ينظر الكثيرين للتربية علي أنها وسيلة (لصنع) إنسان بمواصفات معينة. ربما كان هناك نموذج عام للشخصية القويمة في رأي كل إنسان و بالتأكيد فإنه يحب أن يكون إبنه أو بنته علي نفس هذا النموذج العام لكن البعض يبالغ في تخصيص هذا النموذج لدرجة أن الأمر يتحول في النهاية لما يشبه خط إنتاج وهمي يظن الأبوين أن الإبن يدخله ليخرج (مطابقاً للمواصفات). بالطبع لا أحد يقولها بهذا الوضوح و الإطلاق إلا أن هذا يظل الوصف الأمثل لسلوك هذه النوعية من الآباء. بالطبع الحياة ليست كذلك و لابد أن فشل خط الإنتاج يصيبهم بالإحباط.
ألدوس هكسلي في تصوره للمستقبل في رواية (عالم جديد شجاع Brave new world) كان يري أن الأطفال يتم تصنيفهم في خمس فئات مختلفة بحسب الوظيفة التي سيشغلونها في المجتمع، بالتالي يتم تغيير كل طفل جينياً ليكون مناسباً للصورة المقرر له أن يكون عليها حين يكبر. كل الأطفال من نفس الفئة ينامون سوياً في عنبر واحد، تربيتهم تكون متطابقة فيسمعون نفس الدروس أثناء نومهم من خلال آلات تعلمهم أثناء النوم ليصيروا في النهاية ملائمين للعمل الذي سيعملوه في المستقبل. ربما كان هذا يهدف لنقد التغيرات الإجتماعية و الإقتصادية التي أحدثها إستخدام خط الإنتاج في الصناعة، إلا أن الفكرة ربما تكون مشابهة لبعض ما يتصوره الآباء عن التربية. عموماً التربية هي رعاية لمسار النمو. الطفل يمر بمراحل معينة و كل ما علي الأبوين أن يعرفا إحتياجات الطفل و يشبعوها، لا أكثر ولا أقل. ربما كان الأمر مفهوما لو تكلمنا عن النمو و الإحتياجات الجسدية، فالطفل يزيد طوله و وزنه مع الوقت و تزداد قوة عضلاته إلي آخر مراحل النمو الجسدي المعروفة، و الأبوين يقدما له الغذاء و العلاج المناسبين لمراحل نموه المختلفة. هذا واضح و لا خلاف عليه.
النمو النفسي و العقلي يشبه النمو الجسدي، مراحل طبيعية تحتاج من الأبوين تقديم إحتياجاتها المختلفة التي تتغير من مرحلة للأخري. هذا التفكير في التربية يحمل عدد من المباديء الهامة في طياته.
أولا لابد أن يدرك الأبوين هذه الإحتياجات النفسية و العقلية، و هي إحتياجات لا يمكن معرفتها كلها بالبديهة و تحتاج تعلم و قراءة. عموماً التربية من الموضوعات التي تؤخذ (كيفما إتفق) في مجتمعنا و نادراً ما تجد أحدهم يسعي بالفعل لأن (يتعلمها).
ثانياً: الأب و الأم ليس لهم سيطرة مطلقة علي الطفل. هناك صفات نفسية و عقلية يولد بها الطفل. بالطبع العلم بالتعلم و الحلم بالتحلم، لكن هناك شيء يسمي الموهبة. مثلما يوجد شخص موهوب في لعب الكرة هناك شخص موهوب في صبره منذ طفولته الأولي و هناك الموهوب في الشعور بالآخرين و التجاوب مع شخصياتهم المختلفة و هناك الموهوب في قدرته علي الفهم العلمي و العقلي. هذه مواهب تفصح عن نفسها في السنين الأولي لمن يحسن ملاحظتها و هي شيء لا يمكن أن تشتريه.
مهما حاولت أن أتدرب علي الكرة فلن أصير ميسي. بالتأكيد لو ترك ميسي تدريباته سينخفض مستواه، لكن التدريب وحده لا يكفي. هناك سبوبة لا بأس بها يجنيها مدربو التنمية البشرية من فكرة أنه بالإرادة و الإصرار تصنع أي شيء إلا أن الحياة ليست كذلك للأسف. بالتالي من أساسيات التربية أن يفهم المربي قدرات إبنه و نقط قوته و ضعفه و يربيه بناء عليها، يراعي نقط القوة و ينميها و يحاول أن يسد ثغرات الضعف قدر الإمكان.
