منذ بضعة أعوام حضرت محاضرة في أمن المعلومات الإلكترونية ألقاها خبير أمن معلومات بولندي و لم تكن لدي أدني فكرة عن أمن المعلومات قبل هذه المحاضرة. كانت هذه أحد أفضل المحاضرات التي حضرتها في حياتي. الرجل لخص تأمين المعلومات في ساعة و نصف. لم يكن أسلوبه هو ذكر المعلومة بل تكوين أسلوب تفكير لدي المستمعين. ما الذي يجب عليك أن تفكر فيه حين يحدثك أحدهم عن تأمين المعلومات؟ ما هي المعايير الهامة التي يجب أن تفكر فيها عند تقييم أساليب التشفير المختلفة؟ متي تطلب عون خبير تأمين معلومات و لماذا؟ ما هي الأخطاء القاتلة المتعلقة بمجال تأمين المعلومات و لماذا هي قاتلة و لماذا يقع فيها الكثير من الناس؟ ما هي الأشياء التي يجب عليك أن لا تفكير في القيام بها (مثلاً لا تفكر في أن تخترع أسلوب تشفير خاص بك). بإختصار المحاضرة ترسم لك أسلوب تفكير و منهج تسير عليه إن أردت أن تتعلم تأمين المعلومات بل و تلقي الضوء علي النقاط المعقدة التي تحتاج خبيراً ليقوم بها. هي لا تخبرك بكل ما يتعلق بالموضوع و لكنها ترسم خريطة ذهنية لكيفية التعامل مع هذا الفرع من العلم.
كانت هذه أول محاضرة أحضرها يركز فيها المحاضر علي تكوين أسلوب تفكير و قد جعلتني فيما بعد أتفهم لماذا تتشابه المناهج بين بعض المؤسسات التعليمية المصرية و تلك الأجنبية و علي الرغم من هذا قد تجد فارقاً ساحقاً في مستوي الطلبة هنا و هناك. منذ ذلك الحين و أنا أحاول حين أقرأ شيئاً أن أبحث عن المعلومة التي ستحدد أسلوب تفكيري و تعاملي مع الأمور و أترك المعلومات التي يمكن الحصول عليها من أي كتاب أو صفحة علي الإنترنت حين الحاجة لها.
والدتي طبيبة نساء و توليد و قد حكت لي أن في إمتحان الماجيستير جاء سؤال يقول (ما هي وسيلة منع الحمل المناسبة لإمرأة مريضة بالسكر). بعد الإمتحان فوجئت والدتي بأن معظم زملاؤها أجابوا إجابات من نوعية : الحبوب، الحقن، الخ. المشكلة أن كلمة (مريضة بالسكر) كلمة تحمل الكثير من الإحتمالات، فالسكر قد يكون وراثياً و قد لا يكون وراثياً، و شدة السكر و مدي إستجابته للعلاج تختلف، و مدي تأثير السكر في جسد المريضة يختلف من مريضة لأخري، و السن عامل يؤخذ في الإعتبار هنا. بالتالي مرض السكر يحتوي الكثير من المتغيرات و بناء علي هذه المتغيرات مجتمعة يحدد الطبيب وسيلة منع الحمل المناسبة و التي تختلف من حالة لأخري. إجابة سؤال كهذا لن تكون كلمة واحدة بل ستتكون من عدة صفحات.
هنا لم يفتقر الطلبة للمعلومات بل إفتقروا لأسلوب تفكير للتعامل مع الحالة. (السكر مرض يحتوي الكثير من المتغيرات التي تحدد وسيلة منع الحمل للمريضة به) هي حقيقة بسيطة للغاية لا تقارن بحجم المعلومات الذي حشره أولئك الطلبة في رؤوسهم قبل الإمتحان إلا أنه يمثل فارقاً جوهرياً في كيفية تعامل الطبيب مع المريض.
ملكة النقد
حاول عدد من علماء الإجتماع و علماء النفس و المؤسسات المدنية في فرنسا أن يجدوا حلاً لموجة العري و الإباحية التي تقدمها وسائل الإعلام للنشء. حين تحدثوا عن الحل قالوا أنه لا يمكن أن يكون الحل في منع هذه الأشياء لأن هذه الاشياء لا يمكن التحكم بها. لا يمكنك كأب أن تمنع إبنك من أن تسقط عليناه علي إعلان في الشارع، لابد أن تتسلل الأفلام و الفيديو كليب إلي عالم أبناؤك خاصة مع إنتشار الإنترنت و وسائل الإتصال و نقل البيانات المختلفة. الحل الذي إقترحوه و طبقوه كان تنمية ملكة النقد لدي الأطفال و المراهقين.
