هذا مقال تم نشره علي موقع بوابة الشروق ثم تم حذفه بعد النشر بما يزيد عن أسبوع ضمن مجموعة مقالات لعدد من الشباب تم حذفها بقرار من رئيس التحرير بحجة أنه لم يراجعها شخصياً، في سابقة لم تحدث من قبل علي قدر علمي.
الرومان يتناقلون الخبر غير مصدقين. الصدمة، الغضب، الخوف والإهانة…. الكثير من الإهانة التي لم يشعر الرومان بمثلها عبر التاريخ.
أربعمائة جندي روماني تم إجبارهم على قتال بعضهم البعض في العاب يتقاتل فيها كل اثنان سوياً حتى يموت أحدهما. الألعاب التي كانت حكراً علي العبيد تم إجبار السادة على لعبها بينما وقف العبيد يشاهدون في نشوة. وسطهم يقف الشخص الذي أمر بهذه المعارك أن تقام وأشرف على تنفيذها: سبارتاكوس شخصياً.
********************
لم يكن الرومان يجيدون الفروسية والقتال من على صهوة الخيل. عًشر الجيش الروماني كان من الفرسان وكلهم لم يكونوا رومان بل كانوا من شعوب أخري احتلها الرومان وأجبر أهلها على آداء الخدمة العسكرية أو تم هذا بناء على معاهدات بين الرومان وهذه الشعوب.
من هؤلاء كان سبارتاكوس. لم يولد سبارتاكوس عبداً بل كان فارساً من ثريس (منطقة تقع اليوم ما بين بلغاريا، تركيا واليونان) قاتل في صفوف الجيش الروماني قبل أن يصير عبداً في ظروف غير معروفة (ربما هرب من الخدمة العسكرية وتم القبض عليه و بيعه كعبد عقاباً له).
تم بيع سبارتاكوس ونقله إلى كابيوا، المدينة الإيطالية الشهيرة بمدارس ومسارح قتال العبيد. تم تحويل سبارتاكوس إلى جلادياتور، عبد روماني يقاتل العبيد الآخرين في معارك عادة ما تنتهي بموت أحد المتقاتلين من أجل إمتاع السادة الرومان.
عادة ما كان ينظر للعبيد نظرة إستهجان واستحقار في الدولة الرومانية إلا أن الجلادياتور كان يعتبر عبداً ذا وضع خاص، وضع أقل حقارة من غيره. على مر التاريخ كانت ثورات العبيد تصدر من العبيد ذوي المرتبة الأعلى، سواء عقلياً أو إجتماعياً، ولم تكن ثورة سبارتاكوس إستثناءاً. قام سبارتاكوس وما يقرب من سبعين مقاتلاً بقتل الحراس والهروب وبدء أشهر ثورة عبيد في التاريخ.
كان الرومان يحرصون على أن يجعلوا العبيد المقاتلين بالذات من جنسيات وأعراق ولغات مختلفة لكي يصعب هذا من إتحادهم، هؤلاء عبيد خطرون يجيدون القتال ببراعة وليسوا كأي عبيد آخرين. لهذا كان العبيد الذين هربوا مع سبارتاكوس من ثريس والغال والكلت (من نعتبرهم اليوم بلغارياً، المانيا، فرنسا). لهذا تأثير سيظلل ثورة العبيد علي مدى تاريخها كله.
تدريجياً تنامي جيش سبارتاكوس من سبعين عبداً لما يقرب من ستين الفاً من العبيد. تقريباً أربعة بالمائة من العبيد في إيطاليا انضموا إليه، وهو رقم ضخم لو قارناهم بثورات العبيد الأخرى علي مر التاريخ.
في البداية لم يهتم الرومان بسبارتاكوس. القادة المهمين أمثال بومبي ومارك أنطونيو يقاتلون على جبهات أخري، وعموماً ليس هناك مجد عسكري في هزيمة مجموعة من العبيد، المجد في قتال الجيوش الحقيقية. إلا أن هذه الفكرة تغيرت تدريجياً مع كثرة الهزائم التي تلقاها الرومان من جيش العبيد.
