأحداث و التفاصيل الجنسية في رواية ينافي الدين و لكن هذا رأي لا يتفق معه الكثيرون و هذا طبيعي، الناس لا و لن تتفق علي هذه النقطة و علي نقاط أخري كثيرة (ولا يزالون مختلفين).
ما أريد أن أطرحه هنا هو لماذا لا نجد روايات تتوافق مع أفكار و مباديء فئة كبيرة من الملتزمين أو المتدينين؟ في كل مجتمع هناك روايات تعبر عن مختلف الأفكار في هذا المجتمع. حتي في السينما، يمكننا أن نري في أمريكا أفلاماً لمسيحي متدين مثل ميل جيبسون و أفلاماً ليهودي متعصب مثل سبيلبيرج و أفلاماً بها قدر محترم من الإلحاد، و لكننا هنا في مصر لا نري إلا أفلاماً و روايات تعبر عن أفكار و مباديء فئة واحدة هي فئة غير المتلزمين دينياً.
اليوم يكثر الحديث عن الإستقطاب في مصر إلا أنه حديث يدور عن الإستقطاب في السياسة فقط. الإستقطاب قبل أن يكون سياسياً فهو إستقطاب في المجتمع كله، إستقطاب جعل كل فئة لا تسمع ولا تقبل إلا نفسها حتي فيما يتعلق بالأدب و السينما. يقول ستيفن كينج أنه لكي تكون كاتباً جيداً فإن عليك أن تقرأ كثيراً و تكتب كثيراً. الإسلاميين لن يقرأوا رواية مبنية علي أفكار تعارض أفكارهم حتي و إن كانت فيها نقاط إحترافية كثيرة بالتالي لن يخرج منهم يوماً أديب محترف. الإسلاميين لن يشاهدوا أفلاماً فيها ما يخالف أفكارهم وبالتالي سيفقدون سيلاً من الأفكار و التقنيات و الأساليب التي قد تمكنهم من عمل أفلام تعبر عن أفكارهم و مبادؤهم يوماً ما.
عادة ما يفخر المتدينون بأنهم يأخذون الحق من أي مصدر إلا أن هذا الحق يتوقف عند قوانين الفيزياء و الكيمياء ولا يتعاداهما للنظر لما عند الآخر من أفكار أو مهارات في مجالات إنسانية و أدبية مثل كتابة الروايات. سيظل الإسلاميين يتحدثون عن الأدب النظيف إلا أن هذا الأدب لا وجود له اليوم بشكل إحترافي إلا في كتابات أحمد خالد توفيق أما السينما النظيفة فإنها مثل العنقاء، سمع عنها كل الناس إلا أن أحداً لم يرها يوماً ولا أعتقد أننا سنراها في المستقبل القريب.
علي الجانب الآخر فإن (المثقفين) لا يعتبرون الدين أحد مصادر المعرفة و الفكر بل يحجمونه في نطاق الشعائر في أغلب الأحوال. ذات مرة إستشهدت في نقاش برأي ديني أو نص ديني فرد علي واحد ممن يتابعون ما أكتب قائلاً بأسف (كنت أظن أنك ليبرالي) . لا أعرف ما هو تعريفه لليبرالي و ما تعارض النص الديني مع الليبرالية حسب مفاهيمه، و لكن في النهاية هو كان يظنني ليبرالياً بناء علي ما قرأ من أفكاري حتي وجد أني أستخدم الدين كأساس للتفكير مما هدم تصينفيه لي.
هذا الموقف هو لمحة من أحدي مشكلاتي، أني لا يمكن تصنيفي بالنسبة لكثير من الناس. الكثيرين يرون في (أمريكياً يعيش في مصر) بينما آخرين يرون في شخص كاره للحضارة الغربية ألصق بها كل التهم الممكنة.عدد لا بأس به من الناس تعجب من كوني أنتقد المجتعات الغربية بشدة رغم أني أستدل علي الكثير من أفكاري بأرقام و حوادث و أراء لبعض المفكرين الغربيين. بالإضافة لهذا فإني أثق أن عدداً ممن يرون أني (كاتب إسلامي) قد يذهلون مثلاً حين يعلمون أني حالياً أقرأ كتاباً لأحد أشهر المفكرين الماركسيين الغربيين و أري أن الرجل لديه الكثير ليضيفه لي علي الرغم من خلافي معه في الكثير من النقاط. هذا كفيل بكسر تصنيفي ككاتب إسلامي (و هو شرف لم أدعيه) و ربما دفعهم لمقاطعة ما أكتب.
تقول د. هبة رؤوف عزت أن الاستعمار فصل بين مسار العلم الشرعي والعلوم الاجتماعية ليخلق مناخا علمانيا،فكانت قطيعة بين الفقيه والمثقف في مجتمعاتنا. لا أحب أن ألصق كل السلبيات بالإستعمار ، أو علي الأقل أفضل أن نعترف أن فينا خطئاً ما بالإضافة لما حاول المستعمر أن يبث فينا من عادات سلبية.
في تحليله للشخصية المصرية قال د. حامد عمار في كتاب (في بناء البشر) أن المصريين يمتازون بقلة الثقة بالنفس مما ينشر بينهم سلوكيات التفاخر الزائف و ما إلي ذلك. ربما كان إنعدام الثقة بالنفس هي ما يمنع المرء من معرفة ما عند الآخر و أخذ ما عنده من فائدة و ترك ما لا نقتنع به أو يخالف ما نؤمن به. ذات مرة عبرت عن رأيي بأن الإسلاميين لا يقرأون إلا كتابات إسلاميين مثلهم فردت علي أحداهن بأنها لا تقرأ كتابات غير الإسلاميين لأنها تري أنها لم تتعمق في الفكر الإسلامي بالقدر الكافي الذي يسمح لها بالإنتقال لقراءة أفكار غير الإسلاميين. هذه لم تكن فتاة مراهقة في بداية التعرف علي الفكر الإسلامي بل إنسانة مثقفة في منتصف العشرينات.
يمكنك أن تري هذا أيضاً بشكل واضح في سلوك بعض الإسلاميين الذين يتحدثون عن أساسيات التفكير، مدخلات التفكير و مخرجاته، مراحل التطور الفكري، العوامل التي تؤدي للخطأ عند الإستدلال و تكوين الأحكام، الخ، و لكنهم في النهاية لا يطبقون هذا في السياسة أو الإقتصاد أو الإجتماع لأنهم لا يقرأون في هذه المجالات. هم يكتفون فقط بالحديث عن التفكير دون أن يمارسوه، يهتمون بما يمكن أن يؤدي لإنحراف الفكر أكثر من إهتمامهم بالفكر نفسه .
أعتقد أن إنعدام الثقة بالنفس تفسير أكثر منطقية من فكرة الحاجز الذي أقامه الإستعمار بين المثقف و الفقيه، و أعتقد أن مشكلة الإستقطاب أعمق من أن نتكلم عنها بين بعض الأحزاب السياسية بل هي سمة من سمات المجتمع ككل و خطأ وقع فيه المتدينيون و المثقفون بنفس القدر تقريباً.