عند التعامل مع الأطفال قدم لهم المعلمون صوراً مختلفة و سألوهم ما الخطأ هنا. في البداية لم يعرف الأطفال ما المشكلة في الصور المقدمة لهم فشرح لهم المعلمون أن هذه الصور هي صور نساء يظهرن أجزاء من أجسادهن و هذا شيء سيء. مع التكرار صار الأطفال يصيحون عندما يلمحون صورة عارية أن هذه الصورة سيئة و بدأ المعلمون معهم نشاطاً لتلوين الأجزاء العارية من أجساد النساء بألوان الفلوماستر كنوع من التغطية لهذه الأجساد العارية. هنا صار لدي الأطفال مبدأ أن العري مرفوض و صاروا ينتقدون ما يلقيه إليهم الإعلام من صور بدلاً من قبولها كما هي.
مع المراهقين عقدت بعض المؤسسات المدنية لهم مؤتمراً قامت المحاضرة فيه بإظهار شرائح علي البروجكتور تضم كل شريحة منها صورتين، واحدة من هذه الصور مأخوذة من مجلة إباحية و الأخري من وسيلة إعلام عادية (فيديو كليب، إعلان تليفزيوني، الخ). علي الطلبة أن يحددوا أي الصورتين مأخوذة من إعلان عادي و أيهما مأخوذة من مجلات إباحية. هنا صدم الطلبة حين إكتشفوا أنهم لا يستطيعون تحديد الفارق بين الصور. تدريجياً إنحدرت وسائل الإعلام إلي درجة تقترب من المجلات الإباحية التي إن أباحها القانون إلا أنها تلاقي قدر من الرفض الإجتماعي و الأخلاقي. هنا صار الطلبة ينتقدون ما يلقي أليهم و يتنبهون للمنحدر الذي تسير فيه وسائل الإعلام الغربية بسرعة متزايدة.
المشكلة أن الإعلام بشكله الحالي يشجع علي ثقافة التلقي، فالتليفزيون الذي يفتحه المرء أثناء تناول الطعام أو الجريدة التي يقرأوها كل يوم في الطريق إلي العمل كلها أشياء تجعل القاريء أو المشاهد في موقف المتلقي بدون أن يقوم بالكثير من التفكير، بعكس الكتب مثلاً التي يبذل المرء مجهوداً للوصول لها من بحث في المكتبات و سؤال المعارف و الأصدقاء عن الكتب الجيدة التي قرأوها، الخ. بالتالي التليفزيون و الجريدة اليومية لا تشجع المشاهد أو القاريء كثيراً علي نقد ما يلقي إليه بل فقط هو يتلقاه كيفما كان.
تنمية ملكة النقد هي أحد أروع الأشياء التي يمكن أن يقدمها المرء لمن يربيه و للأسف هي نقطة غائبة عن العقلية العربية. طاعة الوالدين أو المعلم تستخدم في أحيان كثيرة كوسيلة لقتل ملكة النقد لدي النشء سواء قصد الأبوين ذلك أم لم يقصدوه.لم أر في حياتي الأب الذي يدرب إبنه علي التفكير، الذي يعلمه الفارق بين الرأي الشخصي و المباديء التي لا خلاف عليها (و هي مباديء الدين)، الأب الذي يلقي رأيه الشخصي علي إبنه ثم يعلمه أن ينتقد رأيه و يفكر فيما إن كان هذا الرأي صواباً أم لا، الأب الذي يرسم لإبنه أسلوب تفكير قائم علي ثوابت (و هي الدين و العلم) و متغيرات و هي كثيرة للغاية.