منذ اللحظات الأولي للقتال كان واضحاً أن قتال سبارتاكوس في صفوف الرومان أكسبه الكثير من المعرفة بأساليب قتالهم وتفكيرهم. على مر التاريخ خرج من وسط الأجانب الذين قاتلوا كفرسان في الجيش الروماني عدد من أسوأ أعداء روما، لم يكن سبارتاكوس أولهم ولا آخرهم.
إعتمد سبارتاكوس أساليب حرب العصابات، الهجوم المباغت والقتال ثم الاختفاء، تتبع القادة الرومان والتسلل لمكان نومهم وقتلهم، القتال في أماكن صعبة جغرافياً تصعب على الرومان تكوين تشكيلاتهم الشهيرة ومربعاتهم القتالية، إستخدام معرفته وجنوده بالقتال السريع على صهوة الخيل واستغلال هذا أمام جيش الرومان الشهير ببطء حركته واعتماده بشكل أساسي على المشاة، الخ.
ولكن هناك مشكلة هامة. لم يكن للعبيد مرجعية أخلاقية أو فكرية. ما فعله العبيد علي مر سنتين كان الانتقال من مدينة لأخري، ينهبون ويقتلون ويرتكبون الفظائع ثم ينتقلون للمدينة التي تليها، وهكذا. حاول سبارتاكوس إثناؤهم عما يفعلون من فظائع إلا أنه لم يكن قائداً بالمعني المعروف للجيوش اليوم. الخلافات العرقية كان لها دور هام في هذا، ولكن هناك نقطة أخري هي طباع العبيد نفسهم التي لم تكن كطباع سبارتاكوس.
كان سبارتاكوس عملياً ذكياً يدرك قدراته. كان هدف سبارتاكوس هو أن يتجه بالعبيد شمالاً ليعبر بهم جبال الألب بحيث يخرجوا خارج سيطرة روما ويذهب كل منهم إلى بلده. كان سبارتاكوس يفهم روما ولهذا كان يعرف أن روما يمكنها أن تحتمل الهزيمة مرة واثنان وعشرة، المهم أن تنتصر في النهاية. لا أحد يهزم دولة ما لم تيأس هذه الدولة، ومن المستحيل أن تيأس روما على أرضها. على الرغم من انتصاراته فإنه كان يفهم أن انشغال الجيوش الكبيرة عامل لن يستمر كثيراً، وبسهولة ستجرد روما الكثير من القوة العددية والمسلحة تنظيماً جيداً وتأتي لقتاله.
بعكس سبارتاكوس كان العبيد يهدفون للسلب والنهب واجتذاب المزيد من العبيد من المدن التي يدخلونها وقتال روما بدون هدف معين. هم لا يستقرون في مدينة مثلاً ليبنوا تحصينات، هم فقط يقاتلون الرومان كلما جاؤا وتعمي الإنتصارات أعينهم وبريق الانتقام مما فعله بهم الرومان يغريهم مرة وراء أخري. هم لا يخافون الموت بل يفخرون بالموت في ساحة المعركة. هم لا يرون داعياً لعبور الألب والعودة لأوطانهم، الكثير منهم ولد بالفعل في العبودية ولا يرون داعياً لأن يتركوا الأراضي الروماني التي ترتع بالخيرات التي ينهبونها ويذهبوا لبلادهم ليبدأوا حياة لم يخططوا لها يوماً.
تسبب الخلاف حول السير تجاه الألب في انفصال الجيش إلي قسمين، قسم أغلبه من السلت والغال تحت قيادة أحد قادة العبيد يسمي كريكسوس، وقسم تحت قيادة سبارتاكوس. الاختلافات العرقية تضرخ منبئة بوجودها هنا. علم الرومان بهذا فأرسلوا جيشين هزم أحدهم كريكسوس واتجه الثاني لجيش سبارتاكوس. عرف سبارتاكوس بالهزيمة فالتفت إلي الجيش الذي هزم كريكسوس فهزمه ثم التفت إلي الجيش الثاني فهزمه أيضاً.
