أحد المفاهيم الأساسية التي تعلمتها في بداية معرفتي بعلم هندسة البرمجيات كان مفهوم (الأخطاء الكلاسيكية). هي أخطاء تتكرر علي مر السنين و هي أخطاء مغرية، أفعال تبدو للنظرة الأولي بديهية و منطقية إلا أنه بعد شيء من التفكير العميق و قراءة تاريخ مشروعات البرمجيات - إن كان يمكن إستخدام كلمة تاريخ عند الحديث عن علم وليد مثل علم البرمجيات - تكتشف أن هذه الأفعال هي أخطاء كارثية.
أحد هذه الأخطاء علي سبيل المثال هو زيادة عدد المبرمجين عندما يتأخر المشروع عن الوقت المحدد لإنهاؤه. الأمر يبدو بديهي تماماً، زيادة عدد المبرمجين تعني زيادة الإنتاج مما يؤدي إلي تقليل الوقت المطلوب للإنتهاء من المشروع و تدارك تأخره عن الموعد المحدد لإنهاؤه. المشكلة أن البرمجة نشاط يحتاج الكثير من التواصل بين المبرمجين، لا يمكن أن يقوم كل بواجبه بشكل منفصل بل لابد من الكثير من التواصل بين المبرمجين لكي يكتب كل منهم جزء من كود البرنامج يتعامل مع الكود الذي كتبه زملاؤه. عبء التواصل يزيد بشكل أسّي exponential مع زيادة عدد المبرمجين، أي أن عبء التواصل المطلوب في فريق من سبع مبرمجين أكثر من ضعف عبء التواصل في فريق من خمس مبرمجين.
بالتالي زيادة عدد المبرمجين عندما يتأخر المشروع هو نوع من سكب البنزين علي النار المشتعلة بالفعل.
هذه الفكرة عرفت لأول مرة عام 1975 و حتي اليوم يقع فيها عدد محترم من مديري المشروعات. الكتاب الذي عرفت عن طريقه فكرة (الأخطاء الكلاسيكية) كان يضم 32 خطئاً كلاسيكياً في صناعة البرمجيات.
لفترة ظللت أفكر في الموضوع في نطاق أدارة مشروعات البرمجيات، و لكن تدريجياً إنتبهت لأنها مشكلة بشرية عامة. لو تتبعت التاريخ لوجدت الكثير من الأفعال التي تبدو بديهية منطقية إلا أن بعض التدقيق و الكثير من قراءة التاريخ يخبرونك أنها كارثية.
اليوم يتحدث الناس عن الإصلاحات الإقتصادية، و عن ما إن كانت زيادة الضرائب و رفع الدعم ستؤديان إلي المزيد من الإنتعاش الإقتصادي، و علي من يجب أن تفرض الضرائب، و هل تفرض في شرائح أم لا، الخ، و هي مناقشات تظهر فيها آراء رأسمالية و إشتراكية و مقارنات بأمريكا و أوروبا، الخ. في رأيي أن الأمر ليس له علاقة بالمال في المقام الأول.
عندما كنت في المرحلة الإعدادية صدرت دراسة قدرت أن ما يزيد عن 25 بالمائة من سعر أي سلعة في مصر يدفع في الفساد، الرشاوي و التكاليف التي تدفع في غير موضعها لكي يمرر الموظف السلعة أو الخدمة أو يسمح بإدارة المصنع، الخ. لا أعرف ما إن كانت هذه النسبة قد إرتفعت اليوم أم لا.
و لكن الفساد لا يتوقف عند الفساد المالي. جوجل لها مراكز برمجة في الكثير من دول العالم، و لكن في مصر هي تكتفي فقط بالمبيعات. لا يوجد سطر كود يكتب في جوجل مصر، بينما في دول نامية مثل البرازيل فإن جوجل لها مركز برمجة. لماذا لا تفتح جوجل مراكز برمجيات في مصر؟ لأنها لا تجد كم كافي من الكفاءات العلمية لتعينهم في بلد مثل مصر. في رأيك، كم كان يمكن أن يعود علي مصر من أموال لو كانت لجوجل و الشركات المماثلة فروع برمجة و إنتاج في مصر بدلاً من الإكتفاء بفروع المبيعات؟ أنا أتكلم عن مجالي و لكن الصورة مماثلة في المجالات الأخري، أحد الأسباب الرئيسية لتقليص الشركات الكبري نشاطها في مصر هو قلة الكفاءات العلمية.