أحد أقاربي أب محبوب للغاية من أبناؤه و قد رباهم منذ الصغر علي فكرة أن كلية الهندسة هي أفضل كلية في الدنيا. بعد أن كبر أبناؤه الخمسة و دخلوا جميعاً كلية الهندسة و تخرجوا منها و في جلسة عائلية تحدثنا عما إذا كان دخول كلية الهندسة قراراً سليماً. قال الأب أنا لم أجبر أحداً علي شيء فردت عليه إبنته قائلة (أنت قولبت تفكيرنا علي كلية الهندسة بحيث لم تترك لنا خياراً). الأب لم يكن يقصد سوءاً، هو إستغل علاقته الجيدة بأبناؤه ليغرس فيهم الكثير من المباديء و من ضمنها مبدأ أن كلية الهندسة هي أفضل كلية في العالم. علي الرغم من أن الموضوع لم يحتوي شيء من الديكتاتورية الواضحة إلا أن هناك عبارة قرأتها تعبر عن هذا الموقف : (الأب هو الديكتاتور الذي يحكم أبناؤه بسلطان الحب). هنا الأب لم يربي في أبناؤه قدرة علي نقد أراؤه الشخصية بل فقط هو القاها إليهم و هم إعتنقوها بسبب حبهم العميق له.
أعترف أن الأمر شديد الصعوبة، أن يحافظ الأب علي علاقة هي مزيج من الحب و الإحترام و الثقة و الخوف و القدرة علي النقد لدي إبنه تجاهه إلا أني لم أر أحداً حاول و فشل، الفكرة ليست في أذهان معظم الناس أساساً.
النقد و التفكير في الدين
في الماضي حاولت حضور بعض الدروس الدينية في الفقه. كانت الدروس سطحية للأسف تلقي بعض الأحكام الفقهية علي آذان المستمعين. كان المحاضر يتبع أسلوباً في التدرج مع الحاضرين بحيث ينتقل الدارسين من درجة إلي التي تليها. كان يلقي علي الناس الأحكام الفقهية دون أن يخبرهم من أين أتت، و في الأحكام التي فيها خلاف بين الفقهاء كان يلقي الرأي الذي يعتقد هو بصحته دون أن يشرح لماذا. كان يقول أن طلبة المراحل الأولي ليست لديهم القدرة علي المقارنة بين الأحكام الفقهية و بالتالي ليس مسموحاً لهم أن يعرفوا لماذا يقتنع هو برأي دون آخر لذا هو يخبرهم بما يراه صواباً دون مناقشة. طلبة المراحل المتقدمة يمكنهم أن يكونوا أراؤهم الخاصة بناء علي ما يقرأون و يسمعون.
المشكلة أنه لم يكن يسير في طريق يمكن المرء من تكوين رأي فقهي سليم. في المرحلة الأولي (التي كنت فيها) كان يلقي علي أسماع الحاضرين أحكام تتعلق بأشياء عامة مثل الوضوء و الصلاة. هذه الأحكام إن لم يكن يعرف الكثير من الناس الأحكام الهامة منها فإنه يمكن الوصول لها من أي كتاب فقهي بسيط. لم تكن هذه بداية تؤدي لأن يتعلم المرء كيف يفكر في الفقه و كيف ينتقدوا أراؤه. الطريقة التي يسير عليها هي طريقة تراكم معلومات، بالتالي حتي طلبة المراحل المتقدمة لن يكونوا مؤهلين لأن يكونوا أراؤهم الفقهية بأنفسهم.
ما زاد الطين بلة أنه كان يقبل أي سؤال من أي نوع. كان الكثير من الأسئلة تتعلق بحالات خاصة لا يمكن أن تحدث لشخص عادي ولا تمثل سؤالاً حول مباديء فقهية معينة. علي سبيل المثال ذات مرة سأله أحدهم (هل يجوز دخول الحمام بدون شبشب). هذا سؤال من مئات الأسئلة المشابهة المثيرة للأعصاب و المريع أن المحاضر كان يجيب علي هذه الأسئلة. هذه الأسئلة لا أهمية لها في ذاتها (فلا توجد أزمة نقص شباشب في مصر) و هي أسئلة لن تساعد من سألها علي تكوين أسلوب تفكير في المسائل الفقهية. علي الرغم من هذا لم يكن المحاضر يرفض سؤالاً، و لم يكن ينبه أي شخص أن هذا سؤال لا فائدة منه و لا معني. هذا المحاضر كان خريج كلية الهندسة و معظم الطلبة الذين كانوا في هذه الدروس كانوا معي في الكلية (هندسة عين شمس). هؤلاء هم من يفترض فيهم أنهم عقليات مفكرة. بالطبع بعد محاضرتين لم أستطع الإستمرار في هذا الهراء حفاظاً علي وقتي و أعصابي.