هنا قام سبارتاكوس بفعل هام ذو دلالة. جاء سبارتاكوس بأربعمائة جندي روماني أسير وأمرهم أن يتقاتلوا، كل إثنين سوياً في سلسلة من الألعاب أقيمت تكريماً لروح كريكسوس. كان هذا أسلوباً متبعاً في تكريم النبلاء الرومان وقد فعله سبارتاكوس. كان هذا حدثاً تاريخياً صادماً للرومان. بعد خمسة عشر عاماً من هذا الحدث، وصفه سيسرو، الخطيب الروماني الشهير، بانه لا يوجد شيء في الحياة أكثر تلوثاً وفساداً و عكساً للطبيعة من هذا الحدث.
ولكن هذا الحدث له دلالات أخري.
كان سبارتاكوس رومانياً أكثر من الرومان. كان يستخدم نفس أساليبهم في تكريم رجاله، يحمل الرموز والشارات العسكرية الرومانية - التي كانت لها الكثير من الوزن المعنوي والسياسي - التي أخذها منهم في المعارك ويسير بها. قبل إحدي المعارك صلب بيده جندي روماني أسير أمام أعين الجنود الرومانيين - وهي العقوبة المخصصة للعبيد، فالأحرار لا يصلبون في روما مهما كان جرمهم. كان يفهم جيشهم، يفهم سياستهم. حتى كونه عملياً لا يرغب في الموت بدون داعي مثل باقي رجاله كان يحمل طابعاً من التفكير الروماني.
لم يقدم سبارتاكوس نموذجاً فكرياً بديلاً. البعض يحلو له أن يصوره على أنه (محرر العبيد)، ولكن لم يكن تحرير العبيد رسالته. في الأراضي التي مر بها ونهبها، كان يهتم بالعبيد الذين يمكنهم القتال، الرعاة مثلاً، بينما ترك وراؤه العبيد القائمين بالأعمال الإدارية. بالتأكيد هو أكثر رقياً من باقي رجاله الذين لم يملأ رؤسهم شيء سوي القتل والسلب والنهب بدون خطة، ولكن لم يكن سبارتاكوس مختلفاً عن الرومان بما يكفي.
عموماً، كل القضايا الأخلاقية تحرك مشاعر الناس الذين إحتكوا بها ورأوها عن قرب، أو على الأقل تؤثر في بعضهم، ولكن لم يذكر أحد أن الرومان تعاطفوا مع قضية سبارتاكوس، لأنه لم يقدم نفسه على أنه مختلف فكرياً أو أخلاقياً عن الرومان بشكل جوهري. من تأثروا به هم من جاؤا بعده ونسجوا حوله الأساطير وضعوه في موضع (محرر العبيد) الذي لم يضعه هو لنفسه.
ربما لهذا كرهه الرومان وأعجبوا به وخافوه في نفس الوقت، لأنه كان مألوفاً. كان يهينهم بما يعتبرونه مهيناً، يكرم رجاله بنفس أسلوب تكريمهم لساداتهم، لا يقدس الموت في ميدان المعركة مثل باقي الغال والسلت، يفهم جيشهم وساستهم.
تحرك سبارتاكوس برجاله شمالاً حتى وصلوا جبال الألب. مرة أخري تمرد الرجال ورفضوا أن يعبروا الجبل. هنا قام سبارتاكوس بأحد أغرب وأكثر الأفعال نبلاً في التاريخ. لم يتركهم سبارتاكوس ويعبر الجبل بمفرده، كان يعرف أنهم ليس لهم قائد سواه. من غيره هم ضائعون وهو يعرف هذا. هو لا يريد قتال الرومان ويؤمن أن في هذا هزيمته إلا أنه في نفس الوقت لا يستطيع نفسياً التخلي عن رفاقه، لهذا عاد سبارتاكوس للجنوب ثانية في محاولة فاشلة للعبور إلي صقلية. فشلت المحاولة و قام سبارتاكوس بقتال الرومان مع رجاله في عدة معارك انتهت بالهزيمة التي جاءت بعد عشرات المعارك التي هزم فيها الرومان وانتصر فيها علي نصف دستة من القادة العسكريين. مات سبارتاكوس في معركته الأخيرة مع الرومان.