هناك أيضاً تأثير هام خارج سيطرة الأب و الأم لا يمكن إغفاله هو تأثير المجتمع، يمكنك أن تحاول قدر الإمكان أن تضع إبنك في مجتمع مناسب (حي مناسب، مدرسة مناسبة، الخ) لكن لا يمكنك رسم أدق صفات المجتمع المحيط بإبنك و بالطبع لا يمكنك أن تنشيء طفلاً بعيد عن المجتمع لأن هذا في حد ذاته ينتج شخصاً مختلاً.
ثالثاً: هناك فارق بين إحتياجات الطفل و إحتياجات الأب أو الأم أنفسهم. عادة يحاول كل إنسان أن يعطي إبنه أو إبنته ما يظن أنه حرم منه أو تمناه في طفولته. هذا رائع و عظيم لكن إحتياجات الإبن و ما يحب و يكره قد يكون مختلفاً عما كان عليه الأب أو الأم في طفولتهما.
ذات مرة ذهبت لأشتري هدية لإبن أختي في عيد ميلاده. يومها وقفت طويلاً أمام لعبة عبارة عن طائرة هليكوبتر تطير بالريموت كونترول و يمكن التحكم فيها لترتفع و تنخفض و تنحرف يمينا و يساراً، الخ. هي لعبة معقدة و هو وقتها كان عمره سنتين أو ثلاثة، و اللعبة مكتوب عليها أنها لسن ثمان سنوات. يومها وقفت طويلاً أمامها لأني في طفولتي سمعت عن هذه اللعبة و لم أرها أنا أو أي من أصدقائي، أقصي ما إمتلكناه وقتها كان السيارة التي تسير بريموت كونترول و ليس طائرة تطير فعلياً.
وقتها إنتبهت لحقيقة أني كنت أشتري اللعبة لنفسي و ليس له، أشتري اللعبة لنفسي عندما كنت طفلاً بينما هو لن يفهمها أو لن يستطيع أن يلعب بها، بالتالي تركتها و إشتريت له شيء آخر أكثر ملائمة لسنه.
ربما كان هذا مثالاً بسيطاً و لكن الأمر ينطبق علي الكثير من الأشياء و القرارات التي يتخذها الأبوين في أثناء تربية الأبناء، هم يشبعون ما كان ينقصهم صغاراً، سواء في التعليم أو المعاملة أو اللعب أو أي شيء آخر، دون أن ينتبهوا إلي أن ما كانوا يحتاجونه ليس هو ما يحتاجه أبناؤهم. التفرقة بين ما يحتاجه الطفل و ما كان يحتاجه الأب أو الأم في طفولتهم يتطلب قدراً كبيراً من إدراك الذات و نقد النفس لدي الأبوين.
هناك نظرة تري أن حياة الإنسان سلسلة من التحديات و الأزمات و هناك إحتياجات معينة يحتاجها لكي يستطيع أن يتجاوز هذه التحديات. علي سبيل المثال أول هذه التحديات يكون عند الولادة، حيث يجرب الطفل فجأة الأضواء و الأصوات بعد أن كان في هدوء رحم أمه و ظلامه، هذه تجربة مرعبة و لكي يتجاوزها الطفل يحتاج لأن يشعر بالأمان، بأن يحتضنه االكبار و يربتوا عليه، أن يحرصوا علي أن لا يسمع أصواتاً عالية و صراخاً، أن لا يتعرض لضوء شديد السطوع مثل ضوء الشمس، الخ. هذه من المراحل الهامة و لها تأثير علي مدي شعور الطفل بالأمان عموماً في حياته.
يمكننا أن نتناقش في إحتياجات النمو و تغيرها مع العمر، لكن تبقي حقيقة أن المرء إن لم يشبع إحتياجاته بطريقة سليمة فإنه سيشبعها بطريقة غير سليمة. الإنسان الذي لا يجد ما يأكله يسرق الخبز لكنه لن يقف ليموت من الجوع. نفس الشيء يمكن أن يقال عن الإحتياجات النفسية، فالطفل الذي لا يشعر بالأمان مثلاً في مدرسته لأن المدرسين لا يحرصون علي إقامة نظام واضح راسخ في المدرسة يتجه لمصادقة و نفاق الأطفال الأقوياء ليكون في حمايتهم، و هو نفس ما يحدث للكبار أيضاً، الذين إن لم يجدوا في المجتمع نظاماً واضحاً لأخذ الحقوق إتجه كل منهم لأخذ الحقوق بوسيلته الخاصة، بالمال أو الرشوة أو تملق الأقوياء.