في واحدة من المحاضرتين حكي هذا المحاضر عن أنه حين كان طالباً لم يكن أهله يسمحون له بالتأخر خارج البيت مهما كانت المبررات. بالطبع بالنسبة لطالب الهندسة لابد من ان يتأخر المرء لحضور معمل أجهزته (مفوتة) لأنها في الكلية منذ الستينات و علي الرغم من هذا لا تلغي الكلية المعمل لأن (اللايحة كده) أو محاضرة رأي دكتور أنه سينقل فيها خلاصة العلم و الحكمة التي يحملها إلي الطلبة لذا لابد أن يلقيها حتي لو الساعة التاسعة مساءاً لأنه لا توجد مدرجات خالية و هو قد إستنفذ محاضراته. لذا ذات مرة تأخر صاحبنا و في طريق العودة إلي البيت كان يحمل هم العقاب الذي سيتلقاه حين يدخل من باب البيت. حين دخل إلي البيت إكتشف أن أهل البيت جميعاً مشغولون بالبحث عن فأر إختفي بعد أن لمحه أحدهم لذا لم ينتبه أحد لعودته متأخراً و مر الأمر في سلام.
في رأيي أن هذه التنشئة، التنشئة التي لا تقبل من طالب في الكلية التأخير قليلاً خارج البيت حتي لو كان التأخير بسبب الكلية و لا تقبل مناقشة أو أعذار هي التي أدت إلي عقلية أن الكبار علي صواب دائماً التي إتبعها هذا المحاضر مع الطلبة. ما دمت صغيراً فليس لك رأي و ليست لك القدرة علي تكوين رأي، و حين تكبر يمكنك أن يكون لك رأيك الخاص. تكوين أسلوب تفكير و نقد أسلوب الغير شيء ينطوي علي الكثير من الديمقراطية التي تفتقر لها الأسر و نظم التعليم و التربية العربية.
فيما بعد قرأت للشيخ القرضاوي الصفات التي يجب توافرها في الفقيه و كان منها فهمه للغة العربية و الأدب و الشعر العربي خاصة لغة العرب القديمة لأنها اللغة التي أنزل بها القرآن. بعدها قرأت أن بعض المفسرين لم يفهموا بعض الفاظ القرآن إلا من مواقف إحتكوا فيها بأعراب و سمعوا لفظاً قرآنياً يستخدمه العرب ففهموا معني اللفظ. هذه نقطة فارقة كفيلة بأن لا تجعلني أصلح فقيهاً أبداً و تساهم في رسم حدود قدراتي في هذا المجال، لأني لا أحب اللغة العربية و لا أفهم لغة العرب القديمة و لا أطيق الشعر العربي بأي شكل من الأشكال. علي الرغم من هذا فإن هذه نقطة تجعلني حين أسمع رأياً فقهياً مبنياً علي آية فيها لفظ غريب أتساءل هل فهم من ألقي بهذا الرأي هذه الآية فهماً سليماً؟ يمكنني هنا أن أبحث عن تفسير هذه الآية في أكثر من كتاب تفسير و ما وراء هذه اللفظ لأتأكد من هذه الرأي الفقهي الذي سمعته. بإختصار، نقطة فهم لغة العرب القديمة عامل يساعد في تكوين أسلوب تفكير في بناء الآراء الفقية و تلقيها و قبولها (و بالطبع ليس هو العامل الوحيد).
بالطبع الأمر يحتاج إلي توازن حتي لا نقع في الإفراط أو التفريط، التفريط الذي قد يؤدي إلي نوع من الكهنوت يتولي الفهم و التفسير فيه قلة من الناس بينما يتلقي الآخرون ما يلقي إليهم بدون تفكير، و الإفراط الذي قد يؤدي إلي ما يحدث كثيراً من اشخاص متحمسين قرأ كل منهم بضعة كتب فظن نفسه فقيه الغبراء و خرج ليعارض كل ما إتفق عليه القدماء و المحدثين و لسان حاله يقول مثل أبي العلاء المعري :
إني و إن كنت الآخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل
مرة أخري أنا أركز علي تكوين أسلوب تفكير و مدي أهمية هذه النقطة التي تفوق أهمية حفظ بضعة معلومات يمكن لأي شخص محدود الذكاء أن يجدها بسهولة علي الإنترنت أو في الكتب.