هنا يأتي المشهد الشهير في التاريخ وفي الفكر الإنساني عموماً. كراسوس، القائد الروماني المنتصر يصلب ستة آلاف عبد من رجال سبارتاكوس على جانبي الطريق المؤدي إلى روما. صلبهم حتى الموت وتركهم بعد الموت بمدة ليكونوا عبرة للجميع.
عموماً كل ثورات العبيد علي مر التاريخ لم تقدم أي نموذج فكري بديل، ولم تكن ثورة سبارتاكوس ورجاله إسثناءاً. من السهل أن تنتقد العبيد لأنهم لم يقدموا نموذجاً بديلاً للقتل والنهب والانتقام، لم يقدموا فكرة تخالف مبادي الدولة الرومانية ولم يهتموا حتى بفكرة (تحرير العبيد) كهدف أساسي. الكثيرون فعلوا هذا، لكن ما لم يفعله الكثيرون هو التساؤل عن السبب في هذا.
في أواخر التسعينات أصدر البنتاجون تقريراً يحاول أن يحدد فيه الأخطار التي تهدد أمريكا الآن بعد أن إنهار العدو الأكبر: الإتحاد السوفيتي. من ضمن الأخطار التي ذكرها التقرير كان خطر الإرهاب: اليابانيين في الجيش الأحمر والألمان في بادر ماينهوف والعرب في أيلول الأسود والمسلمين في تنظيم القاعدة وأخلاط من كل الأجناس في حزمة واحدة (جماعات كارلوس).
وصف التقرير الإرهابيين بأنهم “من أصحاب القضايا العادلة التي نزلت عليها أثقال العصر فكادت تطحنها” و أنهم “قوى رفض لأمر واقع فرضه الأقوياء”. بسبب ما تعرضوا له من ظلم فإن هؤلاء الناس “صاروا يعرفون ماذا يرفضون إلا أنهم لا يعرفون ماذا يريدون، تائهين في الماضي بغير عقل شاردين في المستقبل بغير روح”.
علي الرغم من أن التقرير يعترف ضمنياً بشكل واضح بمسئولية أمريكا عن الظلم الذي وقع علي هؤلاء إلا أنه ناقش فيما بعد كيفية يقضوا علي هؤلاء، و ليس كيفية إنهاء الظلم الأمريكي. التقرير كان يحلل هؤلاء و يعترف بالدور الأمريكي في تكوينهم علي سبيل الحياد العلمي و ليس علي سبيل المحاكمة الأخلاقية.
علي الرغم من أن وصف يعرفون ماذا يرفضون ولا يعرفون ماذا يريدون أستخدم لوصف الإرهابيين إلا أنه يصلح بشدة لوصف رجال سبارتاكوس كما يصلح لوصف حالنا اليوم.
الظلم يفسد النفوس و العقول، المظلوم يفقد تدريجياً القدرة النفسية و العقلية علي التحرك السليم، يفقد القدرة علي وضع هدف واضح يمكن الوصول إليه بخطوات محددة، يفقد القدرة علي بناء نموذج فكري و إنساني و أخلاقي يصلح كبديل لمن ظلمه و يفقد القدرة علي قراءة التاريخ و تحليل و فهم سلوك من ظلمه.هو فقط يرفض الظلم و يكره من ظلمه و يحاول أن ينتقم منه، و تدريجياً يعرف بالتحديد الأشياء التي يكرهها و الناس الذين يرفضهم، و لكنه يعجز أن يضع أي خطوات للتحرك للأمام بأي شكل فعال.
أنت لا تستطيع أن تقضي علي الظلم ما لم تضع نموذجاً أخلاقياً و فكرياً بديلاً، و في نفس الوقت من يستطيع أن يضع مثل هذا النموذج هو شخص لم يعاني من الظم و القهر. علي مر التاريخ، قلة قليلة من الناس هم من يتعرضون للظلم ثم يستطيعون أن يتجاوزوا (معرفة ما يرفضون) و ينتقلوا لما بعد، للتعلم من الماضي و وضع نموذج بديل للظلم و خطوات واضحة لتحقيق هذا النموذج.
و ما أحوجنا اليوم لمثل هؤلاء.