عندما كنت طالباً في الكلية، و في تصنيف يقيس الجامعات بناء علي كمية الأبحاث العلمية الصادرة عن الجامعة و المنشورة في دوريات علمية محترمة، و مناهج التدريس في الجامعة، و عدد الأساتذة ذوي الحيثية العلمية في مجال تخصصهم، كان ترتيب جامعة عين شمس 7076 علي مستوي العالم. نعم أنت لم تخطيء قراءة الرقم: 7076. كلما تحدث أحدهم عن إصلاح التعليم يتحدث عن مرتبات أساتذة الجامعة و ميزانية الجامعة، الخ. بعد الثورة تضاعفت مرتبات أعضاء هيئة التدريس في مصر، فهل تظن أن ترتيب جامعة عين شمس علي مستوي جامعات العالم تغير؟
دائماً ما كنت أقول أن مشكلة التعليم الجامعي في مصر ليست في نقص المال. بنفس ميزانيتها المتواضعة يمكن أن يتضاعف مستوي جامعة عين شمس عشر مرات، فقط إن تواري الفساد في المنظومة التعليمية. هذا لن يجعل من جامعة عين شمس MIT، بل ستظل الجامعة رقم سبعمائة مثلاً علي مستوي جامعات العالم، و قتها يمكن أن نتكلم عن المال و لكن ليس قبل هذا. و لكن ما حدث هو أنه تم ضخ المال في منظومة تعليمية تخلو من المعلم و المتعلم. الأستاذ الجامعي لم يصر أستاذاً جامعياً لعشقه للعلم و البحث أو التدريس، و الطالب لم يدخل الجامعة لأنه يعشق مجاله، كلاهما باحث عن الوجاهة الإجتماعية. الأستاذ الجامعي يترقي ليصبح عميد و رئيس جامعة بناء علي رضا الأمن عنه و ليس بناء علي قدرته علي إدارة منظومة بحثية أو تعليمية. بالتالي ظلت الجامعة و ستظل علي نفس مستواها المتردي إن لم تنحدر أكثر و أكثر، و سيظل إلقاء المال فيها لا يختلف عن إلقاؤه في البحر.
أحد الأخطاء الكلاسيكية في الفكر البشري عموماً هو ظن الناس أن الفساد مرتبط فقط بالمال، و التنمية مرتبطة بالمال. من يسرق فهو فاسد، و حل مشكلاتنا هو أن تكون لدينا أموال ننفقها علي المستشفيات و المدارس و إنشاء الطرق الخ. لا أحد يفكر في العقليات و الضمائر التي ستنفق هذا المال، ولا أحد يظن أن مفهوم الفساد أوسع من الفساد المالي. ربما لهذا يري البعض أن عبد الناصر ليس فاساداً مثل السادات، لأن عبد الناصر مات فقيراً.
لغوياً الفساد عكسه الصلاح، و لكن ما معني أن يكون الرجل صالحاً؟ صالحاً لماذا؟
الرجل الصالح هو الصالح لعمارة الأرض، بمعني أنه عنده القدرة العقلية و العلمية و عنده الضمير اليقظ. في مصر، كلما سرت في شارع متآكل الأسفلت تقفز لرأسي فكرة أن هناك شخص ما يمكنه أن يدير شركة المقاولات أو هيئة الطرق أو المؤسسة المسئولة عن تمهيد هذا الطريق، و هذا الشخص لم يصل لمنصب الإدارة. المواهب و الكفاءات موجودة في كل مجتمع و كل دولة و لكن السؤال هو هل تصل هذه الكفاءات للمناصب التي تستحقها؟ قس هذا علي المستشفيات، المصالح الحكومية، الهيئات التعليمية، الخ.
كون عبد الناصر لم يهتم بتكوين ثروة لا يجعله صالحاً، هو لم يبحث يوماً عن أن يصل ذوو الكفاءة للمناصب الهامة بل إهتم بأن يحصل رجال الجيش و المواليين للسلطة علي المناصب و السلطات المطلقة. كون السادات كان فاسد مالياً و إهتم برجال الأعمال فإن هذا يجعله في رأيي شخص نقل الفساد من أشخاص لأشخاص آخرين، و من صورة إلي صورة أخري، و لكن هذا لا يجعل عبد الناصر شخصاً نظيفاً. لو لم يكن عبد الناصر فاسداً لما ترك مصر علي الحال التي تركها عليها.
فصيلة دمي نادرة، لهذا أتبرع بالدم كلما أستطعت. منذ أيام إتصلت بي إحدي الجمعيات الخيرية التي سجلت عندهم بياناتي و فصيلة دمي ليخبروني أن هناك مريضة تحتاج دم في مستشفي الحسين الجامعي. ذهبت للمستشفي، دخلت من الباب الرئيسي، و أول ما قابلني كان طواريء النساء و الولادة. الكثير من الناس يفترشون الأرض أمام باب الطواريء، غالباً جاؤا مرافقين لذويهم من المرضي. علي الرغم من أني متوقع ما سأري من بؤس و فقر و مرض (لا أحد يذهب اليوم إلي المشتفيات الحكومية إلا هؤلاء) إلا أن المشهد كان مؤلماً. تحركت بإتجاه بنك الدم فواجهتني لافتتين عريضتين علي مبني المستشفي. الأولي فيها تهنئة من قسم أمراض الأنف و الأذن و الحنجرة للسيد الدكتور فلان الفلاني (نسيت الإسم) بمناسبة أنه صار مديراً للمستشفي. الثانية كانت تهنئة للسيد الدكتور فلان الفلاني (نسيت إسمه أيضاً) بمناسبة أنه صار مدير مستشفيات جامعة الأزهر.