عموماً كل إحتياجات الإنسان تظهر في مرحلة معينة من الطفولة أو المراهقة و تظل معه حتي يموت، تختلف صورتها لكن تظل في أصلها ثابتة لا تتغير. الطفل الذي يحتاج أن يشعر بالأمان عن طريق الإحتضان و التلامس الجسدي، يكبر ليصير رجلاً يحتاج أن يشعر بالأمان من المجرمين و الأمان المادي (الذي توفره الدولة عن طريق برامج الرعاية الصحية و التأمينات و المعاشات، الخ). الإحتياج في أساسه يظل مدي الحياة لكن شكله يتغير مع العمر و النضج.
إشباع الإحتياجات هي أحد النقاط الاساسية في التربية، الطفل يخرج للمجتمع و يري الجميل و القبيح لكنه يظل مرتبطاً بما يشبع إحتياجاته النفسية، فإن كان البيت يشبع إحتياجاته النفسية فإن البيت يظل مرجعيته النفسية و الأخلاقية حتي و إن خرج بجسده للمجتمع الخارجي، لكن إن لم يشبع البيت إحتياجاته النفسية فإنه سيبحث عنها في أي مكان آخر.
القبول غير المشروط
أحد أهم إحتياجات الطفل هو الشعور بالقبول و الحب الغير مشروطين. أن يشعر أن أبيه و أمه يحبونه بغض النظر عن تفوقه الرياضي أو الدراسي أو حتي إلتزامه الأخلاقي.
من ضمن الأشياء المثيرة للإنتباه أن الله سبحانه و تعالي أسجد الملائكة لآدم دون أن يفعل شيئاً. فقط بمجرد خلقه. الله سبحانه و تعالي قال (ولقد كرمنا بني آدم) و لم يقدم مبرراً لهذا التكريم. بالمثل يحتاج الطفل أن يشعر أن مشاعر أبويه تجاهه غير مشروطة بأي سلوك أو أي تصرف.
هنا يأتي السؤال المنطقي: ماذا إن أساء؟ هل أشعره أني أحبه بينما هو يسيء؟ ماذا عن الثواب و العقاب إذا؟
من ضمن أساسيات العقوبة الدنيوية في الإسلام أنها لا علاقة لها بأنك إنسان خير أو شرير. الرسول عليه الصلاة و السلام غضب و إحمر وجهه حين إستنكر عمر بن الخطاب أن يصلي علي الغامدية التي زنت و قال إنها تابت توبة لو قسمت علي أهل المدينة لكفتهم. علي الرغم من هذا فإنه أقام عليها الحد.
من ضمن أساسيات التربية أنه حين يخطيء أبنك فإنك لا تعاقبه لأنه طفل سيء، بل تعاقبه لأنه طفل رائع و ما فعله لا يليق بالأطفال الرائعين. لابد أن يشعر الطفل أنك كأب حزين و متضايق و أنت تعاقبه مثلاً بالحرمان من نزهة أو لعبة بسبب خطأ إرتكبه، لا أن يشعر أن دافع سلوكك هو الغضب. العقوبة جزء من نظام أخلاقي و قيمي أكبر من الطفل و الأب (سنتكلم عن هذه النقطة لاحقاً)، لكنها ليست بسبب غضب الأب أو كرهه لإبنه. حين أخطأ آدم عليه السلام قال (ربنا ظلمنا أنفسنا). الكلام في القرآن متكرر عن أن من يعصي الله يظلم نفسه بتعريضها للعقاب لأن الأصل في الأمور أن الإنسان مكرم حتي إن أخطأ. لا يوجد أي شيء في الحياة يسمح بإهانة إنسان و الحط من كرامته، حتي عند إقامة العقوبة عليه، و لابد أن يتربي الإنسان علي أن يترفع عن المعاصي لأنها لا تليق به كشخص يحترم نفسه و يكرمها.
الأمر لا يتوقف هنا، بل إن العقوبة لابد أن تكون ثابتة و محددة ولا تمتد لأي شيء آخر. فلنفترض مثلاً أن الإبن لم يذاكر دروسه، و أنت كأب متفق معه علي أنه إن لم يذاكر اليوم فلن تكون هناك نزهة في آخر الأسبوع. هو لم يذاكر بالتالي يتم توقيع العقوبة المتفق عليها فقط، بالتالي أنت كأب تبتسم في وجهه، تمارس علاقتك المعتادة معه: تلعب معه علي الكمبيوتر أو تشاهد معه أفلاماً أو أي شيء آخر، و في نهاية الأسبوع لن تكون هناك نزهة. هذا ممكن أن يكون صعباً، نحن بشر في النهاية و من الصعب أن أبتسم في وجه إبني بينما هو إرتكب خطأ مثير للاعصاب (كسر شيئاً ثمينا بسبب إهمال مثلاً) و أكتفي بتوقيع العقوبة عليه فقط دون أي إضافة أخري من تجهم أو إبداء غضب، لكني أتكلم من منطلق أنصح نفسي و إياكم، و من منطلق أن نعرف السلوك الأمثل و نحاول أن نلتزم به قدر ما إستطعنا كبشر.
القبول الغير مشروط لا يعني أن لا يحتفي الأبوين بلحظات إنجازات الإبن، تفوق دراسي أو رياضي أو فني مثلاً، لكن لابد أن يشعر أن قيمته و مكانته في قلب أبويه ثابته بغض النظر عن ما أنجز في الحياة سواء كان هذا خيراً أم شراً.
القواعد و النظام
تجربة المشي من أهم التجارب تأثيراً في نفسية الطفل. قبلها لا يسطيع أن يتحرك من دون مساعدة الكبار، بعدها هو يستطيع أن يفعل أي شيء و كل شيء. هذا يعطيه شعوراً عميقاً بالقدرة لكن يتبعه بعدها شعور بالخوف من هذه القدرة. لا شعورياً يدرك الطفل بعدها أن هذه القدرة لابد لها من حدود بل و يجرب أن يكسر هذه الحدود كما سنشرح لاحقاً. بعدها بوقت قليل يأتي واحد من أهم التحديات النفسية في الطفولة و هو تحدي خروج الطفل للمجتمع: المرة الأولي التي يذهب فيها للمدرسة أو الحضانة. هناك يكتشف أن هناك الكثير من الأطفال، هناك من هو أجمل منه و هناك من هو أقوي منه و ينشأ هنا الخوف من أن لا يستطيع الطفل أن يعيش وسط هؤلاء الذين لابد أن يتفوق أحدهم عليه في شيء ما.
لهذا من أهم إحتياجات الطفل أن يشعر بأن هناك نظام ثابت، نظام أكبر من كل الناس، يتم تطبيقه علي الكبير و الصغير. النظام يمكن أن يكون مجموعة قواعد بسيطة من نوعية (من يسقط الطعام علي السجادة ينظفه). الطفل يحتاج لأن يري أبيه و أمه (أقوي و أقدر مخلوقين عرفهم حتي الآن) و هم ملتزمون بهذا النظام، يحتاج أن يري أبيه يسقط الطعام فتنبهه الأم فينظفه، أن يشعر أنه لا أحد فوق النظام و القواعد.
عندما يتعرف الطفل علي القواعد للمرة الأولي يجرب كثيراً أن يكسرها. إن قلت له أنه من الخطأ أن تقذف لعبك علي الأرض لكي لا تنكسر فإنه سيلقيها علي الأرض ثم ينظر لك ليري ماذا ستفعل. بعض الآباء يأخذ هذا علي أنه عصيان و سوء خلق إلخ، إلا أنه شغف من الطفل لإستكشاف حدود قدراته التي تضخمت فجأة بقدرته علي المشي. عندما تنظر له شذراً أو تجبره علي إلتقاط لعبته من علي الأرض أو أي شيء آخر يؤكد علي القواعد و النظام المتفق عليها فإنه قد يبكي و قد يعاند كثيراً إلا أنه في النهاية هذا الشعور بالنظام هو ما يسمح له بأن يحتك بالآخرين آمنا دون خوف.
وجود القدرة الخارقة المطلقة
يمثل الأبوين بديل للآلهة في نفسية الطفل. الطفل لا يتفهم أن هناك شيء لا يستطيع أبيه أو أمه القيام به. عندما يطلب طفل من أبيه أن يفعل شيئاً و يخبره أني (لا أسستطيع) فإنه يرفض الفكرة، يبدي غضبه، يصمت في تعجب أو يكرر طلبه بإلحاح مرة أخري.
بالتدريج مرة وراء أخري يعرف الطفل أن أبويه ليسا مطلقا القدرة كما كان يظن. هذا عموماً مدخل لفكرة الألوهية في نفسية الطفل، الطفل لا يتفهم فكرة الإله قبل أن يمر بصدمة أن أبيه و أمه ليسا خارقين.
خاتمة
يمكننا أن نتكلم كثيراً عن (تقنيات) التربية، كيف تتصرف عندما يفعل إبنك كذا، كيف تقوم إبنك السلوك الفلاني في الاطفال، لكن تظل هناك مباديء و أسس عامة تحكم سلوك الأب أو الأم و تنعكس علي كل كلمة و تصرف مع إبنهم أو بنتهم. حاولنا هنا في هذا المقال أن نشرح فكرة إشباع الإحتياجات و قدمنا مثال لبعض هذه الإحتياجات النفسية الأساسية لكن بالتأكيد هناك مجال للمزيد.