توقفت أمام اللافتتين لثواني و الفكرة التي تسيطر علي ذهني أن هؤلاء مسئولين عن أولئك. هؤلاء الذين تعلموا أن الحياة تسير بالنفاق و المجاملات، الذين يعرفون أهمية تهنئة السيد مدير المستشفي في أن يصيروا هم أنفسهم مديرين يوماً ما، هم المسئولون عن هؤلاء الفقراء. لا تحدثني عن قلة الموارد المالية، هؤلاء لم يأتوا ليديروا مستشفي ولا ينامون و هم يحملون هم المرضي الذين لم يتمكنوا من علاجهم علي الوجه الأمثل، هؤلاء يفكرون في أشياء أخري و يحلمون بأشياء أخري. إنتزعت نفسي من أفكاري لأن هناك مريضة في الإنتظار و توجهت إلي بنك الدم.
بالطبع منظري بمظهري و ثيابي وسط هذه المستشفي لا يختلف عن مشهد كائن أخضر كائن من المريخ يسير في الشارع. يكاد مظهري يصرخ أني لا أنتمي هنا. أمام بنك الدم كلمت شقيقة المريضة و أخبرتها أني في إنتظارها. بالطبع أثار مظهري إستغراب العاملين فسألوني عن من أكون و لماذا جئت. أجبتهم و أنا أري في أعينهم نظرة إحترام و إستغراب في نفس الوقت. جاءت شقيقة المريضة هي و إمرأة أخري، سيدتان تشف ثيابهما عن ضيق الحال و تواضع المستوي، و سمعت إحداهما تقول للأخري (هو ده؟ هو كان إسمه إيه؟). تجرجران أقدامهما مترددتان في الإقتراب مني و الكلام معي. قمت لهما و بدأتهما بالكلام و عرفت نفسي.
بعد أن تبرعت بالدم جاؤا ليشكروني و قدمت لي إحداهما ورقة تم طيها بالطول عدة مرات حتي صارت رفيعة مثل السيجارة. دققت فيها فوجدت أنها ورقة بعشر جنيهات!
أكثر من مرة قرأت كتابات لأطباء يتكلمون عن المريض الذي أهداهم قرطاس لب أو دس خمسة جنيهات في جيبهم، و ربما ضحكت وقتها علي الأمر و لكن حين حدث الموقف معي فإن شعوراً شديداً بالشفقة و الخجل و الضيق غمرني، الضيق من أن هناك من يمثل أكبر ما يمكن أن يشكرني و يهاديني به ورقة بعشرة جنيهات. إعتذرت عن قبول الورقة و شكرتها و دعوت للمريضة و إنصرفت، و لم أنسي أن ألقي نظرة علي لافتات التهنئة للسيد مدير المستشفي و السيد مدير مستشفيات جامعة الأزهر.
اليوم الحديث عن السياسات المالية هو حديث غير ذو معني. أيا ما كانت وجهة نظرك و سواء كنت إشتراكيا أو رأسمالياً فقبل مناقشة السياسة المالية فلنتسائل عن من سيطبقها، هل هو صالح؟ هل هو شخص ذو ضمير يجيد ما يفعله؟ مرسي كانت له نفس النظرة السطحية العامة المنتشرة لدي معظم الناس، فبدلاً من القضاء علي منظومة الفساد في البلاد إعتمد أسلوب (كله بالحنية بيفك) و إستغل نفس الأشخاص الفاسدين من رجال الدولة و رجال الأعمال لتطبيق بعض الإصلاحات الشكلية مثل زيادة مرتبات أساتذة الجامعات و ظن أن هذا كافي. بالطبع السيسي أيضاً لن يقضي علي الفساد لأنه خرج من منظومة فساد مبارك - بالتأكيد لم يكن مبارك فاسداً بينما كان مدير مخابراته يفرش سجادة الصلاة يومياً و يدعو له بالهداية - و بالتأكيد لا أحد في الدنيا يقضي علي المنظومة التي أفرزته و ساهمت في وصوله للمناصب العليا.
التفكير في الفساد في إطار الفساد المالي فقط و الظن أن حل كل المشاكل في توفير المال نموذج للأخطاء الكلاسيكية البشرية، الأفكار المغرية التي تبدو بديهية و منطقية إلا أنه علي مر التاريخ ثبت أكثر من مرة أنها تؤدي لكوارث. قبل أن نفكر في كيف نجمع المال و ننفقه علينا أن نسال أنفسنا : من الذي سينفقه؟